عِلمُ القِيافة.. أصل عربي أكدته تقنية الأشعة الحمراء

د. الخامس مفيد

برع العرب منذ القدم في مهن وعلوم ومعارف كانوا السابقين إليها عن غيرهم من الأمم، ولعل من هذه العلوم علم القِيافة، الذي يعد أحد وسائل الإثبات التي كان يعتمد عليها العرب قديماً، فهي أشرف العلوم عندهم. وتشكل هذا العلم نتيجة ارتباط العرب بالصحراء، وما فيها من شعاب وقفار ومضارب، وكلها أماكن يسهل فيها تيه الإنسان، ويمكن رد ظهور هذا العلم إلى تراكم الإرث الثقافي.
وينقسم علم القيافة إلى قيافة الأثر وقيافة البشر، فهو لا يكتسب عن طريق العلم والمدارسة والتعلم، بل يقوم على الحدس والتخمين والممارسة، فالرجل الذي يمارس القيافة، يستطيع بمجرد النظر إلى الأثر في الأرض أن يصف صاحبه بكل وضوح، ويحدد جنسه وشكله وقبيلته، كما يفرق بين أثر الشيخ والبكر.

 

أنواع القيافة:  قيافة الأثر مقابل قيافة البشر

أ. قيافة الأثر

عبارة عن تتبع آثار الأقدام والأخفاف والنعال في الطرقات القابلة للأثر خاصة في رمال الصحراء، وتقوم هذه الصناعة على القوة الباصرة، والقوة الخيالية الحافظة. ويأخذ هذا النوع عدة أشكال، نوردها بعضها كالآتي:

:: تتبع آثار الأقدام ::

يندرج تتبع آثار الأقدام ضمن علم القيافة كأحد فروع علم القيافة، وللعرب في هذا الفن عجائب، حيث كانوا يميزون بين أثر قدم الرجل من المرأة، ولهم بصيرة في ذلك، ويعرفون القصير من الطويل، والأعمى من البصير، كما يمكن للقائف أن يعرف هل الشخص كان يمشي أم يهرول، أم مسرعاً أم متثاقلاً بالنظر إلى أثر القدم.

لا يزال هذا العلم موجوداً في بعض القبائل العربية كقبيلة "الموه"، حيث اشتهر أهلها بقص الأثر واكتشاف السرقات والجنايات، ومن النادر أن لا نجد حاكماً من حكام نجد لا يعتمد في حكمه على رجال يحسنون صنعة القيافة.

يتعرف القائف على الشخص المطلوب سواء كان منتعلاً أم حافي القدمين، سواء وطأ سطحاً ليناً أم صلباً، وسواء كانت النعل جديدة أم قديمة، وهل صاحب الأثر كان يحمل ثقلاً أم لا. زيادة على ذلك، يمكن للقائف أن يتعرف على العاهات أو الحالات المرضية التي تظهر في المشي كمرض" بركنسون"، أو المشي في حالة سكر وثمالة.
وبفعل التطور الحاصل في مجال التكنولوجيا، لم يعد الاعتماد على الآثار فقط، بل يستعين محققو الجريمة بتقنية الأشعة الحمراء، فيعرف من خلال تلك الوسائل كيفية وقوع الحادث؛ كأن يتم التعرف على حرارة جسم الجاني، نتيجة ارتسامها على جذار اتكأ عليه أو على كرسي جلس عليه، كل ذلك يجعل المحققين يتتبعون الأثر للوصول إلى الجاني.

:: تتبع آثار الرائحة ::

يتم الاعتماد في هذا الصنف من القيافة على الكلاب، لكونهم يملكون حسة قوية، تمكنهم من التعرف على الرائحة على بعد كيلومترات، لذلك أمكن الوصول إلى الهارب والفار من مكان الجريمة بالاعتماد على رائحته، بفعل ملامسته للأشياء، أو إذا سقط منه ثوب أو منديل، ويتأكد هذا من خلال قوله تعالى على لسان سيدنا يعقوب عليه السلام {إني لا أجد ريح يوسف} [سورة يوسف، الآية:94].

إن الاعتماد على الرائحة لإدانة شخص ما بقتل أو سرقة أو تبرئته من ذلك، يحتاج إلى تبصر وروية، نظراً لتعرض الكلاب للخطإ، وفساد طبعها ومزاجها بسبب الجوع، أو أن يلجأ الجاني إلى تضليلها بتدليس ثوب أو استعمال لباس غيره، لكن القبض على المشبوه بالرائحة مشروع.

وقد اختلف الفقهاء في إقامة الحد على من وجد في فمه رائحة خمر، فالمالكية تقرن الحد بشهادة رجل، وقد عمل بهذا ابن مسعود، وأضاف الفاروق عمر بن الخطاب إلى الرائحة قرائن أخرى كالإدمان مثلاً. لكن وسائل العصر الحديثة، لا تخطئ في معرفة الشارب من غيره، كما يفعل في فحص حالة السائق وهو مخمور باستعمال البالون الذي ينفخ فيه المتهم، حيث يتم التعرف على نسبة الكحول التي شربها.

ب. قيافة البشر

عبارة عن صناعة يستدل على معرفة الإنسان، وسمي هذا النوع بقيافة البشر؛ لأن صاحبها ينظر في بشرات الناس وجلودهم، وما يتبع ذلك من هيئات الأعضاء وخصوصاً الأقدام، ويتم الاستعانة بهذه الأشياء لإثبات النسب إلى شخص محط شبهة أو ظن. وقد أكدت الأبحاث الطبية أنه من وجود تشابه بين الأبناء والوالدين، وقد تكون المشابهة ظاهرة يعرفها الجميع، وقد تكون خفية لا يدركها إلا أصحاب القوة الباصرة، والقوة الحافظة.

وقد ارتبط هذا العلم بالعرب، وخاصة قبيلة بني مدلج، فهو لا يكتسب بالشرح والتعلم والتصنيف، بل علم متوارث في أعراف مخصوصة من العرب لا يشاركهم في ذلك أحد، وذهب كبار الفقهاء إلى ضرورة الاعتماد عليه لتصحيح الأنساب، مصداقاً لقوله تعالى {وقفينا على آثارهم} [سورة المائدة، الآية: 46].

القيافة والقـضاء

يذهب جمهور الفقهاء إلى تأكيد مشروعية القضاء بالقيافة، باعتبارها وسيلة من وسائل الإثبات، ووجه الاستدلال هنا حكم أشهر قائف عربي المدلجي في نسب أسامة إلى زيد، رغم اختلاف لونهما، فلما ألحق القائف نسب أسامة إلى زيد بناء على ما رأى من الشبه في الأقدام، سر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا اعتراف بعمل القائف.
ويوجد دليل آخر، فحواه أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سمحاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبصروها فإن جاءت به أبيضَ سبِطاً قضيءَ العينينِ فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أكحل جعداً حمِشَ الساقين فهو لشريك بن سحماء، وهذا حديث صحيح وصريح على صحة العمل بالقيافة.

ويرى فريق آخر عدم مشروعية القضاء بالقيافة، واستدلوا بمجيء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال النبي، هل لك من إبل؟ قال نعم، قال: فما ألوانها؟ قال حمر، قال: فيها من أورق؟ قال: نعم، فقال: فأنى أتاها ذلك. قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون قد نزعه عرق. واستدلوا على ذلك بما روي عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وهنا تم حصر طريق ثبوت النسب في الفراش دون غيره.

ويشترط لصحة القضاء بالقيافة، أن يكون القائف مسلماً عدلاً حراً ذا خبرة، وذكراً وبصيراً ورشيداً، وأن يكون الكلام بلفظ الشهادة، وأن يكون الولد مجهول النسب، وأن لا يعارض قول القائف قائف آخر، وأن لا يلحق القائف نسب الولد لوالدين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها