شعريةُ الدّمع؟!

سعيد بكور


يحضر الدمع في شعر الغزل حضوراً لافتاً، مشكّلاً ما يشبه الظاهرة المطّردة التي لا يكادُ يخلو منها غزلُ شاعرٍ. ويعدّ الدمع في عمقه تجلياً حسياً خارجياً لواقع نفسيّ مكلومٍ، ويختلف حضوره من شاعر إلى آخر، فيكثر عند البعض ويقلّ عند البعض تبعاً لطبيعة التجرِبة ودرجة المعاناة، وغالباً ما يرتبط ذكر الدمع بفراق الأحبة أو تذكّرهم أو فقدهم أو الوقوف على ديارهم التي درست.


يتفاوت الشعراء في العناية بموضوع الدّمع تفاوتاً ملحوظاً، ويعود ذلك إلى طبيعة التجربة والرؤية الفنية، ومن الشعراء الذين يكثر عندهم الاحتفاء بالدمع موضوعاً شعرياً، ذو الرمة الذي يكاد يربو على الشعراء المنتمين إلى مدرسة الغزل العذري في عنايته بموضوعي الدمع والبكاء، ففي كل مقدمة طللية يحضر ذكر الدمع الذي قد يكون مدراراً منسكباً أو قليلاً بالكاد يرشح أو جارياً كعين ماءٍ، وسنحاول في هذه الأسطر التعرّض لشعرية الدمع في الشعر العربي، ونريد بالشعرية هنا اتّخاذ الدمع موضوعاً شعرياً له خصائصه الفنية.

من الأبيات الشهيرة في ذكر الدمع قول امرئ القيس: 
وإن شفائي عَبْرَةٌ مُهراقة ∵∴ فهلْ عند رسمِ دارسٍ من مُعوَّلِ

يقترن الدمع هنا بالشفاء، فهو السبيل إلى التخلص من همّ يثقل كاهل الشاعر ويرزح على قلبه، وتأكيد الشاعر للخبر بـ(إنّ) يفيدُ كِبر همّه وحقيقتَه، فهو ليس بالمدّعي، لذا كان لياذه بأسلوب التوكيد دفعاً لأي اعتراض أو شكّ، والشفاء المذكور لا ينفع معه إلا الدمع المهرق الذي لا ينحبسُ، فهو كفيل بتطهير القلب مما يلقاه في حب من يقابل شوقه بالتدلّل.
ويحضر الدمعُ في شعر المدرسة العذرية حضوراً لافتاً، خاصة عند رأسها (جميل بن معمر)، الذي يحتفي بذكر الدمع وترداد أنشودة البكاء في قصائده التي يتغنى فيها بالبيْن وقسوة المحبوب وتنمّر الزمان وتنكّر الأيام، وفي ذلك يقول شارحاً أسباب انهمار دمعه: 
إنّ المنازلَ هيّجتْ أطرابــــــي ∵∴ واستعــجمَتْ آياتُها بجوابي
قفراً تلوحُ بذي اللّجَيْنِ، كأنّه ∵∴ أنضاءُ رسمٍ، أو سطورُ كتابِ
لمّا وقفْتُ بها القلوصَ، تبادرت ∵∴ منّي الدموعُ لفرقةِ الأحباب

إنّ سبب انحدار الدمع من عينِ شاعرنا عائد إلى ما حلّ بديار الأحبة التي تحوّلت إلى قفرٍ تنعدم فيه الحياة، وعفت آياته، كل هذا هيّج لواعج الشوق والأسى بداخله، فما شعر إلا والدمع يبادره دون استئذان، منهمراً في هدوء واستسلامِ لقدرٍ أمضى كلمته.
ولعل ذا الرمة، الشاعر الأموي الذي كلِف بالغزل، يعدّ أكثر شعراء العربية احتفالا بالدمع في قصائده، حتّى إنّ الأمر عنده ليشكّل الظاهرة المائزة في ديوان الشعر العربي، وكان صاحب المرشد عبد الطيب قد أشار إلى هذه النقطة التي تميز ذا الرمة، فما من مقدمة طللية إلا ويأتي فيها ذكر الدمع، ويتّخذ ذلك عنده تمظهرات مختلفة تبعاً للحالة النفسية التي يمرّ بها.

يشبّه ذو الرمة في مطلع بائيته، انهمار دمعه من شؤونه بانهمار الماء من مزادةٍ مثقوبة:
ما بالُ عينك منها الماءُ ينسكب ∵∴ كأنّه من كُلىَ مَفريَّةٍ سَرِبُ

يقصد من هذا التشبيه المبالغة في تصوير الحزن الذي يعتمل داخله ويعتصر فؤاده، ويتساءل متعجباً عن سبب انسكاب الدمع وانهماره، ولا شكّ أنّ اختيار لفظ (الماء) عوض الدمع ذو دلالة في التعبير عن الكثرة والوفرة، رغم أنه كان بإمكانه الاستعاضة بلفظ (الدمع) دون أن يختلّ الوزن، لكن غايةَ المبالغة استدعت هذا الخيار الأسلوبي الدقيق.

وعين شاعرنا لا ترقأ، فعبراتها منهمرة لا ينحبس انسكابها؛ ولأنّ دموعه غزيرة كثيرة فهي تخنقه لكثرة انهمارها وسيلانها، وقد تصحبها الزَّفَرات والأنّات: 
لعمرُكَ إنّي يومَ جَرعاءِ مالـكٍ ∵∴ لذو عَبْرةٍ كُلاً تفيضُ وتخنُقُ 
وإنسانُ عيني يَحسِرُ الماءَ تارةً ∵∴ فيبدو، وتاراتٍ يَجِم فيغرقُ

إنّ تذكر يومَ الفراق بجرعاء مالك هيّج الذكرى، ففاض الدمع وخنقَ شاعرناَ من كثرةِ ما كان ينهمر دون انحباس، مانعاً إياه من أخذ نفسٍ يسترجع فيه قواه، ولتصوير المشهد البكائي المؤثر لاذ الشاعر بالاستعارة، جاعلاً العين بحراً وإنسانَها سابحاً يحاول تارةً المقاومة خوف الغرق، وتارة تخور قواه فيغرق في لجة الماء الطامي، وفي ذلك تصوير لكثرة ما يسيل من دمعٍ فائض على الخدّ.
ويقول آخر، وهو من شعراء الحماسة، واصفاً يوم الفراق، وحيرة الدمع في الآماق:
وممّا شجاني أنّها يوم أعرضت ∵∴ تولّت وماءُ العينِ في الجفنِ حائرُ
فلمّا أعادت من بعيدٍ بنـــــــــظرةٍ ∵∴ إليّ التفاتا أسلمـــــته المـــــحاجر

لجأ الشاعر في بيته الأول إلى الإضمار والإطلاق، مقدّماً الأثر النفسي (شجاني) قصداً إلى إثارة المتلقي ودفعه إلى توقّع سبب هذا الشجو، ويصف الفراق الذي تتزاحم فيه المشاعر داخل النفس، ويحدث لها ما يشبه التشويش بحيث لا تبدو واضحةً، وقد عكست حيرة الدمع وعدم نزوله في البيت الأول صدمة الشاعر أو المحبوب لحظة الوداع.
وممّا يحقق شعرية البيتين استخدام الحيرة منسوبة لاغريراق الدمع في العين وذلك عن طريق التشخيص، فكأن الدمع أصيب بحيرة، لا يعرف معها أيبقى في المحاجر أم ينحدر خارجاً، وهو موقف يعكس حالة الشاعر، وتصوير بديع للحالة الشعورية لحظة الفراق.
والدمع عند جرير وليدُ لحظة الفراق وعزم الأحبة على الرحيل، الذين تركوا الشاعر مسلوب الفؤاد مصاباً في سويدائه، وفي هذه اللحظة ينفطر القلب، ويسيلُ من العين ماءٌ قليل لا يتصل قطره، وهو دليلُ تصبّر في لحظةٍ عادةُ الشعراء فيها أن يعبروا عن انهمار دمعهم:
إنّ الذين غدوا بلبك غـــــادروا ∵∴ وشلا بعينك ما يزال معينا
غيّضْنَ من عبراتِهنّ وقلن لي ∵∴ ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا

ويصل الأمر ببعضهم إلى إرداف الوقوف بالنزول لمعاينة ما حلّ بديار الأحبة من موتٍ وخراب، ثم إتباع النزول ببكاءٍ يستحيل فيه الدمع عينَ ماءٍ تبلّ الغليل والنار المشتعلة في أعماق الفؤاد الملتاع، ومن ذلك قول أبي تمام في بعض مطالعه المشهورة:
ليس الوقوفُ يكفّ شوقَك فانزِلِ ∵∴ وابْلُلْ غلِيلَكَ بالمدامعِ يُبلَلِ

تبدو لوعة الشاعر وحسرته الناتجة عن شوقٍ قديمٍ لا يكفيها الوقوف على الأطلال لتُشفى، بل لا بدّ أن ينتقل إلى مرحلة يسحّ فيها الدمع مدراراً ليبلّل غليل الشوق المشتعل حسرةً وأسفاً على ماضٍ تصرّم، ولعل نفس شاعرنا منفعلة متوترة، ودليل ذلك تكرار فعل الأمر مرّتين (انزل، ابلل)، والإتيان بالفاء الدالة على الترتيب مع التعقيب مرتبطةً بفعل النزول، كل ذلك يدلّ على رغبةٍ ملحّة في التخلص من معاناة داخلية ترزح على وجدان الشاعر، يكون معها البكاء هو الحل والشفاء، ولعله شفاء مؤقّت غرضه تسكين ألم اللحظة؛ لحظة التذكر. 

وإذا حوّلنا الدفة ناحية الغرب الإسلامي، وجدنا ابن زيدون يحتفي، وهو الشاعر الغزل، بالدمع والبكاء، الذي ارتبط عنده بالفراق الذي لا لقاء بعده: 
 بِنتُم وبنّا، فما ابتلّت جوانحنا ∵∴ شوقاً إليكم، ولا جفّت مآقينا 

لقد اختار الشاعر عبارة كثيفة دالّة على التأبيد والإطلاق، هي قوله (ولا جفّت مآقينا)، تفيد أنّ دمعه لم يجفّ رغم تطاول العهد وتباعد زمان الفراق، لكن الذكرى تبعث في النفس لواعج الحزن والألم، وتوقظ ما استقر في الذاكرة من شوقٍ، فيستحيل هذا الشوق وذاك الألم دمعاً مدراراً لا يجف معينه.

ويتّخذ الدمع عند ابن زيدون، أيضاً، شكل الوفاء لعهد تصرّم وأيام حبّ خلت: 
 أبكي وفاءً، وإن لم تبذلي صلةً، ∵∴ فالطّيفُ يقنعنا، والذّكر يكفينا
يخرج الشاعر عما جرت به العادة، فيجعل الوفاء داعياً إلى البكاء، ملقياً الخبر عارياً عن كل أداة توكيد؛ لأنّ التعويل على صدقِ الشعور كفيلٌ بجعل المتلقي يقتنع بما يكنه من شوقٍ غير زائف للأحبة الذين غدوا بلبّه وغادروا. 

يشكّل الدمع إذن، موضوعاً شعرياً كثير الورود والترداد في ديوان الشعراء، حيث يصل إلى مستوى الظاهرة الموضوعية والأسلوبية، وهو في شعر الغزل أكثر من غيره وأخصّ، على أنّه يرد في شعر الرثاء بوجهٍ آخر... ولعل كثرته في شعر الغزل تستدعي دراسةً مستقلّة ينهض فيها الباحث بالقبض على طبيعة التجربة وخصوصية الموضوع فنياً ومضمونياً.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها