ومن الفُضول ما قتل..

د. فهد أولاد الهاني


لم يكن محلّ الحِلاقة الذي اعتدتُ التردّدَ عليه بعيداً عن منزلي، بل كان يفصِل بينهما زُقاقٌ ضيِّقٌ يفضي إلى شارعٍ عصريٍّ شاسع. ولم يكن صاحبُه عبد السّميع خفيف الظّل ولا ثقيله، ربّما كان الرّجلُ بين هذا وذاك؟ لكنّه كان كثيرَ الفضول يقتات بلسانه على كلّ هزيلة وسمينة. لقد ألِفْتُ منه طيرانَه الاستطلاعيّ الذي يتقصّى به القاصي والدّاني من الأخبار، وألِفتُ منه مدى احتياله في اصطياد كلّ ما يقع من الأحداث. كان مهوُوساً بأخبار الغير، مُرسِلاً لسانه بمعيّةٍ من أذنيه لمعرفتها، كما أنَّ لأنفه -أحياناً- نصِيباً في مثل هذه المهام. وكيف له ألا يفعل ذلك؟ وهو الذي يجري على لسانه ما ظهر من أخبار الحيّ والجيران وما خفي منها.

أذكرُ ذات صيف أنّني ذهبتُ إليه لحلق شعري الذي استرسل بمرور الأيام، وأذكر كذلك أنني انتظرتُ دوري بملل وكثيرٍ من القنوط، وقد سبقني شخصان، أحدُها: شيخٌ مسنٌّ كان قد جلس توّاً على كرسي الحلاقة، والآخر كان طفلاً لم يبلغ الحلم بعد. لقد انشغلتُ أثناء فترة الانتظار بقراءة الجرائد الصّفراء التي تناثرت على طاولة من زجاج عتيق، كانت تلك البقايا من الجرائد ملجأ ألوذ به ممّا يهيمنُ على المحلِّ من استنطاق بوليسيٍّ عميق. كانت أصوات المقصّ تدوي فوق رأس الشّيخ الذي أرخى جسده على الكرسي واستسلم كطفل وديع، وكانت أسئلة الحلاق تحاصر الزّبون من أذنيه، لكنّ الزبون لم يكن يقوى عن الردّ عليها جميعاً، لقد ظل متوجِّساً من حركات عبد السّميع، ولا يكاد يطمئن له. لعلّه كان خائفاً من أن ينزلق المقصُّ عن قصده فيسبّب له الأذى أو بعضاً منه على الأقل. وبين مقصّ الحلاق وآذان الزبائن أفلام من الرّعب وأخبار من الخرافات والأساطير...

لقد كان عبد السّميع منهمكاً بهوايته التي ملكت قلبه وعقله وسمعه. كان لا يتوقّف عن استفسار الشيخ عن أولاده واحداً تلو الآخر، حتّى إذا ما استشعر بعضَ الخجل أرْدَفَ أسئلته بصيغ من الأدعية المحنّطة والجاهزة، أدعية يُغلِّفُ بها فضوله بلونٍ من الخير والمحبّة، ثمّ لا يكاد يصبر فيعود إلى السّؤال من جديد عن بنات الشّيخ جميعهن، لقد بالغ في السّؤال عن هناء التي ذاع خبرُها بين الجيران بأنّها توجّهت لفرنسا بغرض دراسة الطّب. أراد أن يعرف هل ما زالت تدرس بفرنسا؟ وفي أيّ نوع من الطبّ تخصّصت؟ وهل توظفت أم لا؟ وماذا عن المهندس الذي تقدّم لخطبتها؟ هل ما زال يعمل بالدار البيضاء أمْ حصل على انتقال إلى مدينة تطوان؟ كانت الأجوبة تنزلق من فم الشّيخ دون رغبة، وكان الحلاقُ يقتلعها أحياناً مثلما يقتلع طبيبُ الأسنان ضرساً مغروزاً في لثة زبون. يلتقطها بحبّ واهتمام، يعتني بها ويرعاها طمعاً في أنْ يزوّجها لزبون آخرَ في وقت لاحق. فالرّجل يتوفّر في محلّه على صبيب فضول مرتفع يتشارك بواسطته كلّ معلومة. بعد حين من الوقت فرغ الحلاق من قصّ شعر الشّيخ الوديع، تقاضى منه ثمن خدمته، ولسبب ما تعمَّد الشيخ أن يدفع المبلغ قطعاً معدنيّة. رمقها "السّي" عبد السّميع بنظرة خاطفة تظاهر من خلالها بأنّه يثِق في الزّبون وأنّ المبلغ لا يحتاج إلى تدقيق، ثمّ ألقى بها مجتمعة في جارُور خزانته البيضاء، لكنّه علق على الشّيخ بقوله:
- نقودك أجِدُ فيها دائماً رائحةَ عطرٍ جميلة. فمن أينَ لك به؟

ضحك الشّيخ وضحكتُ معه. أمّا الطفلُ الصّغيرُ لم يكن ليدرِكَ بعد بأنَّ صاحب المحلّ قد جعل من دكانه مركزاً للاستخبارات العامّة؛ يحقّق فيه مع الزّبناء، يستنطِقُهم بذكاء، يستدرج ألسنتَهم بلين، ويدقّق في أدقّ التّفاصيل. ردَّ الشّيخُ مع ابتسامة مصطنعة:
- إنّه هديّة من عزِيزٍ عليّ. هدية من زميلٍ أعرفُه منذ زمنٍ بعيد.

كاد عبدُ السّميع أن يسأله عن اسم صاحبِ الهديّة، ونسبه، وعمله، وأصله، وفصله، وشحمه، ولحمه، وعن أمّه وأبيه وصاحبته التي تؤويه؛ لكنّ الشّيخ استغل رنّة هاتفِه فتنصّل منه بلطف. التفت الحلاق إليّ وهو بينَ تَبَسُّمٍ وغُبْن. قال لي:
- " نْهارْ كْبِيرْ هاذا أَ أُسْتَاذ".

 أجبتُه بصوتٍ يكادُ يُسمع:
- "الله يْكْبْرْ بِك".

التفت عبدُ السّميع حيث يجلس الزّبناء في الانتظار، وأشاحَ بوجهه عنّي ليطلب من الطّفل أنْ يجلس على كرسي الحلاقة بعد أنْ نظّفه قليلاً. جلس الطّفل، فأحاطه عبد السّميع بثوبٍ أبيضَ حتّى يحميه مِمّا تناثر من الشّعر المقصوص. وضع شريطاً لاصقاً حول عنق الزّبون، جذبه إلى الخلف قليلاً، عدل من وضعية الرأس، ضبط الكرسيّ ليرتفع حيث يكون الشّعر قريباً من نظره، ثمّ طفق يشتغل بمقصّه ومشطه في صمت. ظننتُه أشبع فضوله في هذا اليوم، لكنّني كنتُ مخطئاً في ذلك. إذ سرعان ما بدأ يمازح الطفل ويسأله عن مستواه الدّراسيّ؟ وبأيّ مدرسةٍ يدرس؟ وكيف هي نتائجه؟ وهل منزله يقع في الطّابق الثالث أم الرابع؟ وهل يكون فؤاد الولد المشاكس من أقاربه؟ ومن يكون ذلك الرّجل الضّخم الذي هشَّم عظام أحد المتسكّعين بمرأى من أهل الحيّ؟

هي أسئلة كثيرةٌ أجاب عنها الطفل ببراءته وأطنب في الردّ عليها، وكلّما أسهب الطفل في أجوبته إلا ووجد عبد السّميع لذّة في ذلك، كان يفرح بما يسمع حتّى علت وجهَه بشاشةٌ وغشيه نشاطٌ غير مألوف. نظرتُ إليه لعلّه يخجل فيُلجم فضوله قليلاً. لكنّ الرّجل كان خاشعاً متلذّذاً بما يحصل عليه من كنز، وكانت أسئلته تتساقط على الطّفل كالمطر الذي ينهمِر عند نهاية فصل الرّبيع. كانت ضرباتُ المقصّ ترافق أسئلته وتنشر في المكان لحناً من الفضول الغريب. لحناً يعزف نوطة تنذر بحدوث شيء ما. ما هو هذا الشيء؟ ومتى يحدث؟ لا أدري.

لكنّني أحسستُ بأنّ لحن المقصّ لم يعد يتناغم بطقطقته مع أسئلة الحلاق. بدأ يحدث بينهما نشازٌ في زمن التردّد، وبدأت الأسئلة تغطي على صوت المقصّ وتحجب ضرباته، وفجأة توقف المقصُّ عن اللحن بعدما صدرت عن الطّفل صيحةٌ حادّة مدوية. رفعتُ بصري مصدوماً من هول ما سمعت، كان عبد السّميع يلمس ما تبقى من أذن الطّفل بأصابعه. يحاول أنْ يكتشِف حجم الضّرر الذي أصاب أذن الضحيّة، وكان الطفلُ باكياً مفزوعاً من دمه الذي انعكس لونه على المرآة حتى رآه بوضوح، وكان عبد السّميع يحاول أن يمنع تدفّق الدم بمنديل ورقِيٍّ مُهترِئ، وكانت الأسئلةُ عالقة في حلقه حابسة ما تبَقى من نفسه، وكان عبد السّميع سَمِيعاً، لكنّه لم يعد كذلك بعد أن وثبَ عليه الرّجلُ الضّخمُ وأولادُه الكبار...

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها