تستهدف هذه الورقة تفكيك نسق اشتغال العلامة في ديوان ''كغيمة ضلت طريقها'' لعزت الطيري، انطلاقاً من الحفر في طرق اشتغال الخطاب الشعري، ومختلف سماته الجمالية.
[1] خطاب العنوان بوصفه فضاء لإنتاج تشاكل الدلالة
تنحت أداة التشبيه ''الكاف'' سياقات لغوية ترتبط بالتمفصل المزدوج على صعيد بنيات الدلالة وبناء اللغة الشعرية. فتَتمظهر الأداة كتضعيف للمعنى، وإعادة قراءة ميتا خطاب الجملة ''غيمة ضلت طريقها''. فكِلا الجملتين -بالأداة أو بدونها-، تشكلان صورة تمثل انزياحاً عن المعنى المركزي، ووصفاً لسيرورات معنى المعنى المنفلت، من كل تقييد أو تفسير أُحادي.
بناء عليه، يشتغل العنوان على بناء أفق انتظار كما يتجلى من خلال حذف المشبه، لينطلق خطاب البداية في تهييء المتلقي لاكتشاف تشاكل الشعر والحياة. فتبدأ سيرورات البناء الخطابي من خلال رمزية المتصل والمنفصل:
كغيمة ضلت طريقها
إلى سمائها
أصير
حين ترحلين عني [ص: 3].
فالاتصال بالمعشوق يمثل الذاكرة /الكينونة والوجود، بينما يظهر المنفصل حين تضل نواة القصيدة: الغيمة الذات طريقها نحو الحياة / المعشوقة. فيبدأ التوتر بين الدال والمدلول الشكل والمحتوى. فلا مفر للذات الشاعرة، سوى اللجوء إلى فضاء المتخيل الشعري، كما يحيل على ذلك استعارة الغيمة في الديوان. وهذا معناه أن بلاغة الصورة لا تتمثل من خلال بعد تجزيئي ضيق، بل إنها بلاغة عامة للخطاب:
فإذا رتبنا
انتحر الشعراء
وغاص إلى قاع الظلمات
خيال مجتاح.. [ص: 66]
إن تراكم مجموعة من المقومات السياقية1 يقود إلى استجلاء تشاكل الدلالة كما يتمثل من خلال الشعر/الحياة (قصيدتي الرمزية، بحر خرج وحيدا من نص قصيدتي، رصيد اللغة يستنفذ، لكن الأوزان بشعرك /تجعلني أكثر ثقلاً/ وبدانات...). ومن ثم، تنمو النواة/ القصيدة؛ أي استعارة الغيمة كما يظهر من خلال الطرف الثاني من التشبيه النواة زينب ووجه الشبه المرتبط بالبعد، الرحم، أصل الحياة، نوع الاسم المؤنث، في اتجاهات متباينة تسافر بين الزياحات التاريخ (ميدان التحرير) الثقافي (الطقوسي) و(التناص).
وبقدر ما تبتعد النواة الغيمة / عن الذات الشاعرة تبتعد القصيدة عن كل تمثل أحادي للمعنى، لتنشغل بتفكيك الوجود منظوراً إليه من زاوية كينونة الشاعر المتشظية في العالم الهوى، الموسوم بالدهشة والألم وإيقاظ حس الجمالي. ولذا، فالانفصال ليس سوى انعكاس لبنية التوتر متمثلة في الانزياح الذي تمثل الغيمة نواته الأصلة.
فالغيمة الرحم النصي للقصيدة، تحيل على فضاء "سماءها" الذات الشاعر، المرتبط بمتخيل القصيدة. هكذا تشتغل العلامة ''الغيمة'' على إنتاج ثنائيات تحيل على: الأعلى /الأسفل، البعيد/ القريب، الظاهر /الباطن، المتصل/ المنفصل، الأفقي / العمودي.
إن "الغيمة'' تمثل اللفظة النووية التي يتمطط النص من خلالها في اتجاهات متباينة، مما يكشف أن العلامة القصيدة/ مسكونة بالتوتر، وفيض الإحساس بجمال الوجود انطلاقاً من تجاذب قطبي الهامش والمركز. فيتحول المركز النووي للقصيدة ''زينب''، إلى هامش الدال والهامش بدوره يصير مركزاً، في ظل التوتر بين بنيتي الحضور والغياب، وابتعاد الغيمة ولجوء الشاعر إلى التخييل. ومن ثم تتجلى الذات المعشوقة في صور مختلفة بين الحاضر/الواقع ''زينب'' والغائب /الانزياح كما ينكشف من خلال مجموعة من العلامات السياقية التي تفجر مبدأ اشتغال اللغة على تفكيك المعنى إلى حد الاختفاء بين الاختفاء والتجلي، يظهر فضاء اللغة الشعرية مترعاً بسيمياء الأهواء، فتضل القصيدة /الغيمة عن المركز لتعود إلى هوامش الحياة اليومية وصخب الغائب.
[2] تفكيك الذاكرة وانشطار المعنى
يجترح عزت الطيري سيمياء اليومي انطلاقاً من صور تعيد صياغة الوجود والكينونة، انطلاقاً من النواة ''الغيمة'' المنشطرة إلى معان موسومة بالتعدد، انطلاقاً من مبدأ التفكيك.
إن المنظور اليومي يتمثل كاستعارة تكثف الوجود وتسبر أغوار الأهواء الإنسانية انطلاقاً من فعل التأمل وتمثيل الكينونة، وهي تولد وتتولد من الإيقاع، لكي تتحرر وتتعالق مع التخييل. فالغيمة /العلامة تشكل استعارة وجودية تتنقل بنا من الأعلى إلى الأسفل، من التخييل إلى الواقع، من الحب إلى الألم، كما يظهر من خلال حضور الذات الشاعرة الكاشفة لبنية التوتر.
إن بنية القصيدة جاءت كاشفة لتوترات بين الغائب، والحاضر، الذات الشاعر والعالم.. خصوصاً في ظل ابتعاد الغيمة /الذات عن هذا العالم كما تجسده النواة العلامة الغيمة/ المعشوقة. يدل على ذلك تكرار الحروف الصائتة وهيمنتها على سائر المقاطع مما يكشف النزعة الهوية التي تتوزع بين الحب والألم. فتنشغل الذات الشاعرة بتأمل الوجود انطلاقاً من تمثل الحب، بوصفه كينونة وسيرورة إنسانية تتولد عبر المتصل والمنفصل وتتشكل داخل علامات الفضاء. «الفضاء الذي يتحول فيه ما هو خارجي إلى ما هو داخلي»2.
هكذا يتحول فضاء ميدان التحرير من طابعة الواقعي، التاريخي الثوري، إلى فضاء لتجسيد ورسم صورة الحب بوصفه جيشان وثورة داخلية على مركزية المعنى، مما ينتقل بنا إلى مبدأ انشطار المعنى. وبذلك يستثمر الشاعر الوجه المشترك لقيمة القيمة. فـ«الذات تختبر القيمة، في علاقتها الجديدة مع العالم، لحظة الانفصال الأول الذي كانت نتيجته، ويمكن تأويل الانفعال الجمالي باعتبارها حسا ًجديداً لهذا الانشطار أي باعتباره حنيناً للتوترية الاستهوائية غير المميزة»3. إننا بصدد تمطيط لمعنى بحيث يتم الانتقال من فضاء التحرير بوصفه قيمة، إلى تمثله باعتباره قيمة القيمة ذات الأبعاد الجمالية عبر السمة المشتركة التي تتمثل في بلاغة التوتر.
فهناك تواز بين صورة الميدان بكل حمولاته الثقافية والتاريخية وبين صورة الحب. فتنتقل عدوى الهياج والانفعال والتوتر إلى رغبة الذات في التحرر من قيود الرحيل والعشق، بوصفهما قيمة جمالية وأخلاقية، ومن ثم إلى الحب بوصفه قيمة القيم المولدة لجمال العالم وإدراكه والذي سيحرر الذات، ويعيد الغيمة الذات الشاعرة إلى سمائها التي تنعم فيها بالحرية والجمال:
يغنون أناشيد الحريات
إلى ميدان التحرير
قوافل شوق
وكتائب أحباب.. [ص: 3]
وبذلك يتحول فعل تأمل الوجود انطاقاً من صورة الغيمة إلى تأمل في أصل العالم وعلاقته بالشعر. فيتشاكل الشعر مع الحياة، من خلال تقنية التوازي الكاشفة لوضعية العلاقة بين العشيقين بوصفها تحول من الشعر إلى الحقيقة، وتموقع العلامة بين قطبي الحضور الغياب:
في حفل تخرجنا
كانت كف بيضاء تلامس كفي
الليلة وبمحض الصدفة
كانت كف شاخت
وامتلأت بالتجاعيد [ص: 24]
إن فعل الوجود والاتصال بالمعشوق فعل تخييلي، يمثل ويتمثل الكينونة، بحيث تنعدم الحدود بين الواقع والخيال. فـ«وظيفة العلامة خلافية، فهي لا يمكن أن تحيل على معنى جاهز أو فيما يتعلق بوجود تطور متواز لنشاطين ذهنيين من طبيعتين مختلفتين أحدهما طولي يتحقق في الحضور والثاني عمودي، يتحقق في الغياب المجاز»4. وفعل التأمل طريق نحو ابتكار اللغة وفعل الاتصال انطلاقا من الانزياح.. إن اللغة بما هي نسق علامات تنطلق من المحدد أي نواة القصيدة متمثلة في: الغيمة /زينب؛ لتصل إلى اللانهائي كما عاينا من خلال الوحدات اللفظية البلاغية: ''سماء" ''غيمة'':
معجزة اللغة
بأن الياء الماكرة [ص: 18]
هكذا تجسد القصيدة سيرورات حياة الذات الشاعرة، في ظل تيمة الابتعاد والرحيل والعزلة الناتجة عن الانفصال عن العالم، وهو ما تحيل عليه الثنائيات التي تنتجها العلامة النواة الغيم:
وأحتاج لمن يرعاني
يمسد روحي
ويضمد جراحاً بأنامله [ص: 20].
هذا التحول من المنفصل إلى الاتصال محكوم بالرغبة في الحياة واستعادة الكينونة.
[3] الهامش بوصفه انزياحاً وتدميراً لمركزية المعنى
يمثل الهامش اليومي فضاء لاجتراح العلامات وإعادة تفكيك أنساقها وفق مبدأ تدمير المركز (ذكريات الثاني –كاميرا مراقبة –حفل تخرج –أشجار الحزن- مذكرات طالب عاشق).
إن أول تمظهر خطابي لتشكل الهامش، هو الانطلاق من هوامش اللغة ذاتها من أجل إعادة اكتشاف لانهائية دلائلياتها. فقراءة ما بين الأقواس استبطان لمفارقة العالم، واشتغال القصيدة بوصفها محاكاة لتشكلات الحياة/العالم.
فبالإضافة إلى أن القصيدة الشعرية تولد من أصغر ذرة نووية في اللغة العالم، ومن هامش الهامش، تتشكل وكأنها الحياة المتمثلة في العناصر الأربعة: الماء، التراب، الهواء، والنار. وهو ما يفسر تشاكل الشعر والحياة. ولذا فالغيمة الحاملة لمؤشرات ترتبط بـ(الماء، التراب الذي تسقيه فيحيا) تنحدر من استعارة أسطورية تكشف الذات/المعشوقة بوصفها جزءاً من الذات الشاعرة:
كظفر بارز
ملتصق بلحم أصبع
لا أستطيع قصه
وهكذا أنت.. [ص: 71]
وفضلا عن ذلك، فالذات الشاعر تتماهى عبر التشخيص مع الآخر المعشوق، حتى إن الهواء الذي يستنشقه ينزاح عن المعنى الوجودي، ليتحول إلى علامة مشحونة بالجمال، بينما تحضر استعارة النار لتحيل على بنية التوتر الناتج عن الانفصال الذي تعاني منه الذات، ورغبتها في إعادة الاتصال بما يجعلها تعثر على كينونتها وتستعيد الحاضر المفقود:
الهواء: أعود وقد ملئت رئتاي ببنفسجك [ص: 21]
القلب تصاعد منه دخان
حين تذكرتك. [ص: 27]
يتبين انطلاقاً من المقاطع أعلاه، أن انزياح الغيمة لا يتمظهر فقط على صعيد تمثل الهامش، وإعادة احتلال المركز بوصفه النواة، بل من خلال انزياح القصيدة عن خطاب الجنس الشعري/الغيمة التي ضل طريقه ولجأ إلى التخييل فراراً من الغياب الذي ينتج بنية التوتر.
على سبيل الختم:
تقودنا قراءة قصيدة المنجز الشعري المصري من خلال نموذج عزت الطيري إلى القول بأن القصيدة توسع أفق التخييل، من خلال استلهام وتشرب النفس القصصي السردي، فضلا عن لغة اليومي والسيري. وبالإضافة إلى تعدد الخطابات الذي جاء ليكسر أحادية المعنى، ويحتفي بالهامش اليومي، جاء التناص مكوناً نسقياً يشتغل على تضعيف المعنى، وبناء التعدد. فالتناص انزياح يوازي انزياح الغيمة وابتعادها. فالذات تعيد كتابة النص الأصلي وتحريره وفق شروط الحاضر، فهو لغة فوق اللغة، وانزياح وجودي عن المعنى الأصلي بحيث يصير مشبعاً بالحاضر (اخلعي نعليك + زينب المليكة + قصة سليمان).

عزت الطيري.. كغيمة ضلت طريقها. منشورات دائرة الثقافة - حكومة الشارقة، (كتاب رقمي - اكتوبر 2022)
1.محمد مفتاح. تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء 3. 1986. ص :25. │ 2.يوري لوتمان. سيمياء الكون. ترجمة: عبد المجيد النوسي. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 2011. ص: 49. │ 3. أنجر يداس غريماس. سيمياء الأهواء. ترجمة: عبد المجيد النوسي. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. ط3 1986. ص: 25. │ 4.ألفونس جوليان كريماس. المرجع نفسه: 22.