كثيرون من يسعون إلى الأضواء، وإلى أبواق الشهرة كي تصدح بذكرهم الحناجر صباحَ مساء؛ إثر منجزات زائفة أو حتى حقيقية، وقليل من يرفضون أن يطرق أبوابهم دَعِيّ من هنا أو من هناك؛ إذ يؤثرون العمل في صمت، والاعتكاف في محراب البحث، متبتِّلين إلى الله بالعلم؛ لأن رسالتهم أجلُّ وأسمى من أن تنزل منزلا غير مباركٍ، ينافي قدسية ما يقومون به، إنه العلم الذي بُيذَلُ بإخلاص ليُنتفعَ الناس به ويمكثَ في الأرض، ليُكتب العمل وصاحبه في سجل الخالدين. إنَّ هذا العمل الجليل هدفه، العظيم نفعه، المحمود أثره- أرفع وأشدّ منعة من أن تنال منه أيدي العابثين، إثر محاولات إنزاله منزل الزَّبَدِ، الذي يذهب جفاءً، حيث لا نفع فيه، ولا أثر له يُذكر به.
في سماوات البحث العلمي، حَلَّق عاليًا اسم العالم الجليل د. سعيد بحيرى، في مكانة لا ينالها إلا أصحاب المنجزات العلمية الرصينة، حيث يؤمنون بالفكرة في بعدها الرِّسَالي ويخلصون لها، فيجمعون -إذ ذاك- بين العلم والعمل والإخلاص، لا يريدون جزاءً ولا شكورًا، مدخرين ذلك لما عند الله تعالى، وما عند الله خير وأبقى.
عُرف أستاذنا بولعه الشديد بالترجمة إلى العربية في مجال تخصصه (علوم اللغة/ اللسانيات)، وقد بدأت رحلته مع الترجمة منذ أكثر من أربعين عاماً، حمل على عاتقه -حتى الآن- نقل أكثر من ثمانين كتابًا في حقول المعرفة اللغوية الكثيرة والمشعبة من الألمانية والإنجليزية إلى العربية، كانت المكتبة اللغوية العربية في شديد الحاجة إليها، حتى تستطيع مواكبة الجديد في البحث اللغوي. لقد عكف الدكتور سعيد بحيري -ولا يزال- على استكمال ما بدأه جيل الرواد من الباحثين العرب الذين تخرجوا في المدرسة الألمانية في القرن الماضي، ونقلوا بعضًا من منجزات العلماء الألمان في الأدب واللغة، أمثال: عبد الحليم النجار، والسيد يعقوب بكر، ومحمود فهمي حجازي، ومحمد عوني عبد الرؤوف، ورمضان عبد التواب، ونبيلة إبراهيم، ومحمود حمدي زقزوق...
النشأة والتكوين العلمي:
وُلد في القاهرة في 28/5/1953م، وكانت دراسته في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية في القاهرة أيضًا من 1959م حتى 1971م، تخرج في كلية الآداب جامعة عين شمس - قسم اللغة العربية وآدابها 1975م بتقدير "جيد جدًا". عين معيدًا بقسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس 1975م، حصل على الماجستير سنة 1979م، عن رسالته (البنية اللغوية في شعر المتلمس الضبعي)، ثم حصل على درجة الدكتوراه سنة 1984عن رسالته (الجملة الخبرية في رسائل إخوان الصفاء)، وذلك من خلال نظام الإشراف المشترك بين جامعتي عين شمس وارلانجن نورنبرج بألمانيا، فعين مدرسًا سنة 1984م، ثم رُقي إلى أستاذ مساعد سنة 1990، ثم رقي إلى أستاذ سنة 1997م، وعَمِل رئيسًا لقسم اللغة العربية من 2002 حتى 2004م، ثم وكيلاً لكلية الألسـن لشـؤون التعليم والطلاب من سنة 2004م حتى 2007م، ثم رئيساً لقسم اللغة العربية للمرة الثانية من 2010م حتى 2012م.
كما عمل الدكتور سعيد بحيري أستاذًا في معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، وفي جامعات اليمن والكويت والسعودية، وحصـل على منح لعدة مرات من الهيئــة الألمانية للتبادل العلمي للدراسة في ألمانيا، ومن البعثـات المصرية لاسـتكمال بحوث الترقية، وسافر أستاذاً زائرًا إلى بعض الدول العربية، والأجنبية مثل: فرنسا وألمانيا. كما أشرف الدكتور سعيد على أكثر من ثمانين رسالة ماجستير ودكتوراه، واشترك في مناقشة ما يقارب مائتي رسالة، في عدة جامعات مصرية وعربية، فضلا عن مشاركته في العديد من المؤتمرات العلمية والندوات ببحوث قيمة داخل مصر وخارجها حضوريًا وعن بعد. وقد تخرج على يده كثير من الطلاب والباحثين الذين ينتشرون في العديد من الجامعات العربية والأجنبية.
