في الكوميديا عليك أن تكون حَذِراً

حوار مع الأديب والسيناريست ممدوح حمادة

حاوره: سامر أنور الشمالي


ممدوح حمادة كتب الرواية والقصة، ثم كتب السيناريو التلفزيوني؛ أي بعدما اكتشف أسرار القص، واعتمد على السخرية الناقدة التي تشير إلى الوجع بطريقة طريفة تظهر المفارقات فنضحك حين نشعر بالألم، وهذا من أنواع الكتابة الصعبة. وقد ارتقت أعماله إلى شهرة واسعة، لاسيما مسلسلاَ (ضيعة ضايعة)، و(الخربة) اللذان حقّقا أرقاماً قياسية في إعادة العرض على شاشات التلفزيون، ومن أسرار ذلك النجاح المفارقات المتوارية التي نكتشف المزيد منها في كل مرة.

 

◀ كتبت عن فنّ الكاريكاتير، ورسمت الكاريكاتير أيضاً، وأجد أنك تستخدم تقنياته بطريقة كتابة الروايات والقصص والسيناريو لأننا نجد في الحدث المفارقات المضحكة، وفي الشخصيات نماذج معروفة، ولكن مرسومة بطريقة ساخرة. فهل هذه الطريقة الساخرة هي الطريقة الأنسب للإشارة إلى الأخطاء بتهذيب لطيف؟ أو الطريقة الأفضل لإضحاك المتلقي وبالتالي الاستحواذ على اهتمامه؟

أعتقد أن هذه الأمور غير منفصلة عن بعضها، فمن يمارس فناً ما أو يمارس الكتابة والتأليف بالتأكيد لديه رغبة دفينة بممارسة باقي أنواع الفنون والأدب. ولو امتلك الكاتب الإمكانيات التقنية لوجدته يرسم ويعزف وربما يرقص، وكذلك الفنان التشكيلي والموسيقي وغيرهما، وإن أُتيح له ممارسة الأشكال الأخرى فهو سيفعل ذلك، ولدينا الكثير من الأمثلة على فنانين أو كتاب اشتهروا بممارسة عدة أنواع فنية، وهذا منذ قديم الأزل وليست ظاهرة من العصر الحديث.

بالنسبة للسخرية منذ ظهورها تعتمد على إظهار الأخطاء ورصد الظواهر السلبية، سواء في الطبيعة البشرية أو في المجتمع أو في إدارة المجتمع، وفيها عدة أنواع يمكن أن نقسمها افتراضياً إلى (ترفيهي) وهو ما يبنى عليه الكثير من الأعمال الكوميدية، وهذه عادة يكون هدفها الإضحاك فقط، ولا تضع الإشارة إلى الأخطاء هدفاً لها، وتكتفي باستخدام الزلات اللفظية والحركية والمفارقات اليومية التي تشبه النكات إلى حد بعيد، وليس لها أهداف أخرى. أما النوع الثاني من السخرية فهو النوع (الناقد)، والذي يشير إلى الأخطاء من أجل لفت النظر إليها ومعالجتها. والنوع الثالث وهو النوع الذي يحتوي على (التهكم) الحاد من الظاهرة أو الشخصية من أجل القضاء عليها.

◀ أعمالك أشهر من أن تعرف، ولكن الكثير مما يتابعون مسلسلاتك لا ينتبهون إلى اسم كاتبها، ربما كاتب السيناريو في أي عمل ناجح هو الجندي المجهول! كيف ترى الأمر؟ وإلى ماذا تعزو الأسباب؟

بشكل عام لا تتم إعارة الكاتب في الأعمال الفنية أهمية تذكر، ويتركز الاهتمام بشكل أكبر بكثير على من هو تحت الأضواء، وهذا ينمُّ عن مسحة من التخلف في تفكير مجتمعاتنا، وفي تفكير وسائل إعلامنا التي في أغلبها لا تمتلك مشروعاً ثقافياً، وتضع نصب عينيها هدفاً وحيداً هو استقطاب أكبر عدد من المشاهدين، وهذا أمر مشروع تماماً ولكن ما المانع في أن يكون ذلك ضمن إطار مشروع ثقافي شامل ينصف الجميع ويعطي كل ذي حق حقه؟ بعض المحطات التلفزيونية والمنصات تحاول فعل ذلك، ولكن معظمها غير مهتم بالموضوع. بالنسبة لي تآلفت مع هذا الأمر ولم يعد هذا الاهتمام يعنيني لا من بعيد ولا من قريب، فمن يريد التعرف علي مرحب به دائماً، وله كل التقدير والاحترام، ومن يتجاهلني فلن أشعر بوجود نقص في حياتي بسبب تجاهله أبداً، ولكن بالنسبة لي فقد أصبح اسمي متداولا بعد عدة أعمال أهمها "بقعة ضوء"، و"ضيعة ضايعة"، و"الخربة" وغيرها، ويمكن القول: إن اسمي خرج إلى طرف دائرة الضوء نسبياً، ولم يعد يعامل بالتجاهل كما كان عليه الوضع سابقاً، ولكن ذلك لم يحدث إلا بعد أن قدمت أكثر من ثلاثين عملاً معظمها لاقى نجاحاً شعبياً، ولا يزال بعد مضي ربع قرن يعرض ويتابع بنفس الحرارة على الشاشات، فما بالك بمن قدم عملين أو ثلاثة، ربما احتوت على قيمة فكرية وثقافية كبيرة، هذا ربما لن يعرفه أحد، إن التعامل مع الكاتب في بلداننا ينقصه المعايير الأخلاقية والقانونية والمالية، وهو مظلوم في جميع هذه النواحي، وأنا أعتقد بأن هذا الموضوع ستتم معالجته، ولكن بعد مرور زمن طويل يكون قد حدث فيه تغيير في جميع هذه المجالات.

◀ بدأت بكتابة الروايات والقصص، ثم كتبت السيناريو الذي حقق لك الشهرة. هل يعود السبب إلى رغبتك في وصول أفكارك لأوسع شريحة من الناس؟ أو أن التعبير بالكلمة لم يعد يتسع للتعبير عن أفكارك التي تريد عرضها على الشاشة؟

على العكس تماماً.. التعبير باللغة الأدبية أوسع بكثير وأعمق بكثير من التعبير بصرياً، ويمنحك فرصة أكبر بكثير مما تمنحه لك المسلسلات في تقديم نفسك فكرياً بشكل أصفى وأكثر وضوحاً، فالعمل الأدبي عمل فردي لا أحد يتدخل فيما تريد قوله فيه. أما العمل الفني فسيتعرض لتدخل المخرج والممثل ومصمم الأزياء وكل العناصر الأخرى في العمل، أضف إلى ذلك الرقابة، وجهات أخرى كثيرة.

بكلام آخر، أنت تحتاج في العمل الفني إلى مهارة عدد كبير من الناس لكي يصل ما تريد قوله إلى الجمهور بشكل صحيح حتى ولو بنسبة ما. بالنسبة لعلاقتي بمهنة كتابة السيناريو فأنا درست الصحافة، وعدت إلى البلد للعمل كصحفي، ولكن ذلك لم يتح لي فبدأت رحلة البحث عن العمل التي قادتني فيها الدروب إلى كتابة السيناريو. أما الحقيقة فإنني عندما أصدر كتاباً ينتابني فرح يعادل الفرح الذي تولده في نفسي ثلاث مسلسلات ناجحة.. رغم اختلاف الجدوى المادية وتحقيق الشهرة بين الأمرين، ولو أتيح لي دخل كاف لتفرغت بشكل كامل للكتابة والبحث، وتوقفت عن الكتابة للدراما التلفزيونية نهائياً.

◀ يبقى مسلسل (ضيعة ضايعة) بجزأيه، ومسلسل (الخربة) أكثر أعمالك التلفزيونية شعبيةً.. ما سبب هذا النجاح الباهر الذي استحوذ على ملايين المشاهدين؟

أعتقد أن عدة مقومات اجتمعت في هذه الأعمال جعلتها تحصل على هذا الرصيد القيم، أولها الموضوع، ففي جميع هذه الأعمال تم طرح مواضيع مهمة لم يكن طرحها في حينه بالأمر السهل، وثانيها طريقة الحبكة التي اعتمدت البساطة أو كما يقولون السهل الممتنع، والإخراج الذي لا يمكن تجاهل أهميته في تقديم العمل للناس؛ فإن لم يفهم المخرج ما يقرأ سيؤدي ذلك إلى كارثة للعمل وهذا يحدث كثيراً - وحدث معي في أكثر من عمل- أضف إلى المخرج الممثل الذي يساعد أداءه كثيراً بنجاح العمل، ولكنه يساهم بشكل أكبر بفشل العمل إن كان أداؤه متواضعاً، في الأعمال المذكورة يمكن القول إن معظم هذه المقومات كانت متوفرة، وكان التفاهم بين جميع الأطراف في أعلى مستوياته.

◀ هل ننتظر منك مسلسلاً يحقق الحضور المميز الذي حققه مسلسل (ضيعة ضايعة)، ومسلسل (الخربة)، ولن أقول مسلسلاً يتجاوز هذين؟

في الكوميديا عليك أن تكون حذراً جدّاً؛ لأن عدم وصول فكرتك وعدم تحقيق شروط النجاح سيعرضك للجلد بقسوة من قبل غالبية الجمهور، ولن يشفع لك نجاحك في أعمال سابقة -إلا قليلاً- لذلك فقبل اتخاذ القرار بالقيام بمثل هذه الخطوة لا بد من التفكير ملياً، هناك بعض الأعمال موضوعة على الطاولة أرجو أن يرى بعضها النور قريباً.

◀ في الرواية أو القصة أنت صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في النص، ولكن السيناريو يخضع لرؤية المخرج، إضافة إلى أن لكل ممثل حضوره الخاص. فهل تجد أن هذا يثري النص الذي تكتبه، أو قد يوجه نصك في دروب لم تخطر لك من قبل؟

لا بد أن ذلك يؤثر بشكل كبير-كما قلت- وتوفر التفاهم المشترك- وخاصة مع المخرج- يؤثر كثيراً على مصير العمل لاحقاً، ووجود عدة أطرف يثري النص بكل تأكيد إن كان الجميع أصحاب حرفة، وعكس ذلك يدمر النص.

◀ يقول كثير من الباحثين إننا نعيش في زمن الصورة وليس الكلمة، وأن المستقبل للشاشة وليس للكتاب. كيف ترى الأمر من منظور تجربتك التي قدمتها في الكتب وعلى الشاشة؟

أعتقد أن ذلك مبالغ فيه! فمن يسمع ذلك يعتقد أننا كنا "فئران كتب" كما يقولون، وهذا غير صحيح، فنسبة القراء في مجتمعاتنا كانت ضئيلة للغاية، وهي قد اتسعت أكثر الآن. ولكن ما يشعرنا بعكس ذلك هو ازدياد إمكانية النشر بشكل يفوق قدرة القارئ على التمييز والشراء في آن معاً، ففي الستينيات مثلا، حيث كان يصدر سنوياً عشرات وربما مئات الكتب في البلد الواحد النشط معرفياً، وفي البلد غير النشط، لم يكن عدد الكتب الصادرة يتجاوز أصابع اليدين سنوياً، كان القارئ يعرف بصدور الكتاب قبل أن يصدر، وينتظر ذلك لاقتنائه، وبالتالي لم يكن القارئ محتاراً في ما يختاره من الكتب، ولم يكن من الصعب عليه شراء جميع الكتب الصادرة، أو شراء جزء كبير منها على الأقل.

الآن أصبح النشر دراسة يستطيع كل شخص أن يدفع 500 دولار لدار النشر ويخرج كتاباً، يسجله تحت النوع الذي يريد (رواية- شعر- قصة- إلخ) ويكتب. يصدر سنوياً آلاف وربما عشرات الآلاف من هذه الكتب الركيكة التي حين يقتنيها يشعر بخيبة إذا تكررت عدة مرات تجعله يقلع عن القراءة، ولذلك فعندما ندخل إلى معرض للكتاب -وهو الشكل الأكثر رواجاً الآن لبيع الكتب- قد نشعر بدوار يشبه دوار البحر لكثرة العناوين التي لن تتمكن مهما فعلت من الاطلاع على ربعها- إن كنت مهتما- وبالتالي فإن عجز القارئ عن إمكانية الاختيار وإمكانية الشراء يحول الكتاب إلى فريسة سهلة لغبار المستودعات. باختصار يمكن القول إن حالة كساد الكتاب يعود سببها إلى الإنتاج الكبير الذي يقابله جمهور قراء صغير مما يؤدي إلى حالة كساد كبير.

أما الشق الثاني من السؤال بأننا في عصر الصورة؛ فإن الرواية أو القصة هي أيضاً صورة بشكل أو بآخر، وربما صورة أكثر أهمية، ففي حين تقيد العدسة خيال المشاهد تقوم الرواية بفتح باب خياله على مصراعيه؛ لأن الكلمة بحد ذاتها صورة والذي يقرأ لا يقوم بمشاهدة الكلمات وحروفها وإنما يشاهد صوراً، فالمفردة هي بالأصل رمز لصورة يشكلها القارئ في خياله، وهو عندما يقرأ يشاهد في هذا الخيال ما يقرؤه، وعندما يقرأ مفردة (امرأة) على سبيل المثال، سيتخيل امرأة بالمواصفات التي يقررها خياله المتشكل من تفاصيل كثيرة، وسيحدد شكلها ولباسها وحركتها إلى آخره - أما الصورة التلفزيونية فستقيده بصوفيا لورين مثلا، وبطبيعة الحال شكلها وتسريحة شعرها إلى آخره. من هنا فإن الأدب السردي غير مفصول عن الصورة البصرية نهائياً وفيه يعتبر القارئ هو مخرج الرواية بصرياً، ولكن الأداة التي تحمل الصورة في التلفزيون توفر لها انتشاراً أكثر لسهولة دخولها إلى البيوت هي التي تجعلها أكثر تأثيراً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها