قبل أن يكون ساخراً كان أدباً، والأدب قيمةٌ فنيةٌ تصبغ الكلام بطابعٍ أخلاقيٍّ قبل أن يكون فنياً؛ فتحسين الكلمة قبل إلقائها في وجه الغير هو أدبٌ وإن كانت غايته الفكاهة أو السخرية. وقد قيل في هذا النوع من الأدب الكثير، لكنَّ الغاية منه هي النقد، وإظهار المثالب والعيوب في غرضٍ بعينه وشخصية بعينها.
شاع هذا النوع من الكتابة الأدبية ولقي رواجاً في العصور الأدبية القديمة؛ ابتداءً من اليونان القديمة وصولًا إلى الأدب العربي بعصوره الجاهلية والإسلامية والأموية والعباسية، وانتهاءً بالعصر الحديث.
لكن قبل الحديث عن الأدب الساخر عربياً، ظهر هذا النوع من الكتابة مسرحياً، بما يسمى الكوميديا أو (الملهاة)، فالكوميدي ظهر بوصفه أحد مفاهيم علم الجمال في الفلسفة اليونانية القديمة، الذي يمكن عده مقابلاً عكسياً لمفهوم التراجيدي، غير أنَّ هذا المفهوم؛ أي الكوميدي، لم يحظَ بعناية الفلاسفة والمنظرين كما هو الحال في التراجيديا وباقي مفاهيم علم الجمال، لكن بالنظر إلى مقابله النقيض (التراجيدي) يمكن استجلاءُ مضمونه، فالضدُّ يُظهرُ حُسنَهُ الضدُّ: فالتراجيديا كما يعرّفها أرسطو هي المأساة التي من شأنها أن ترفع النّاس إلى أعلى عبر تقنية التطهير بإثارة مشاعر الخوف والرحمة. وإذا وضعنا مفهوم الكوميدي قبالة هذا الذي قيل؛ فإن الكوميديا من شأنها أيضاً التطهير، فكلا المفهومين يقومان على صراعٍ؛ الأول ثمة بطلٌ يصارعُ من أجل البقاء ويناضل لإعلاء مثالٍ أعلى، والثاني صراعٌ مع المفاهيم الخاطئة، لكنه صراعٌ مضحكٌ غايته إثارة الشعور بالبهجة لأنه يحاكي الرذائل لا الفضائل، ويصورها تصويراً هزلياً. وفي الحالتين (التراجيديا والكوميديا) ثمة تطهيرٌ وتفريغٌ لانفعالات الإنسان الغائمة واللاواعية نحو الفضيلة والبهجة، وفي النهاية الارتقاء بالإنسان عبر الفن.
بدأت الكوميديا منذ زمن بعيدٍ، والملهاةُ نوعٌ من التمثيل يقوم على تصوير أشخاصٍ معينين في صورٍ مضحكةٍ تقوم على المفارقات في الشخصية أو السلوك، وأول ما سُطّر في التأريخ لها في اليونان القديمة مسرحيات (أريستوفان)، وهو مؤلفٌ مسرحيٌّ كوميديّ، ويعدٌّ رائد الفن المسرحي الساخر في اليونان القديمة.
هاجم أريستوفان أصحاب الفكر الجديد من الفلاسفة في ذلك الوقت أو ما يُسمّون أهل الجدل السفسطائي، وأبرزُ من طالته سياطُ نقده اللاذع الساخر هو الفيلسوف الشهير سقراط؛ الذي هاجمه أريستوفان في مسرحية السُّحب، في حكايةٍ طريفةٍ ومضحكة تدور حول المراوغ (الشيخ ستربسياديس) مالك الأراضي، الذي غرق في الديون لأن زوجته مأخوذةٌ بحياة الترف، وابنه يسرفُ في الإنفاقِ من دون حسابٍ على هوايته المفضلة (سباق الخيل)، فيسمع المراوغ أنّ سقراط لديه القدرة على أن يقلبَ الحقَّ باطلاً؛ فيطلب من ابنه أن يذهب إلى سقراط لتعلّم هذه المهارة التي تمكّنه من التخلص من دائنيه وديونه، لكن ابنه يرفض فيذهب هو بنفسه إلى سقراط لتعلّم طريقةِ جعل الحقّ باطلاً!
وعلى الرغم من انطواء الكوميديا على السخرية إلا أن أرسطو قال عنها مع تطور أدواتها إنها تحمل هماً تصحيحياً؛ لأن الفنان الكوميدي يعكس دواخله أمام الناس من أجل إظهار مواطن الحماقة والسلبية في النفس، بما يدفع المجتمع لتصحيح السلبيات من خلال السلوك الاجتماعي.
تطور هذا الفن فيما بعد وكان من أبرز الكتّاب فيه شكسبير وموليير وأوسكار وايلد.
تلا ذلك ظهور الكوميديا السوداء وهي لا تختلف عن الكوميديا بشكلٍ عام إلا من خلال الموضوع، إذا تمتاز بأنّ مواضيعها عبارةٌ عن (تابو) أو محرّم لا يمكن المساس به؛ إذ يتم تناول هذه الموضوعات بجدِّية لكن بطريقة ساخرة، وهذه الموضوعات بطبيعة الحال لا يمكن لها أن تكون هزلية أو مضحكة مثل (الحرب والعنف والجريمة والجنون)، فهي موضوعات تقوم على السوداوية وتعتمد على الإيلام؛ لكنّ المفارقة تكمن في التجسيد بما يدفع إلى الضحك، وهذا مكمن الصعوبة في تناولها، إذ ليس القصد منها الهزل؛ بل النقد اللاذع أحياناً، ومن أبرز الكتّاب فيها: جورج برنارد شو ومارك توين..
◄ عربياً:
كان الشعر سيّد الموقفِ البلاغي الفني الكلامي؛ إذ لم يكن المسرح ذا حضورٍ عربيٍّ متقدمٍ، بل اتَّخذ الشعر المكان والمكانة، لكنّ موضوع الكوميديا لم يكن غائباً؛ إنما اتخذ أوصافاً وتسمياتٍ أخرى كالهجاء والمقامات. وهي تقوم على النقد اللاذع، وقد تتناول جانباً معيناً في السلوك البشري الذي يحتمل النقص والتشويه أو العيب الخُلُقيّ، ومن أطرف الحكايات التي جاءت في هذا الباب حكاية (أشعب الطّماع)، الذي كان له حضورٌ بارزٌ في نوادر الأدب العربي، وكان بجانب الطمعِ بخيلاً للغاية، ويذكر عنه أن إحداهنّ طلبت منه: أنْ هبْ لي خاتمكَ لأذكرك به! فأجابها: اذكريني بالمنع! فأصبح حديث مسامرات المجالس، وكانت كلُّ حكايةٍ عن االبخل والطمع تُنسب إلى أشعب. ومثلها حكايات (جُحا) التي شاعت أيضاً في العصر العباسي، ومثل جحا كان (أبو دُلامه) وهو شاعرٌ عباسيٌّ وظّف شعره في السخرية حتى أنه سخر من نفسه، ومثله أيضاً الأصمعي، وهناك (أبو الفتح) البطل الوهمي لمقامات بديع الزمان الهمذاني؛ الذي عُرف بفصاحته وخداعه وقدرته على التخلص من أي مأزقٍ يقع فيه بالحيلة، وحكاياته؛ التي تُروى في القمامات على لسان راوٍ وهميٍّ أيضاً هو (عيسى بن هشام) على الرغم من أنها ترسم البسمة إلا أنها أيضاً تثير الدهشة والعجب من مقدار الحيلة وسرعة البديهة التي يتمتع بها صاحب هذه الشخصية.
وقد ألّف الجاحظ (البخلاء) ذاكراً فيه نوادرهم وحماقاتهم، وقد صوَّرهم الجاحظ تصويراً حسياً واقعياً فكاهياً، وكشف خباياهم النفسية في قصصٍ قصيرة، لكن لا يخفى أنَّ الهدف من هذا الكتاب ليس السّخرية منهم بقدر توجيه المجتمع إلى أن لا يحذو حذوهم فيصبحَ فريسة الهزل، وقد وصفت هذه الحكايات بأنَّها تربوية.
وأقوى أنواع الأدب السَّاخر هو الهجاء في الشِّعر العربيّ، الذي يقوم على ذكر سلبيات المهجو، وأبرز المشهورين في هذا الفنِّ هو الشاعر الحطيئة؛ الذي بالغَ في الهجاء في كلّ شيءٍ وأمرٍ، حتى إنَّ سيدنا عمر رضي الله عنه اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهمٍ كي لا يقعوا في سياط لسانه.
ومن أطرفِ ما ورد في هجاء الحطيئة أنه هجا نفسه حين رأى صورة وجهه في ماء بئرٍ فاستقبح وجهه:
أرى اليومَ لي وجهاً فللّه خلقُه .. فقُبِّحَ من وجهٍ وقُبِّحَ حامِلُه
وقد لقي هذا النوع من الكتابة رواجاً وشيوعاً حين اشتهرت النقائض بين جرير والأخطل والفرزدق، والنقائض هي قصائد يقولها الشعراء في الرد على بعضهم شعراً ملتزمين القافية وحرف الرويِّ، فيقلب أحدهم قصيدة الفخر التي قالها الآخر هجاءً وينفرد بالفخر لنفسه، وغالباً ما حُملت هذه النقائض على محمل الطرافة والهزل.
اليوم، لم يبقَ من ديوان العرب (الشعر) سوى كتبٍ منسيةٍ على الرفوف، وأصبحنا نحمل دواويننا التكنولوجية المتنقلة بين أيدينا في كلِّ مكان، ففي يدِ الصَّغير والكبير هاتفٌ محمول، ومساحة فضاءٍ مفتوحةٌ على أنواعِ الصّراعات وما يسمى حريّة الرَّأي والتّعبير، فلم يَعُدِ الهزلُ أدباً وفناً، بل انقلبَ واتَّخذ مفهوماً أقربَ إلى التَّطاول أو استباحةِ مشاعر الآخرين وأذواقهم وحريَّاتهم وحتى أشكالهم التي منحها الله لهم. وإلى أن يعود الهزل أدباً، سيتعيّنُ علينا أن نسمع ونرى، بنفاذِ صبرٍ وحيلة السُّخرية (بلا أدب) بشكلها التكنولوجي الحديث.