الصَّرامة العلمية والدقة البحثية:
يُعرف الدكتور سعيد بحيري في الأوساط العلمية والبحثية، وبين طلابه، بدقَّته وصرامته العلمية وغيرته الشديدة على اللغة والبحث اللغوي؛ ولذا اختير عضوًا في الهيئة العلمية والاستشارية لعدد من المجلات اللغوية العربية والألمانية، وفي المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وفي المجلس الأعلى للجامعات المصرية المعني بترقيـة الباحـثين في مصر، وبعض الدول العربية من مدرس إلى أستاذ مساعد، ومن أستاذ مساعد إلى أستاذ. وشارك أيضاً في مشروعات علمية داخل مصر وخارجها، وفي تطوير الخطط الدراسـية في مرحلتي الليسانس والدراسـات العلـيا داخل مصر وخارجـها، والتدريس في دورات تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس والإشراف على برنامج الجودة والاعتماد.
وبدوافع هذه الغيرة المحمودة والدقة التي يمتاز بها الدكتور سعيد بحيري من غيره؛ لا يملَّ الرجل من التنويه إلى مواضع الخطأ ومواطن الزلل الشائعة في الساحة البحثية العربية، ولا يكف عن تصحيح المفاهيم المغلوطة التي تتردد على ألسنة الباحثين وفي كتاباتهم، سواء أكان ذلك في مناقشاته العلمية، أم في الندوات التي يحاضر فيها رغم قلتها لإيثاره البعد عن الأضواء، أم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
صعوبات التحليل النصي:
من الحقول اللغوية التي كتب فيها الدكتور بحيري، وحاضر فيها وناقش فيها رسائل علمية، ما يُعرف بعلم لغة النص أو اللسانيات النصية، الذي يستسهل البعض الكتابة فيه والخوض في بعض مسائله، دون أن يكون للواحد منهم إلمام كافٍ بأدوات البحث ومتطلباته، مكتفيًا بعنوان برَّاق، يمكِّنه -في ظنِّه- من الدخول إلى ساحة البحث في هذا الحقل، رغم الصعوبات التي تكتف مسائله. حيث يرى الدكتور بحيري أنَّ السمة الجوهرية الفارقة للبحوث النصية عن البحوث الأخرى، تكْمُن فيما أطلق عليه التداخل المعرفي، بمعنى أن ذلك النص يتطلب دراية واسعة في فروع مختلفة من الحقول المعرفية، فقد تشعبت المنابع التي استقي منها هذا العلم مفاهيمه وتصوراته ومناهجه، واتسم هو نفسه بقدرة فائقة على استيعاب كل ذلك الخليط المتباين، بل وتشكيل بنية منسجمة قادرة على الحفاظ على ذلك التداخل من جهة، وإبراز جوانب التفارق بينه وبين العلوم الأخرى من جهة ثانية.
ومن الصعوبات التي يجب أنْ يَعيها الباحثون أنَّ الخواص التركيبية والدلالية والاتصالية للنصوص تشكل صلب البحث النصيِّ، ويمكن في إطار ذلك التصور إدراك مواضع التماس بين هذا العلم وبين علوم الأدب والبلاغة والشعر والأسلوب، غير أنه يأبى أنَّ ينضم تحت لواء أي علم منها، وزاد الأمر تعقيدًا إدخال عناصر أخرى تعود إلى: علم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والمنطق، وغيرها. فأدواته إذن غير محدودة، ولا يتوقف عند حد معين رافضًا أيةَ إضافة، تمكِّنه من الوصول إلى كفاءة تفسيرية دقيقة. إنه بإيجاز يختلف عنها جميعاً في الوصف والتحليل، وفي المناهج والأهداف، إنه العلم الذي يستطيع أن يجمع بين عناصر لغوية وعناصر أخرى غير لغوية لتفسير الخطاب أو النص تفسيرًا إبداعيًا.
المصطلح العلمي والترجمة:
ومن خلال خبراته الطويلة في الترجمة يعرض الدكتور بحيري طرَفًا من الصعوبات التي تواجه المترجم، خاصة عند ترجمة المصطلح، يضرب من كتاب علم صناعة المعجم وعلم المعجم مثالا تحليلياً: لمصطلح (Eisenhut) وهو مركب، وهو من سمات اللغة الألمانية، مكون من: (Eisen)، ومعناها حديد، و(hut) ومعناها قبعة. ومن ثمَّ يكون المعنى الحرفي للمركب: قبعة حديد أو من حديد (في سياقات عسكرية قديمة خوذة من ذهب أو فضة أو من أي معدن آخر، وكلها مُمكنة بمعنى حرفي حقيقي غير مجازي).
ولكن ما هذا؟ هل يتصور المرء أن هناك قبعة من حديد في سياق نباتي طبي؟ السياق هنا عاملٌ حاسمُ للفصل حين يقع غموض أو إبهام؛ وعلى ذلك ينبغي الحذر الشديد.
ومع البحث والتقصي وبعد لَأْيٍ عثرت عليه، باختصار هو مصطلح نباتي قانوني طبي. إذن فقد اهتديت إلى بداية الطريق، ولكن برزت مشكلة جديدة؛ لأني وجدتُ في أماكن عدة وسياقات مختلفة الترجمات الآتية: هو اسم لنبات له استعمال طبي (وصفه)، ومعناه خوذة الشيطان، وأقونيطن، وآقونيطين، وقلنسوة الراهب، وعشبة البيش، وخانق الذئب. فأي اسم منها أختار؟
بلا تردد اخترت المقابل الأول لكثرة دورانه في السياق، ولكني وضعت كل المقابلات للمصطلح في الهامش، فلعل القارئ يحبِّذ اختيارًا آخر. وهكذا لا علاقة لمعنى المصطلح العلمي بالمعنى الحرفي. ومن واجب المترجم أن يتوقف طويلا أمام الكلمات الصعبة، ويتأمل ويتدبر ويقلب الوجوه حتى يطمئن إلى استقامة الكلام ودقته.
مؤلفاته:
للدكتور سعيد بحيري مجموعة من المؤلفات المتنوعة، فقد ألَّف في تخصص علوم اللغة، وفي مجال الكتب التعليمية، وترجم إلى العربية كمًا من المقالات من اللغتين الإنجليزية والألمانية، فضلا عن مجموعة من الكتب التي نقلت الفكر اللغوي ـــــ خاصة الألماني- إلى اللغة العربية، في عدة تخصصات دقيقة، من بينها: علم لغة النص (لسانيات النص)، وعلم اللغة (اللسانيات)، وعلم اللغة الإدراكي، وعلم الخطاب اللغوي، والعلوم البينـية، والاستشراق، والدراسات السامية، ودراسات المستشرقين في اللغة والأدب العربيين.
وقائمة كتب الدكتور بحيري طويلة، نذكر منها على سبيل التمثيل: جموع التكسير في اللغات السامية، لــــــ(أ.مورتونن)، مترجم عن الإنجليزية، نشر المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة. وتاريخ الأدب العربي، القسم الرابع 7-8 لــــ(كارل بروكلمان). مترجم عن الألمانية، بالاشتراك. ومدخل إلى علم النص، مشكلات بناء النص، لـــــ(زتسيسلاف واورزنياك)، مترجم عن الألمانية. ومدخل إلى علم الدلالة، لـــ(سبستيان لوبنر) مترجم عن الألمانية. ومدخل إلى البراجماتية اللغوية، لـــ(يورج مايباور) مترجم عن الألمانية. ونظريات المجال في علم اللغة، لـــــ(ج. س. شور)، مترجم عن الألمانية. وعلم اللغة (القسم الثاني)، لـــــ(لودجر هوفمان) (محرر)، مترجم عن الألمانية. وعلم اللغة الإدراكي، لـــــــ(جيرت ريكهايت وآخرين). وعلم اللغة والعلوم المجاورة لــــــ(ريناتا بارتش وثيو فينيمان). ونظرية النص، مشكلات علم لغة للاتصال اللغوي لـــــ(زيجفريدي. شميت)، مترجم عن الألمانية. والتحليل اللغوي للنص، لــــ(كلاوس برينكر)، مترجم عن الألمانية، نشر مؤسسة المختار. ودراسات في العربية، لمجموعة من المستشرقين، مترجم عن الألمانية، نشر مؤسسة المختار. والدراسات العربية في أوروبا حتى مطلع العشرين، لـــ(يوهان فوك)، مترجم عن الألمانية، نشر مكتبة زهراء الشرق.
الجوائـز:
نال الدكتور سعيد بحيري عدة جوائز، منها جائزة جامعة عين شمس للبحوث الممتازة مرتين سنة 1993، و1995 في الدراسـات اللغوية، كما رُشِّح عدة مرات لنيل جائزة التفـوق في الآداب لوزارة الثقافة، ومؤسسـة التقدم العلمي بالكويت في مجال الترجمـة، ومؤسسـة عبد الحميد شومان في البحوث اللغوية، وجائزة الشيخ زايد للترجمـة، وجائزة الملك عبد الله للترجمة.