محمد الماغوط .. وشعرية الكتابة

صالح لبريني

 

عَلَى سَبِيلِ الْبَدْء
محمد الماغوط شاعر ولد في أرض مطوقة بالليل والموت، الجروح والحروب، إنها أرض الشرق المنذور للنزيف الأبدي؛ والسجن الكبير الذي يأسر الأحلام التي تكبر في عيون الأطفال وتموت في قلوب الكبار والشموس الساطعة في سماء الكون والآفلة في مشرق الألم، في هذه الظروف التاريخية والحضارية والمكانية حاول هذا الشاعر أن يوسّع -ولو قليلا- من كوة ليطل منها على العالم المترع بالاختناق حتى يسرق من فم الأشجار أوكسجين الحياة، وهو الشاعر الذي ظل يحلم بمفرده بتغيير العالم بوساطة الشعر والحلم والكتابة، فجاءت تجربته الشعرية متحررة من قيود الشكل، فاسحة إمكانيات عديدة لكتابة شعرية نثرية تحتفي بتجربة الحياة والكتابة، أو كما قالت عنه الشاعرة سنية صالح هو من الشعراء الذين حرروا الشعر من الشكل. وعليه فمحمد الماغوط خلق القصيدة المفتوحة على أفق مختلف في الكتابة الشعرية العربية، كتابة لا تقف عند حدود المعطى الشكلي بقدر ما تؤسس لمعطى إبداعي نابع من الإحساس الكارثي بالاغتراب القسري الذي تحياه الذات في واقع يبدع قيوده المختلفة التسميات والأشكال.



بَعِيداً عَنْ بَلَاغَةِ الْمَسْكُوكِ قَرِيباً مِنْ بَلَاغَةِ الْحَيَاة

شاعر متمرّد ضد ذاته المكبّلة بثقافة الخنوع وعبادة الأصنام بشتى تلاوينها الفكرية والاجتماعية والسياسية والشعرية والدينية، وضد العالم الباغي الجائر، الغارق في نرجسية العبودية والتسلط، لذلك نجد الشاعر يعلنها جهراً إنه خارج هذه الأغلال وهذه السياجات التي تمْحَق على إرادة الإنسان. 

إن اختيار الشاعر محمد الماغوط تجاوز نسقية القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، لم يكن استجابة لحاجة نرجسية محضة، بقدر ما جاء نداء لضرورة الإبداع المنبجس من العمق الوجودي المتشرذم، الذي تحياه الذات في شرق جريح ومكلوم، جراء الأعطاب التاريخية والحضارية التي تكبدتها الأمّة العربية وتكابدها، فالنزيف الباطني كان أوسع من عمود الشعر والشعر التفعيلي، فالذات تؤسّس لخطاب شعري موسوم بالخَرْق الإبداعي، المتمثل في طريق ثالث يوجد بين تخوم التجربة العمودية والشعر التفعيلي، هذا الطريق اجترحه الماغوط إلى جانب أنسي الحاج وغيرهما؛ إيماناً منهم بأن قصيدة النثر هي القالب التعبيري، الذي بمُكْنِه احتواء التصدعات الداخلية والخارجية، التي كان لها الأثر في هذا المسار.

ولعلّ في هذا الاختيار ما ينبئ أن المرحلة تتطلّب نصيّة مفتوحة على أفق ملتبس بأسئلته الحارقة والمارقة، المحيرة والمربكة تجاه ما يَعْتَوِرُ الذات والعالم من انهدامات وانهيارات للأحلام بعد الخروج من قيد الاستعمار، والعثور على الإنسان العربي مكبّلا بأغلال مالكي الوطن باسم الشرعية التاريخية الواهمة والمضلّلة، ثم بعد ذلك طرحت العديد من الأسئلة حول أهم القضايا المصيرية بعلّة التقسيم الجائر لفلسطين وخيبة الوحدة بين مصر وسوريا، هذه الأسباب كانت وراء اعتناق مِلَّة إبداعية جديدة إنها قصيدة النثر. هذه القصيدة المتولّدة من رحم هذا التفكك والتراجعات في الأحلام المشتركة؛ كانت بمثابة المنقذ من ضلال التيه التعبيري والشكلي، الذي وجدت فيه أجيال آمنت بالمستحيل، فكان الحال مخيباً لآمال الممكن لتتحول كل الرهانات إلى مجرد سحابة جافّة عبر سماء العرب تاركة العطش عنوان المرحلة. بل يمكن القول إنها كتابة تقول العالم والذات بعيداً عن المسكوكات البلاغية المتوارثة ببلاغة بسيطة القول ومدهشة في الأسلوب، والتي تنهلُ من معجم الواقع والحياة المتغيّر والمتجدّد.
 

الْمَاغُوطُ وَتَرْوِيضُ اللُّغَة

لقد شرَع الشاعر محمد الماغوط تجربته مبتدعاً خطاباً شعرياً جوهره النثر، ليس كبنية سطحية؛ وإنما كجوهر نابع من تأمل عميق في كتابة مختلفة ومهولة، لكونها تحتفي بالحياة مصدر الوجود والكينونة؛ فكانت الطلقة الأولى ديوان "حزن في ضوء الوطن"، وتلتها طلقة ثانية "غرفة بملايين الجدران"، وأخيراً ثالث الطلقات الشعرية الباذخة "الفرح ليس مهنتي"، وهي طلقات شكّلت منعطفاً قوياً وجلياً في الشعرية العربية، التي كانت مرتبطة بذائقة شعرية تفعيلية أسهمت في تفتيق إرادة الخلق والابتداع إلى ذائقة تعبيرية مؤمنة بالحتمية التاريخية المتحوّلة والمتبدّلة والمنسجمة مع دورة الزمن الإبداعي المتحول والمتجاوز للكائن لتشييد الممكن الشعري المتجدّد، هكذا نجد الشاعر الماغوط تمكّن من ترويض لغة الحياة، عبْر أسلوبية قولية لا تبتغي الاجترار النصي والتعبيري معاً، بقدْر ما تسعى إلى قوْل الحياة بلغة الحياة النّابعة من تجلياتها المختلفة، حياة متحررة من رتابة الإيقاع القديم إلى حيوية إيقاعية التجربة في الحياة، وامتداداتها في الزمان والمكان بغية مراودة الحرية ومناشدة المستقبل كرهان لكتابة نثرية مشعرنة.

هذه ملامح كتابة جديدة تلمّسناها، من خلال معاشرة متأنية للتجربة، وفق رؤية قرائية تحاول الوقوف على مظاهر هذا الخلق الشعري، والتجارب الجميلة والعميقة ممّا تفرض على القارئ الدهشة أو الهول بتعبير هايدغر، وتأسر كافّة الحواسّ حتى تحقّق غايات القراءة الفاعلة والمتفاعلة، بعيداً عن الانفعال السلبي، الذي لا يحيي النص بقدر ما يُرْدِيهِ ضحيّة الابتسار التحليلي -إن صح القول- هكذا يفتح الماغوط التجربة الشعرية لديه على تآويل تزيد الخطاب توهجاً وتألقاً في المعنى والإيحاء. وهو الحالم بكتابة جديدة ومتجددة ومتواشجة مع الواقع بعيدة عن التعالي يقول:
"وأنا راقد في غرفتي
أكتب وأحلم وأرنو إلى المارة
من قلب السماء العالية..."

فالأنا تمارس حريتها بوساطة الكتابة والحلم والانغماس في الواقع، ما دام مؤمناً بأن ضوء القمر حزين، والربيع كإحالة جلية على الخصب والحياة وطير الكناري على الحرية، فهو يوجه رسالته إلى عناصر الطبيعة، ليس هروباً أو فراراً كما فعل الشعراء الرومانسيون، ولكن بغية البحث عن قصيدة نابعة من القلب، ما دام الشاعر يحب الخصوبة والقلق لأنه غريب ومكلوم يقول:
"أيها الربيع المقبل من عينيها 
أيها الكناري المسافر في ضوء القمر
خذني إليها 
قصيدة غرام أو طعنة خنجر
فأنا متشرد وجريح
أحب المطر وأنين الأمواج البعيدة"

فالأنا الشاعرة تتصارع من أجل صياغة موقف من الذات والعالم، من خلال التعبير الجمالي والقالب الفني المنفتح على اللانهائي، وقد تحقق هذا في ظل الشعور باللاجدوى من واقع الحزن والعبودية الذي يلقي بظلاله القاتمة، والكاشفة عن توتر هذه الأنا الراغبة في الانفلات من قضبان هذا التيه المفروض، لكونها على وشيجة مع الآلام والأغلال ممّا حوّلها إلى شبح في عالم مديني متحوّل في القيم والعلاقات يقول :"فأنا على علاقة قديمة بالحزن والعبودية...."

لا شك أن هذا البيان، الذي يعرّي الإرث الوجودي الذي يملكه، يتجسّد في حقيقة المكابدات والعذابات التي تحياها أنا الشاعر المطوّقة بمشاعر العدمية والإحساس بالغربة والاغتراب وسط شرق كُتِبَ على جبين أبنائه المعاناة من نفي وتشريد وهجرة وحروب مدمّرة، لذلك نجد الذات تصرخ: "إنني هنا شبح غريب مجهول..."

إن هذه الصرخة القاصمة إرادة الكتابة والحلم تعبير عن الدّرَك، الذي توجد فيه الأنا الشاعرة، لأن دمشق المدينة، ذات التاريخ الضارب في الحضارة الإنسانية، تحولت إلى عربة تسوق السبايا الوردية، وتعيش تحت نيْر العواصف، والمريضة المغتصبة في حقها الوجودي، الذي يهدّد كينونة شاعر لا يملك غير الشوارع هوية والمنافي تورّثه التيه والضياع والتبغ طعامه المُرّ دلالة على حالة الغثيان -بتعبير سارتر- التي توجد عليها هذه الذات اليتيمة، يقول:
"وفي عينيك الباردتين
تنوح عاصفة من النجوم المهرولة
أيتها العشيقة المغتصبة 
ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر
أنت لي
هذا الحنين لك يا حقودة..."

إن ميراث الشاعر الوجودي، من هذه المدينة، يتجلى في الحنين كذاكرة وتاريخ وتجربة معيشية ووجودية، وكوسيلة للبحث عن الكينونة المفتقدة في عالم النفي والتشرد والعدم، لذا تلوذ الأنا بالطفولة مسترجعة إياها بلغة سردية متماوجة كتماوج المشاعر والإحساسات المتقلبة والمضطربة، التي تعتمد الحلم وسيلة تذكرية للفرار من شراسة الواقع، يقول:
"في طفولتي
كنت أحلم بجلباب مخطط بالذهب
وجواد ينهب في الكروم والتلال الحجرية
أما الآن 
وأنا أتسكع تحت نور المصابيح 
أنتقل كالعواهر من شارع إلى شارع 
أشتهي جريمة واسعة
وسفينة بيضاء، تقلّني بين نهديها المالحتين
إلى بلاد بعيدة..."

بين الطفولة والحاضر أي وسط السكينة الوجودية والقلق الوجودي الناتج عن التصعلك والتيهان وعدم الاستقرار، تقول الأنا الشاعرة هذه الكينونة المتشظية، ونقصد بهذا البحث عن الحقيقة الوجودية، ما دام الشاعر يروم إظهار هذه المجابهات اليومية مع الحياة بقساوتها وتيهها وانجرافها نحو المهاوي، وكشفاً عن وجود الذات الراغبة في العزلة في بلاد بعيدة تزرع الحياة والإحساس بالكينونة.

الْكِتَابَةُ وَمُقَاوَمَةُ الْكَارِثَة

شعر الماغوط نابع من ألم التجربة ومكابداتها، من عمق الإحساس بعدمية الذات والكون، لذلك تبقى الكتابة الشعرية تعبيراً عن مقاومة واعية، الشيء الذي بَصَمَ شعره بهذا النَّفَس الشجيّ، والمعبّر عن تراجيدية الذات وسط تلاطمات الاغتراب القسري ومفارقات واقع أكثر فظاعة، وفي سياق هذه البينية يتحول الحزن إلى سيف يقطع رؤوس الأمل، للعثور على سفينة أو غيمة، ويزيد التجربة أكثر قساوة ما دامت الكلمة مصابة بداء الطاعون وحيث صور القتامة هي العنوان البارز في الخطاب الشعري؛ فلا مجال لمعالم الحياة لأن لبنان المكان الأليم والخرب جعل الذات تصاب بِالْعَتَه والخَرَس أمام هوْل الكارثة التي حلّت به جراء العدوان الصهيوني، والذي كان الحضن الحاضن لأحلام الشاعر وصحبه من مثقفي تلك المرحلة يقول:
"أيها الحزن... يا سيفي الطويل المجعد
الرصيف الحامل طفله الأشقر يسأل عن وردة أو أسير
عن سفينة وغيمة من الوطن
...
ضمني بقوة يا لبنان
أحبك أكثر من التبغ والحدائق"

هنا الذات الشاعرة تعبّر عن هذا التشظّي في الشعور بين الحزن والحب، بلغة شعرية تفيض بنزيف داخلي يقطر سواداً وألماً وقساوة، فالتراب مشمول بحزن أبدي، والألم يبرق بشدة ولا أمل في النجوم لإضاءة المعتم والمظلم، ومن ثمّ تكون ملاذ الذات الحلم كمحراب وطريق نحو معانقة شمس الأمل. هكذا هو الشاعر محمد الماغوط الخائض حروباً مع الذات والعالم، لكونه سليل الحزن والليل والوحدة والقساوة والغربة.

شِعْرِيَةُ الْحَدْسِ الْوَاقِعِيّ

إن شعرية الماغوط لا تكمن في الاستعمال العادي للغة؛ وإنما تنجلي في القدرة الخارقة على السّبك الجمالي والفني الذي ميّزها، فسلاسة اللغة واضحة ومدهشة، ومنبثقة من تجربة الحياة والموروث القرائي للشاعر الذي يفسر حقيقة النهل من منابع ملتصقة بلغة الحياة بعيداً عن لغة المعاجم المحنّطة، وهذا ما زاد من مائية اللغة الشعرية في تجربة الماغوط، هذا الأخير أبدع أسلوبه الشعري النابع من سريرة الأعماق في تعالق مع تحوّل الواقع، ويمكن أن نسميها لغة الحدس الواقعي، أي أنها منبثقة من الوعي الجمالي والدور الدلالي، ممّا شحن التجربة بطاقة هائلة من الأبعاد حوّلت اللغة إلى عالم مترع بأصوات الروح وجلبة المعطى البرّاني، هكذا يؤسس الشاعر اللغة التي تنصت لهسيس الخطوات التائهة في صحراء الوجود، لرجّة الشعور بالدونية الوجودية أمام الفداحات المنتشرة هنا وهناك؛ وجعلت الواقع مجرد ملهاة تراجيدية تعرّي حقيقة الكينونة الفاقدة لوجودها، وفي هذه اللغة أيضاً إدانة قوية للغة المفتعلة والمتحجرة، نظراً لأن العالم في حاجة إلى لغة تشكله تشكيلاً ينضو عنه حجب الالتباس، وهذا ما نجح فيه الماغوط الذي أربك أعداء قصيدة النثر الذين يرون أنها قصيدة الذات النرجسية، والعاجزة عن التماهي مع قضايا المجتمع يقول الشاعر:
"وفي أعماقي أحمل كل ثورة طاغية يا أبي
فيها شعب يناضل بالتراب، والحجارة، والظمأ وعدة مرايا كئيبة
تعكس ليلاً طويلاً، وشفاهاً قاسيةً عمياءَ
تأكل الحصى والتبن والموت"

ولاغرو في كون اللغة الشعرية، في هذه التجربة، تستقي وجودها من الأصوات المتعدّدة والمختلفة الحاضنة لها، حيث التاريخ والإنسان والامتداد الحضاري والإنساني هو المرآة العاكسة والكاشفة لتجلّياتها، ومن ثمّ فالشاعر الماغوط وهو ينحت لغته من هذه الروافد المتنوعة، يقوم بعملية تشييد لغة تَقُولُهُ، وتقول عصره ولحظته التاريخية، بمعنى آخر إنه صانع لغة كينونة حاضرة في مفصل وجودي متشابك ومرتبك ومتوتر ومقلق، هذا المفصل يستدعي تعبيرات تنسجم مع واقع كتابة شعرية تستغني على بنية عروضية متآكلة، بفعل التغيّر التاريخي والفكري والحضاري، وتفتح أفق كتابة تكتب سيرة الذات المجروحة بسؤال الوجود والكينونة في تجلياتهما الممتدة في ذاكرة الإنسان منذ البدايات، ولعل في هذا ما ينبئ بحداثة شعرية تتخلّق من تربة تجربة الحياة المفعمة بروائح الأسلاف والأخلاف، وديمومة هذه التجربة شاهد على إبداعيتها وعمقها المشرَع على الآتي؛ والذي وسمها بهذه السمة أنها تعتمد على المفارقة كوسيلة لكسر حواجز البلاغة التقليدية المتخشّبة، والتي لم تعد لها القدرة للقبض على المنفلت من الذات والكون. وكذا للتعبير عمّا يكتنف الأفق من الظلال، وفي هذا السياق لا بد من التأكيد على أن هذا التجاوز نابع من ضرورة الاستجابة لسؤال اللحظة الحضارية والإبدالات التاريخية والمجتمعية.

فاللغة سليلة لحظتها الحضارية، التي ترتبط بالمكان والزمان كمحددين أساسيين لهما أثرهما وتأثيرهما على التجربة الشعرية، وهذا ما أحسسنا به ونحن نفتح هذه الحوارية المنصتة لنبض هذه التجربة الشعرية المنفتحة على لغة الحياة -كما ذكرنا سالفاً- والحاملة لتدلالات ضاربة في العمق الإنساني كحمولة تاريخية وإبداعية، ومستشرفة لكتابة شعرية تمتاز بقدرتها على الحلم والتشكيل والتخييل لعوالم ممكنة تتخلّق عبْر اللامحدود واللامتناهي في الذات والوجود، مندغمة مع الذات في تراجيديتها المريرة والباعثة لليأس والخيبات والشاهقة بالآلام، خصوصاً مع الإحساس باللاانتماء والاغتراب الذاتي والوجودي عندما تعثر الكينونة عن لا كينونتها لدى الآخر؛ إنها محنة الذات العربية مع الآخر، يقول:
من قديم الزمان أنا من الشرق
من تلك السهوب المغطاة بالشمس والمقابر
أحب التسكع والثياب الجميلة 
ويدي تتلمس غسق المرأة الباردة
وبين أهدابها العمياء
ألمح دموعاً قديمة تذكرني بالمطر
والعصافير الميتة في الربيع 
كنت أرى قارة من الصخر
تشهق بالألم والحرير
والأذرع الهائجة في الشوارع...

فالذات ممزقة بين الحياة والموت، بين القساوة والرّقة، تعيد اللغة إلى تلك المناطق المنسية من العالم، وتزوّدها بقدرة تخييلية تستطيع جرّاءها إعادة التاريخ والحضارة، واستنطاقهما للتعبير عن محنة الإنسان العربي في قارة محاطة بالمفارقات والمتناقضات.


عَلَى سَبِيلِ الْخَتْم
لا غرو من القول إن التجربة الشعرية للشاعر محمد الماغوط تجربة ممتدة في تاريخ الإبداع العربي، فاتحة أفقاً شعرياً مجدّداً من حيث اللغة والخيال والممارسة، وقريبةً من نبض الواقع منصتة لارتجاجاته ومعبّرة عنها بمتخيّل قمين بالحياة والاستمرارية، وهو القائل: "سأحشو مسدسي بالدمع/ وأملأ وطني بالصراخ/ إذا لم تعطيني جناحاً وعاصفة/ لأمضي". هكذا يمضي الشاعر محمد الماغوط حالماً بعالم الحرية والتحرّر بعيداً عن عالم مُكبّل بالخيبات وانتصار الموت، وباحثاً عن حياة أخرى محلّقاً في سماء الخلود. تلك سيرة شاعر أحبَّ الحياة والناس والوطن، ونثر حبه هذا بذور عشق أبدي، لتينع قصائد تربي في السماء العربية طيور الوجود، وفي المدى أرضاً ثنية تكتب مواجع الأرض الأولى وتعزف سمفونية التراجيدية الكونية يتقدّمها كورال العبث الوجودي، ويقودها جنون شاعر مؤمن بالنشيد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها