المرآة في الفن الإسلامي

مِنْ أشْكَالِها إلى الأسلُوبِ الشّائع في زخرفتها

د. علي خلف علي


يُعد الفن الإسلامي من أعظم الفنون انتشارًا وأطولها عمرًا، حيثُ امتد كما هو معلوم قرونًا ساد فيها في رقعة واسعة تمتد من حدود الصين والهند شرقًا حتى المحيط الأطلسي غربًا، ومن الأناضول شمالًا حتى جنوب اليمن والبحر العربي وحتى أواسط أفريقيا جنوبًا.. لذا؛ فقد اتسمت ميادين الفن الإسلامي ومنتجاته بالتنوع والتعدد، وتكَون لكل إقليم من الأقاليم التي خضعت للإسلام طرز وأساليب فنية محلية تميز بها، وكانت تلك المميزات الخاصة ناتجة بالدرجة الأولى من تأثير مجموعة من العوامل، مثل الموقع والمناخ، والتضاريس والعوامل الاقتصادية التي كانت تسود كل إقليم، وتعد دراسة المرايا المعدنية حلقة بارزة من دراسة حلقات الفن الإسلامي، تلقي الضوء على هذه الفترة التاريخية..

 

المدلول اللغوي للمرآة:

المرآة لغة: هي ما تراءيت فيه، وقد رأيته إياها1؛ أي ما يرى الناظر فيها نفسه2، وهي لفظة مشتقة من الجذر الثلاثي (ر، أ، ي)3، ومنه فعل يتمرأى: أي ينظر وجهه في الماء4، كما جاء في الحديث: لا يتمرأى أحدكم في الماء؛ أي لا ينظر وجهه فيه، وزنه يتمفعل من الرؤية كما حكاه سيبوية5؛ إذًا المرآة بكسر الميم: التي ينظر فيها، وجمعها مرائي، ومرايا6.

المرآة في العصر الإسلامي:

عرفها المسلمون وكانت أداة مهمة وضرورية في تجميل الإنسان ونظافته عمومًا، بل إنها كانت من الهدي النبوي7، فقد كان الرسول الله صل الله عليه وسلم، إذا سافر أو ارتحل من مكان إلى آخر كانت من لوازمه، وقد ألصق استعمال المرآة بالنساء8، فالمرآة من الأدوات التي تهتم بها النساء عمومًا، حيث جرت العادة أن تحمل كل امرأة مرآة خاصة بها؛ كي ترى صورتها من حين لآخر؛ ومن هنا كانت أهمية المرآة9، غير أن المرايا استخدمها الرجال والنساء على حد سواء10.

وقد وقف الإسلام من التزين والتجميل موقفًا وسطًا، فهو لم يحرم التزين والتجميل11، كما في قوله تعالى "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"12.

ونستشف من الآية القرآنية أن الإسلام قد أباح للنساء أن تتزين، ولكن في نفس الوقت حذر من المبالغة في ذلك، ومن هنا نجد الفنانين والصناع قد عنو بأدوات التجميل ولكن بقدر ما نهجه الإسلام إزاء التزين والتجميل، ومن تلك الأدوات المرآة13. وقد ورد العديد من الأشعار عن ذكر المرآة، وعلاقتها بالمرأة، حيث قال الشاعر:
إذا الفتى لم يركب الأهوالا... فأعطه المرآة والمكحالا
واسعَ له وعُدّه عيال
ا14.

المرآة وسيلةٌ للإسعاد ومصدر للتشائم:

ربما كانت المرآة وسيلة إلى الإسعاد، فالمرآة من غير شك قد تبعث السرور في نفس المتفائل إذا نظر فيها، وكذلك المعجب بنفسه والمدلل بجماله، وقد ألمح أحد الشعراء إلى ذلك فقال:
كنتُ قد أهديتُ ورداً فادّعت... أنه من ورد خدّيها سُرق
ومَشت عجلى إلى مرآتها... فإذا ورد كوردٍ في الطبق
15

والمرآة في الوقت نفسه قد تكون مصدر ألم وحزن المتشائم، أو لمن أضر به المرض، أو كبر في السن. وهكذا ربما كانت المرآة وسيلة إلى الإسعاد أو اليأس، فقد ينظر إنسان إلى نفسه فيها فيسره شكله فيفرح، وقد ينظر فيها آخر فيسوءه منظره فيحزن، وربما ارتبطت في الأذهان بالحظ والفأل فاتخذت تميمة تجلب الحظ والسعادة، ولدفع الشر وتفادي الأخطار، وربما بولغ في ذلك فاتخذت كأداه للسحر والشعوذة، ولذلك كان الصناع الإسلاميون يتحرون صنع المرايا أحيانًا في طالع سعد، حتى تجلب لصاحبها الخير وتصرف عنه السوء والشر16.

المرآة وقوتها السحرية:

لم يكن الاعتقاد بأن للمرايا قوةً سحرية تؤديها اعتقاداً لدى المُسلمين فقط، بل كان معروفًا مُنذ القدم عند أهل الصين، حيث كان لديهم اعتقاد راسخ في أن المرآة تُفيد في السحر والشعوذة، وأنها من الأدوات المقدسة التي لا غنى عنها، فقد كانوا يُعلقونها حول أجسامهم لتجنبهم مواضع الزلل، وكانوا يدفنوها مع موتاهم لتنير لهم المقابر وتبعد عنهم الأرواح الشريرة17؛ لذا جاءت أساطيرهم حافلة بالحديث عن هذه النوعية من المرايا. ومن هذه الأساطير أن الإمبراطور "كاؤتسو" Kaotsu ( 206- 194 ق.م) مؤسس أسرة هان كانت تلازمه مرآة لتجلب له الفأل الحسن، وأن الإمبراطور "كيوان" Kaiyuan ( 713- 742م) استعان بمرآة خاصة للقضاء على مجاعة حدثت في عهده، فانطلقت سحابة من فم تنين مصور على ظهر المرآة، فأمطرت السماء سبعة أيام متتالية، وقيل إن المرآة كانت تُستخدم في معرفة الغيب، والأدب الصيني غني بأمثال هذه الأساطير، ومنها مجموعة "كوشنجشي" Kuchingchi المشهورة وأشعار "سوتونجبو" Sutungpo الرقيقة18.

المرآة أشكالها والأسلوب الشائع في زخرفتها:

عادة ما تأخذ المرآة هيئة القرص المستدير، لها وجهان؛ وجه مصقول يعكس صورة الوجه، والآخر يزخرف بعناصر زخرفية مختلفة (عناصر آدمية- حيوانية- نباتية- هندسية- كتابية- كائنات خرافية)، وأحيانًا يكون على شكل موضوعات تتعلق بفلسفة علم الغيب19.

وكانت المرآة تُمسك إما من مقبض يكون متصلًا بالمرآة، وهذا المقبض مصنوع من قطعة واحدة مع القرص نفسه، أو مضافًا إليه، وفي هذه الحالة الثانية نجد زخرفة المقبض تختلف تمامًا عن زخرفة باقي المرآة، أو أن يكون جزءًا بارزًا في وسط المرآة من ناحية الجزء المزخرف، وهذا الجزء يكون به حلقة يمر بها شريط كي تعلق منه المرآة20، وفي هذه الحالة يُستغنى عن المقبض21.

والأسلوب الشائع الذي استخدم في زخرفة هذه المرايا، هو تقسيم الوجه غير المصقول إلى عدة دوائر ذات مركز واحد، وتزخرف كل دائرة من هذه الدوائر بعنصر زخرفي من العناصر السابقة، وقد يشغل الموضوع الزخرفي سطح المرآة كله بدون تقسيمه إلى هذه الدوائر، كما نرى أحيانًا دائرة صغيرة في الوسط، وجدير بالذكر أن بعض هذه المرايا مكفتة بالذهب والفضة، وكانت تزخرف بواسطة الطرق والحفر (بارز-غائر)22.

 



الهوامش: 1. ابن منظور (جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي بن أحمد بن أبي القاسم - ت 711هـ/ 1311م)، تحقيق عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، وآخرون، مج6، دار المعارف، القاهرة، دت، ص: 4167.2. إبراهيم مصطفى، وآخرون، تحقيق مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ج1، طهران، 1972م، ص: 320.3. ابن منظور، لسان العرب، ص: 4167.4. لويس معلوف، المنجد في اللغة والإعلام، ط38، بيروت، 2000م، ص: 243.5. ابن منظور، لسان العرب، ص: 1094، راجع أيضاً: محمد حمزة حسين الطائي، المرايا في العراق القديم في ضوء النصوص المسمارية، آداب الرافدين (العراق)، ع 65، 2013م، ص: 424.6. إبراهيم مصطفى، وآخرون، المعجم الوسيط، ص: 320.7. قالت عائشة -رضي الله عنها- كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا سافر حمل معه خمسة أشياء، المرآة، والمكحلة، والمقراض، والسواك، والمشط، وفي رواية أخرى عنها –أي عائشة رضي الله عنها- ستة أشياء وفي رواية ثالثة سبعة أشياء، للمزيد راجع: الغزالي (أبو حامد محمد ت 505هـ/ 1111م)، إحياء علوم الدين، مج2، ج6، دار الشعب للنشر، دت، 1098؛ وفي رواية عن أم سعد الأنصارية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يفارقه في السفر المرآة والمكحلة، للمزيد راجع: الغزالي، إحياء علوم الدين، مج2، ج6، ص 1098؛ محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، مج9، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 2001م، ص: 250. ومن الهدي النبوي أنه عند النظر في المرآة كان يقول "الحمد لله الذي سوى خلقي فعدله وكرم صورة وجهي وحسنها وجعلني من المسلمين"، للمزيد راجع: الطبراني، أبي القاسم (سليمان بن أحمد ت 360هـــ/ 970م)، المُعجم الأوسط، تحقيق طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، ج1، دار الحرمين، القاهرة، ط1، 1995م، ص: 240.8. نبيل علي يوسف، موسوعة التحف المعدنية الإسلامية مصر منذ ما قبل الفتح الإسلامي وحتى نهاية العصر المملوكي، مج2، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 2010م، ص: 319، عبد الحميد عبد السلام محمد، مجموعة التمائم والأحجبة المحفوظة في متحف الفن الإسلامي بالقاهرة "دراسة آثارية فنية"، رسالة ماجستير، غير منشورة، كلية الآداب، جامعة عين شمس، 2015م، ص: 56.9. أيمن مصطفى إدريس، الوظيفية في الفنون التطبيقية الإسلامية في ضوء نماذج من مصر حتى نهاية العصر العثماني(21-1220هــ) (641- 1805م) دراسة أثرية فنية، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة طنطا، 2014م، ص: 322.10. نبيل علي يوسف، موسوعة التحف المعدنية الإسلامية مصر، مج2، ص: 319.11. حسن الباشا، موسوعة العمارة والفنون الإسلامية، المرآة، أوراق شرقية، بيروت، ط1، 1999م، ص: 206.12. القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية: 32.13. حسن الباشا، موسوعة العمارة والفنون الإسلامية، المرآة، ص: 206.14. أيمن مصطفى إدريس، الوظيفية في الفنون التطبيقية الإسلامية، ص: 322.15. الحميدي (الإمام أبي محمد بن أبي نصر فتوح بن عبدالله الحميدي- ت: 488هــ): جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، تح: روحية عبدالرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، 1977م، ص: 237.16. حسن الباشا، موسوعة العمارة والفنون الإسلامية، المرآة، ص: 207.17. جمال محرز، المرايا المعدنية، مجلة كلية الآداب، جامعة الملك فؤاد، مج15، ج1، مايو 1953م، ص: 137.18. أحمد حمدي معدات التجميل، ص: 70، 71.19. عن ذلك راجع كلًا من، أحمد ممدوح حمدي، أدوات التجميل، ص: 69، جمال محرز، المرايا المعدنية، ص: 130؛ نبيل علي يوسف، موسوعة التحف المعدنية، مج2، ص: 319، عبدالحميد عبدالسلام، التمائم والأحجبة المحفوظة بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة، ص: 57.20. أحمد ممدوح حمدي، أدوات التجميل، ص: 74، 75، أحمد عبد الرازق، المرأة في مصر المملوكية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م، ص: 162.21. علاء الدين محمود محمد، القطع الفنية التطبيقية للمرأة في مصر وبلاد الشام في العصر المملوكي، دراسة أثرية فنية، رسالة ماجستير، كلية الآثار، جامعة القاهرة، 2011م، ص: 119.22. جمال محرز، المرايا المعدنية، ص: 421، أيمن مصطفى إدريس، الوظيفية في الفنون التطبيقية الإسلامية، 324.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها