تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتحديات المجتمع الرقمي

إسماعيل الموساوي


لا أحد ينكر التطورات الأخيرة السريعة التي شهدتها العقود الأخيرة على المستوى التقني والمعرفي التي غيرت حياة الفرد والجماعة، من خلال ثورة المعلومات وتقنياتها وتطبيق تقنياتها داخل المجتمع تخطى الزمان والمكان، حيث تم نقل الصورة والصوت معاً وبشكل تلقائي عن طريق الأقمار الاصطناعية وشبكتها المجهزة بالحاسوب، وأصبح بالإمكان التواصل مع أي شخص في أي وقت وفي أي مكان حول العالم بشكل فعّال وفوري، وكما يقول ليونار في كتابه شرط ما بعد الحداثة "المعرفة بصفتها سلعة معلوماتية لا غنى عنها للقوة الإنتاجية، قد أصبحت وستظل من أهم مجالات التنافس العالمي من أجل إحراز القوة، ويبدو من غير المستبعد أن تدخل دول العالم في حرب من أجل السيطرة على المعلومات كما حاربت في الماضي من أجل السيطرة على المستعمرات"، فلقد أصبحت المجتمعات مع الثورة المعلوماتية تعتمد بشكل كبير على المعلومات من خلال السيطرة على إنتاج المعلومات لإشباع فهمها المعرفي وحاجاتها الثقافية، فالدور الهائل الذي أصبحت تحتله المعلومات جعل من التقنية مصدراً أساسياً للقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، فلقد أصبحت تقنية المعلومات أداة رئيسة للفعل السياسي الموجه نحو السيطرة والتوجيه الإعلامي والتربوي.


فالتحولات التي شهدها القرن العشرين استطاعت أن ترفع الحواجز وتقرب المسافات إلى حد جعل العالم قرية صغيرة تمتد بشبكة معقدة من الاتصالات، وتولد مع هذه التقنية مفاهيم جديدة من بينها:
 

أولاً: تقنية الاتصال السريع وصناعة المعلومات

إن ما يميز عصرنا الحالي هو ظهور المعلوماتية القائمة على تطور تقنيات الاتصال وسرعتها "بحيث أصبحت لها السلطة في صناعة الأحداث وبناء السياسات، وإسقاط الأنظمة والتأثير على الاقتصاد وانهياره، والتهام الثقافات وصناعة العقول". إن الاتصالات التي هي عصب عصر المعلومات وعملية الاتصال تتطلب في الأساس مُرسِلاً ومُرسَلًا إليه وقناة اتصال، ومن شأن اعتماد وسائل الاتصال البالغة السرعة أن تجعل المعلومات تنتقل عبر قناة الاتصال في فترة وجيزة جداً، تؤدي إلى وضع المرسل والمرسل إليه وجهاً لوجه وبالتالي انهيار عوامة المعلومات، التي عرفها المختصون بأنها الوقت الذي تستغرقه المعلومات في قناة الاتصال. إن ثورة المعلومات فتحت آفاقاً واسعة للعثور على رؤى جديدة عجز عنها السابقون لافتقادهم لتلك التقنيات الاتصالية، التي أصبحت تسهل أعمال المستخدم ورفاهيته، بل إنها تصنع له ثقافته الخاصة وسلوكاته بما فيها ذوقه في مختلف مناحي الحياة.

ثانياً: اقتصاد قائم على المعلوماتية

من مظاهر الثورة الرقمية والمعلوماتية في المجتمع ظهور نظام اقتصادي جديد يعتمد أساساً على المعرفة البشرية، وليس على القوة البدنية والآلات الصناعية والواد الخام كما هو الأمر في الاقتصاد السابق، "بل أصبح اليوم مسيراً بواسطة الماكينة المعلوماتية، فالمجتمع المعلوماتي تزداد قيمة الشيء بالمعرفة لا بالجهد"، فلم يعد العمل كأساس للقيمة بل أصبحنا اليوم أمام نظرية أساس للقيمة، ولهذا استنتج العالم الاقتصادي الأمريكي إدوارد دينسيون "أن النمو الاقتصادي الأمريكي نتج من تقدم معارف القوة العاملة، ورفع مستوى قدراتها من التصنيع إلى صناعة التفكير"؛ لأن المجتمع المعلوماتي هو حقيقة اقتصادية وليس تجريداً فكرياً، فالمعرفة مع الاقتصاد الجيد هي سلاح في معارك الربح والإنتاج، فاختلفت عناصر الاقتصاد السابق عن الاقتصاد الحالي الذي أصبح يعتمد بشكل كبير على الذكاء والمعلومة، ومقدار الإنتاج والربح يعتمد بشكل كبير على المستوى النوعي والكمي لتوظيف المعلومات، لذلك فالاقتصاد الجديد يتطلب عمالاً أذكياء أيضاً، فإن وحدات من العمال الأقوياء تخلي المكان تدريجيا لأعداد قليلة من العمال يكتسبون مهارة التخصص وأيضاً للآلات الذكية، فالمحرك الاقتصادي العالمي الجديد تتحكم فيه بشكل كبير صناعات الأنفوميديا، أو ما يطلق عليه (بالوسائط المعلوماتية)، وهي تنحصر في الحواسب الآلية والاتصالات والألكترونات الاستهلاكية، وهذه الصناعات هي أكبر الصناعات العالمية الحالية الأكثر دينامية ونموا، حيث يبلغ رأس مالها 3 تريليون دولار، بالإضافة إلى ما تحققه صناعة المعلومات من أرباح اقتصادية في مجالات إنتاجية أخرى.

تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتحديات المجتمع الرقمي

بدأ البحث في مجال ما يسمى اليوم بـ"الذكاء الاصطناعي" Artificail Intelligence في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي نتيجة الأبحاث التي جاءت بها الثورة المعرفية، في عدة مجالات كعلم النفس وعلم الأعصاب، والأنثروبولوجيا وفلسفة العقل وعلم الكمبيوتر، التي حاولت "تجاوز النموذج السلوكي المبسط في دراسة العقل والقائم على مجرد الربط بين المثير والاستجابة إلى نموذج معرفي يهدف إلى دراسة الميكانيزمات الداخلية لعمل أي نظام لمعالجة المعلومات، سواء كان هذا النظام إنسانياً أم آلياً"؛ لأن السلوكية كما هو متعارف عليه ادعت استحالة القيام بدراسة علمية دقيقة للعقل البشري واصفةً إياه بـ"العلبة السوداء"، فالسلوكية كانت تفسر السلوكيات البشرية بـ"الاستناد إلى معيار المثير والاستجابة"، وفشلت في الوقت نفسه في تفسير السلوكيات الأكثر تعقيداً ودقةً مثل: التفكير المجرد والإبداع والقدرة على حل المشاكل المعقدة وأخذ القرار وغيرها.

انطلق الذكاء الاصطناعي في البدايات بطموح يسعى جاهداً إلى فهم الأسس الحاسوبية اللازمة "لإنتاج آلة تسلك على نحو ذكي، فهو يهدف في نهاية المطاف إلى بناء أنظمة تتسم بالذكاء والقدرة على التعلم"، إلا أن هذا الطموح واجهته مجموعة من التحديات والإشكالات العلمية والفلسفية من قبيل أنه لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصل إلى درجة الذكاء البشري، الأمر الذي سيدفعنا إلى طرح الإشكالات التالية التي سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال وهي: هل يمكن للآلة أن تفكر؟ وهل يمكن وصف الآلات بكونها تتصف بذكاء شبيه بالذكاء البشري؟ وما طبيعة الذكاء الآلي؟ هل يصح وصف الذكاء الآلي بكونه ذكاء شبيهاً بالذكاء البشري؟ أم أن الذكاء البشري ذكاء مختلف ومتميز ومن نوع آخر؟
 

أولاً: هل يمكن أن تتسم الآلة بذكاء يشبه الذكاء البشري؟

إن الجواب عن هذا السؤال سيدفعنا حتماً إلى عقد مقارنة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، ولكن قبل ذلك لا بد من توضيح أن هناك اتجاهين داخل مجال الذكاء الاصطناعي، كل واحد منهما له قول في موضوع الذكاء، وأول من اعتمد هذا التقسيم داخل مجال الذكاء الاصطناعي هو الفيلسوف الأمريكي جون سيرل Searle John في إحدى أعماله المعنونة بـ"العقل والمخ والبرامج" الذي نشره 1980، الذي يقسم فيه مجالات الذكاء الاصطناعي إلى قسمين وهما:

الاتجاه الأول: الذكاء الاصطناعي القوي Strong Al

ينطلق هذا الاتجاه من قناعة قوامها أن الآلة هي نفسها تشكل عقلاً Mind يتسم بالذكاء، وبالتالي فإن هذا الاتجاه يفترض نوعاً من التماثل بين كيفية عمل المخ وعمل الكمبيوتر؛ لأن هذا الأخير هو مجرد جهاز كمبيوتر في غاية التعقيد أما العقل عندهم هو مجرد برنامج، فإذا كانت معالجة المعلومات الآلية في الكمبيوتر تعتمد على كل من المكونات الصلبة Hardware والمكونات اللينة أو البرنامج، وعلى هذا الأساس، فإن الشكل البيولوجي للمخ الإنساني هو فقط أحد الأشكال الفيزيقية، ويدافع أيضاً هذا الاتجاه على أن الآلة يمكن أن تكتسب القدرة على الشعور والانفعال، وتنحصر غالباً أبحاث هذا الاتجاه في الساحل الشرقي للولايات المتحدة في كل من معهد ماساتشوستس للتكنولوحيا وجامعة كارنيغي ميلون.

الاتجاه الثاني: الذكاء الاصطناعي الضعيف Weak Al

ينطلق رواد اتجاه الذكاء الاصطناعي الضعيف من افتراض مفاده لا يعتقد من خلاله أن الآلة قد تستطيع أن تمتلك ذكاءً حقيقياً، بل يقف عند افتراض أن الآلهة قد تتصرف بطريقة تتسم بالذكاء إلا أن ذكاء الآلة حسب رواد هذا الاتجاه محدود بمجال معين، بالرغم من أن رواد هذا الاتجاه استطاعوا أن يبنوا أجهزة أكثر تطوراً وقدرةً من المخ البشري على تخزين ومعالجة الموضوعات إلا أنها تظل مجرد آلات وليست عقولاً؛ بمعنى أنها وسائل تستعمل لتأدية أغراض معينة، ولكنها لا تكتسب استقلالاً أو وعياً ذاتياً يمكنها أن تكون صورة إلكترونية للعقل، كما أن المخ هو الصورة البيولوجية للعقل له، وترتكز أبحاث هذا الاتجاه في الساحل الغربي من الولايات المتحدة وخاصة في جامعة ستانفورد.
 

ثانياً: العقل والذكاء البشريين من خلال حجة "الغرفة الصينية The Chinese room" لجون سيرل

الذكاء البشري ذكاء متميز:

لقد اعترض الفيلسوف الأمريكي جون سيرل John Searle على العديد من المواقف التي تبنتها النزعة المادية في صيغتها المختلفة، وعلى رأسها أنصار الذكاء الاصطناعي القوي من خلال توظيفه للعديد من الحجج، سواء كانت من إبداعاته أو مأخوذة من آخرين، وتعد أشهر حجة على الإطلاق التي اعترض بها سيرل كثيراً على دعاة الذكاء الصناعي، وكذلك اختبار ترينغ Turing الداعي إلى اعتبار الآلات الذكية تفكر، وذلك من خلال قيامها بعمليات حسابية معقدة ومجردة، وأقواها حجة "الغرفة الصينية The Chinese room"، ومضمونها أن سيرل قد تخيل نفسه في غرفة موصدة، أما اتصاله بالعالم الخارجي فهو ليس فقط عبر ثقب صغير، والغرض هو جعله يتعامل مع الفاحصين الموجودين في الخارج. وبما أن التواصل سيتم عبر اللغة الصينية والتي ليس سيرل من الناطقين بها، فقد زود بكراسة تحوي قواعد من شأنها أن تساعده في معالجة الرموز الصينية.
 حيث تكون هذه القواعد بمثابة الدليل الذي يجب اتباعه في معالجة الرموز بطريقة صورية خالصة. فهو بمثابة برنامج حاسوبي يمكنه من الإجابة عن أي سؤال يتلقاه من الخارج عبر الثقب الصغير، لنفترض أن الرموز التي يبعث بها الفاحصين الموجودين بالخارج تسمى "أسئلة"، وأن الرموز التي يبعث بها سيرل من الداخل هي "أجوبة عن الأسئلة"، فـسيرل يقرأ الرموز الواردة في الكراسة ويرتبها وفق التعليمات الموجودة في البرنامج، وبعدها يقدم الرموز المطلوبة والمترجمة كأجوبة.

ظاهرياً نلاحظ أنه يتصرف وكأنه يفهم اللغة الصينية، لكن واقعياً، لا يفهم ولو كلمة واحدة من اللغة الصينية، ولنفترض أن الفاحصين ينقلون إليه رسائل عبر الثقب الصغير، أحياناً باللغة الصينية وأحياناً باللغة الإنجليزية. فـسيرل يجيب بشكل مباشر عن الأسئلة المكتوبة باللغة الإنجليزية، بينما يجد نفسه مضطراً للعودة إلى الكراسة عندما يتعلق الأمر بالأسئلة المكتوبة باللغة الصينية، حتى يعيد نسخ الجواب المتعلق بالسؤال. أما بالنسبة للفاحصين الموجودين بالخارج، فالأجوبة التي يتوصلون بها، والمكتوبة باللغة الصينية ملائمة للأسئلة التي طرحوها، حالها حال تلك التي نقلت إليهم باللغة الإنجليزية. ومع ذلك فإن سيرل يعرف الإنجليزية، في حين لا يعرف ولا كلمة واحدة من اللغة الصينية، وتبقى النتيجة أنه بإمكاننا افتراض أنه اجتاز اختبار ترينغ لفهم اللغة الصينية؛ ومع ذلك فهو لا يفهمها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها