استيقظت ذات يوم من النوم على همس في أذني يقول: أنا قريب منك، أنا قريب منك، نظرتُ حولي فلم أجد أحدًا، عاودت النوم فإذا بنفس الهمس.. استيقظت هذه الليلة وأخذني عقلي إلى ذكريات طفولتي فكم كنتُ طفلًا عنيدًا لا أُبالي شيئًا، فلقد خلقني الله أتمتع بقوة في جسدي، لذا لم يكن عندي أصدقاء دائمون، الجميع يخشى بطشي وغضبي، وكلما كبر سني زادت قوتي، لكني منبوذ من الجميع.
في يوم ما كنت أتشاجر مع أمي كالعادة، ثم دخلت حجرتي ووضعت رأسي على الوسادة ولأول مرة أعاتب نفسي... لمَ أُعامل أمي هكذا، لمَ يعلو صوتي عليها ألم يكفني موت أبي قهراً بسبب سوء خلقي، وأنا أعاتب نفسي غلبني النعاس فإذا بالصوت الخافت يهمس في أذني: أنا قريب منك، فاستيقظت فزعًا، لكن سرعان ما غلبني النوم فإذا الصوت يهمس، لكن الصوت هذه المرة مخيف جدًا، قمت من نومي وأنا أصرخ... ابتعد عني، لا أحب سماعك، جاءت أمي من حجرتها مسرعة وقالت: ما بك؟ قصصت لها ما حدث، فقالت هو مجرد حلم لا تشغل بالك به، ثم سألتني ماذا فعلت في الجامعة اليوم، قلت لها رغم أني متفوق ليس لي أصدقاء، قالت أمي لا بُدّ أن تعامل الناس بخلق حسن حتى تكسب حبهم، ولا بد أن تكون صبورًا متسامحًا، قامت أمي وهي حزينة، قلت لنفسي بالفعل إنسان سيء أغتر بقوتي وكل من يختلف معي أتشاجر معه، لمَ كل هذا التكبر والعناد، كان لا بد أن أعتذر لأمي لسوء معاملتي لها، لكن أنا غير قادر على التخلص من صفاتي القبيحة، نمت وأنا حزين فحدث ما حدث سلفًا، الهمس المخيف عاد، أنا قريب منك، قريب، قمت مرتعداً خائفاً لأول مرة أشعر بالخوف، دخلت حجرة أمي وارتميت في أحضانها وقلت لها أنا أحبك يا أمي كثيراً. ضمتني أمي وهي تقول يا ربّ اهدِ لِي "سليمان"؛ إنها لا تملُّ من هذا الدعاء، نمت في حضن أمي لأول مرة منذ أن كنت صغيرًا، رأيت في المنام مخلوقًا ليس له ملامح كأنه نسيج من التراب هو بالفعل كتلة تراب، قلت له من أنت؟ وما هذا التراب الذي عليك؟ قال أنا التراب، قلت له وأنا خائف ماذا تريد مني؟ قال: أريدك وأريد أن يرجع كل إنسان إلى التراب.. أنا الموت! قلت له وأنا أصرخ لا أريدك، ابتعد عني، قال: يا سليمان لقد حان وقت رجوعك، أخذت أبكي وأتوسل إليه، قال أنا قريب منك، قريب، قلت له أنت من كنت تهمس في أذني؟ قال: لا، بل الموت من كان يهمس لك، قلت له لا أريد الموت الآن، قال التراب لقد فات الوقت، أنت تموت الآن، انظر إلى قدميك لقد ذابت على التراب، نظرت إلى قدمي فإذا بهما أصبحتا تراباً، وبدأ باقي جسدي يذوب فرفعت يدي وأنا أصرخ فذابت هي أيضًا، وقبل أن تذوب رأسي صرخت، لا أريد أن أموت، أنا نادم على كل ما فات، اتركني، فإذا بأمي تربت على كتفي، وتقول: اهدأ يا بني اهدأ، أنت في حضني، نظرت إليها وأخذت أحتضنها وأقول لها: سوف أتغير يا أمي، ولن أتسبب في أذى أي إنسان، سأكون متسامحًا، سامحيني يا أُمي، وأخذت أقبّلُ رأسها ويديها، قالت أمي: الحمد لله الذي هدى لِي سليمان، الحمد لله..
لم يعد الصوت يهمس في أذني، لكني الآن أستيقظ على همس أمي كل صباح وهي تقول: قم يا سليمان كي نُصلي معاً، أصبحت أعشق النوم تحت قدم أمي أعشق كلمات أمي، ضحكة أمي، وهمس أمي.
هذا همس وذاك همس، لكني أعشق همس أمي..