لصقيعِ اللَّيالي في الشوارع والحارات حينَ لا يكون لكَ مَأْوَىً أَلمٌ قارسٌ، نزيفٌ لا ينتهي من الرُّوح والحياة، تِيهٌ في دوائر المجهول، حيث قد تكون النهاية، أو بدايةُ اللّاعودة.
هكذا كانت رُؤَايَ بعد أن خرجتُ من البيت المَليءِ بالحب والحزن، بالْعشقِ والأَلم، بالرَّبيع والخريف. بعدما طردتني زوجةُ أَبي في غيابه. أَقْسَمْتُ أَلَّا أعودَ. هي قادرةٌ، ذات مالٍ وجمالٍ، بيضاء ذات عينينِ زرقاوينِ. اسْتطاعت بما تملكُ من إغواءٍ أن تسيطر على والدي، بل تقهرهُ، ودائمًا ما كان يُنْصِفُهَا عليَّ.
خرجتُ طوَّافًا في دروبِ المدينة البلهاء، مدينةٌ تجمّلَ وجهها برتُوشِ الوجدِ وهالات التَّسبيح ونفحات الأْنوار، بينما يفيضُ باطنُها وتحت كباريها بالمشرَّدين والمحتاجين والجوعى، فيها يتزاحم أطفال الشوارع الَّذين لا يعرفون آباءهم، في عالمٍ موازٍ لا يظهر على السطح إلا عند النَّبش والتَّنقيب، أو في الثورات والحروب.
جلستُ أستظلُّ من الحر الشديد تحت إحدى البنايات، فإذا بشابٍّ أَسمر يرمقني على استحياءٍ.
تعرفت عليه، كان في مثل عمري تقريبًا، يسكن في إحدى الخرابات مع مجموعة من الأطفال في أطراف المدينة. كثيرًا ما كان أَثناء حديثنا، ينظر إلى السماء، وحين سألتهُ عن السبب، أجاب مبتسمًا: أبي هناكَ.
وبرغم أنه لا يعرف له أَبًا، كان يُطيل النظرَ إلى السماء بعفويةٍ، ويردِّد: هو الذي يرسل إليَّ الطعام والشراب، ويمدُّنِي بالحبِّ والحنان، يأْتي إليَّ كل مساءٍ، وأنا نائمٌ، يربِّتُ على كتفي، ويَلَثُمُ جبيني.
حاولتُ أن أفهم منهُ ما يعني بكلماته، جُلُّ ما يعرفه بفطرتهِ أَنَّهُ ينتمي إلى السماء، وسوف يعودُ إليها عندما يموتُ، كان يُؤْمنُ أَنَّ أباه هُناكَ، يسمعهُ، يُسانده، يُلَمْلِمُ شتاتَ قلبه الذي مزَّقته الدنيا، يمسحُ في الليلِ دموعهُ التي انسكبتْ من عناءِ النهارِ، ويُلقي في قلبهِ بنورِ الطُّمَأْنينةِ، فتهدأُ روحهُ التي عذَّبَتها الأيام.
مَرَّتِ الأَيامُ، وأنا بصحبتهِ، اِرْتَدْتُ بعضَ الخراباتِ، مُتَنَقِّلًا بين أصنافِ البشرِ.
كُنْتُ أسيرُ يَومًا وحدي على كورنيش النيل حيث الزِّحام، الناس أشكالٌ وألوانٌ، الشوارع نظيفةٌ، المباني عاليةٌ وبرَّاقةٌ، الملابس متنوِّعةُ على الأجساد المختلفة. أبهرني ما رأيتُ من عالمٍ جديدٍ، تمنّيتُ أن أرتدي ذلك الجينز الأزرقَ، والحذاءَ الأبيضَ، وأتبختر في زهوٍ وفرحةٍ مثل الشاب الذي يسير أمامي، لكنَّ تقلص معدتي من الجوع أعادني إلى الواقع، حين كانت عينايَ قد وقعتا على طفلٍ يلْعَقُ آيِسْ كَرِيماً مُلَوَّنًا وَجَذَّابًا. اِنْدَسَسْتُ في مَمَرٍّ ضيِّقٍ، أمام محلٍّ مُغْلَقٍ، كانت قطَّةٌ بيضاءُ تَأْكُلُ من بقايا وجبةٍ وضعها لها أحدُ أصحاب القلوب الرَّحيمة، نظرتُ إليها طويلًا، ثمَّ مَدَدْتُ يَدِي، حَدَّقَتْ القطةُ إليَّ في هدوءٍ، تجَرَّأَتُ واقْتَرَبْتُ بأصابعي من الطعامِ أكثرَ، تركتني أشاركها الطعام، وكأَنَّها شَعَرَتْ بمأْساتي.
تَذكَّرتُ لياليَّ الأُولى في التَّسكُّعِ، حينَ دخَلْتُ إلى مساحةٍ واسعةٍ خلف أحدِ المباني، أبحثُ عن أي شيءٍ مِمَّا يُلقيهِ النَّاسُ في القمامةِ؛ ليسْكُتَ ألم الجُوعِ في معدتي، لَمْ أجدْ وقتها ولو قطعةَ خُبْزٍ جافَّة، أعياني البحثُ عن بقايا الطعام، وكأَنَّ سكَّانَ المدينة أصابهم القَحْطُ، حِينَهَا لَمْ أَجِدْ سوى قِطَّةٍ بيضاءَ جميلةٍ، بِعَيْنَيْنِ زَرْقَاوَيْنِ، هالني التَّشابه بينها وبين وجه زوجةِ أبِي، أو هكذا خُيِّلَ إليَّ، ارْتَعَدَتْ أَوصَالِي، هل تُطارِدُنِي تِلْكَ الْمرْأَة في كلِّ مكانٍ؟
حتَّى في صورةِ قطَّةٍ، نَفَضْتُ تلك الأفكار عن رأسي، هي مُجَرَّدُ قِطّةٍ، تبْحَثُ مثلي عن الطَّعَام.
بعد وقتٍ من التَّرَدُّدِ، اقْتَرَبَتْ مِنِّي، رمقَتْنِي بنظرةٍ طويلةٍ حَذِرَةٍ، تركتها تَتَلَمَّسُ الدِّفْءَ بجواري، صَعَدَتْ على فخذي، مَدَدْتُ يَدِي، وَرَبَّتُّ على رأْسِها. شَعَرَتْ بالاطمئنان، تَحَرَّكَتْ أناملي على شَعْرِ رَأْسِهَا، شَخَصَتُ ببصري بعيدًا، حينَ عادَ وجهُ زوجة أبي جَليًّا في الأُفقِ، بينما كانت إحدى يديَّ تضغطُ على رقبتها، والأخرى تُمسكُ بغطاءِ علبة تُونَةٍ صَدِئٍ، سَالتِ الدُّموعُ على خَدِّي، خَمَدَتْ أَنْفَاسُ الْقِطَّةِ، وكَفَّتْ معدتي عن المواء.
قاسيةٌ خبطةُ قدمِ القطةِ التي كُنْتُ أُشَاركُها الطَّعَامَ، وكأَنَّها عَلِمَتْ ما فَعلتُ مع بني جِنسها، لكِنَّها لَمْ تكُنْ أَبَدًا بقسوةِ قُلُوبِ البشر، شَعَرْتُ للحظة أَنَّهَا نفس الْقِطَّة وقد عادَتْ للحياةِ من جديد، هل جاءتْ لتنتقم؟
يَقُولُونَ إنَّ لِلْقِطَطِ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ.
أَفَقْتُ على قطراتِ الدَّمِ تَسيلُ منْ يدِيْ، ونظراتُ صاحبة العيون الزَّرْقَاءُ تُعَنِّفُنِي على التَّمادي، ابْتَعَدتُ وقدْ فَاحَتْ من جَسَدِي رَائِحَةُ الأَسَفِ والْخَوْف... وَكَثِيرٌ مِنَ الِامْتِنَان.