حضارة جديدة أو الموت!

الفاهم محمد

لم يعد الحديث يقتصر اليوم على توصيف الأزمات التي باتت مألوفة لدينا، مثل الأزمات الاقتصادية والسياسية والبيئية وغيرها. فمن سخرية الأقدار أن هذه الأزمات باتت تنذر بانهيار شامل وعالمي للحضارة الصناعية والرأسمالية المعاصرة. كل التقارير والدراسات تؤكد لنا أننا في سباق مع الزمن، وأنه ما لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة -وهي بالتأكيد قرارات صعبة وغير مسبوقة- فإن الانهيار سيكون مسألة محتومة ولا مفر منها.


إن النجاة من الكارثة يقتضي تعديل الرأسمالية وأنسنة التقنية والعلم، وهذا أمر ما زلنا إلى يومنا هذا غير قادرين عليه. تتعدد مؤشرات هذه الأخطار وهي الآن موضوعة في الدرجة الحمراء، نذكر منها ارتفاع درجة الاحتباس الحراري، تدهور أنظمة التنوع الطبيعي، الإفراط في الاستهلاك الزائد، والإيمان الأعمى في حتمية التطور ولانهائية التنمية، هذه وغيرها كلها أمور تدفع بالحضارة المعاصرة بأعين مفتوحة نحو الهاوية. نحن الآن بعيدين تماماً عن ذلك الأمل التليد الذي عرفه عصر الأنوار: النعيم لا يوجد وراءنا، بل هو أمامنا، والعقل كما كانت تقول الفلسفة الهيجلية يتجلى في التاريخ ويفض نفسه فيه. لا يوجد عاقل اليوم يثق في هذه الطمأنينة الزائفة التي خلقتها حضارة الاستهلاك. فالقضية برمتها تتلخص في كلمة واحدة: إما أن نعمل على بناء حضارة جديدة؛ وإما أننا سنجابه عاجلاً أو آجلاً الانهيار.

دعونا أولا نبسط مسألة أساسية. إن الطرح الذي يعرض ها هنا لا علاقة له بأي نزعة مهدوية، ولا بأي رؤية تنذر بالنهاية القيامية للعالم وبعودة المسيح. تلكم -كما هو معروف- رؤية إسكاطولوجية لها مناصروها. فالوضع التراجيدي الذي يعرفه العالم اليوم، يمنح نفسه بكل وضوح للتحليل الدقيق سواء من الناحية البيئية أو الاجتماعية أو التقنوعلمية. وإذن في أحسن الأحوال، يدخل هذا العمل ضمن ما يصطلح عليه بالمنبهين عن الأخطار les lanceurs d’alerte مع اختلاف بسيط، وهو أننا لا نفشي أسراراً نعري بها عورات الناس، بل كل ما نقوم به هو تسليط الضوء على قضايا وإشكالات باتت تفرض نفسها بكل إلحاح، ولكنها للأسف ما تزال مغيبة من طرف وسائل الإعلام الرسمية، والتي حتى في حالة تناولها تنظر إليها كأزمات عابرة، أو كإشكالات تقع تحت السيطرة، وأحيانًا يتم النظر إليها كما لو أنها مجرد تهويلات وأغاليط لا ينبغي أن تطرح على هذه الدرجة من الشدة والخطورة.

أين تكمن إذن صوابية هذه الأطروحات المنذرة بسقوط الحضارة، وهل هذا الانهيار بالفعل أمر محتوم ولا سبيل للإفلات منه؟
 

كتب عديدة تناولت بالتحليل والدرس الأخطار المحدقة بالحضارة المعاصرة والمنذرة باختفائها الوشيك. إذا اقتصرنا على أشهرها سنذكر أوزفالد شبينغلر Oswald Spengler وكتابه: "تدهور الحضارة الغربية". الذي اعتقد فيه أن الغرب قد وصل إلى نهايته بحكم القانون الجبري الذي ينظم عملية نشوء الحضارات ووصولها إلى أوجها، ثم بعد ذلك دخولها في مرحلة الخريف كي يبدأ مسلسل تساقطها وانحدارها الدوري.

أما جاريد دايموند Jared Diamond فقد كتب: "الانهيار، كيف تختار المجتمعات الفشل أو النجاح". متجاوزاً الرؤية الحتمية والقدرية التي يمكن أن نجدها عند شبينغلر. ذلك أن سقوط الحضارات وتراجعها يرتبط بمدى قدرتها على التكيف مع خمس تحديات هي: التغيرات المناخية، الجيران العدائيون، تراجع التبادلات التجارية، والعوامل الثقافية المرتبطة بنوعية القيم السائدة. إن الانهيار عند جاريد دايموند ليس مسألة جبرية كما هو الأمر عند شبينغلر، بل هو وضع يمكن تفاديه سواء عن طريق التأقلم أو التخطيط طويل الأمد، أو القدرة على تغيير القيم القديمة بأخرى جديدة.

هناك أيضاً جوزيف تينتير Joseph A. Tainter الذي كتب: "سقوط المجتمعات المعقدة" والذي في نظره حدث انهيار المجتمعات الذي نعيشه حالياً، ليس شيئا فريداً بل هو حدث يقدم لنا التاريخ أمثلة كثيرة عنه، مثل انهيار الإمبراطورية الرومانية وإمبراطورية تشو الصينية، وحضارة الفراعنة والمايا وغيرها. في اعتقاد تينتير نفس الأسباب التي أدت إلى انهيار هذه المجامعات القديمة، تتحكم أيضاً في انهيار المجتمعات المعاصرة. إن الشيء اللافت للنظر في الأطروحة التي يدافع عنها جوزيف تينتير، هو اختلافه مع كل التفسيرات التي قدمت لحد الآن حول انهيار هذه الحضارات. لقد تم التركيز دوماً حول نضوب الموارد الأولية، أو كوارث طبيعية لم تستطع هذه المجتمعات التحكم فيها، أو وجود الغزاة والاختلالات الاجتماعية والسياسية أو غيرها. بينما في نظر تينتير كل هذه الأسباب ليست سوى نتائج ثانوية لأسباب أخرى أعمق، تم إغفالها غالباً من طرف التحليلات السابقة، وهي أن المجتمعات كلما تطورت تبلغ حالة من التعقيد تزداد فيها الحاجة إلى مؤسسات وتنظيمات يشرف عليها خبراء، مما يعني الحاجة إلى المزيد من الطاقة، وهكذا نصل إلى حالة من عدم التوازن بين الحفاظ على هذه الهياكل المعقدة، وبين الموارد الطاقية المتاحة. فالحاجة إلى التعقيد تتطلب الحاجة للمزيد من الطاقة، وهذا هو ما لن تستطيع المجتمعات المعاصرة توفيره.

إن ما يميز نظريات الانهيار المعاصرة عن فلسفات أفول الحضارات مثل تلك التي نجدها عند أوزفالد شبينغلر، هو أن هذه النظريات مبنية على معطيات وإحصائيات دقيقة حول الوضع الاقتصادي مثلاً أو البيئي أو السكاني، بدل أن تكون مجرد نبوءات نظرية مجردة. كما أنها تتميز بكونها تتحدث عن الانهيار الشامل لكل المجتمعات المعاصرة شرقاً وغرباً، ولا تقتصر على رصد مستقبل شعب واحد فقط أو أمة بعينها.

 

∵∴∷ مفهوم الكولابسولوجيا ∵∴∷

إن المصطلح الذي بات يجمع كل هذه المعاني في دلالة واحدة مركزة هو الكولابسولوجيا La collapsologie، الذي قام بنحته باحثان فرنسيان هما بابلو سيرفين ورفائيل ستيفنس في كتاب لهما تحت عنوان: "كيف يمكن أن ينهار كل شيء، دليل صغير للكولابسولوجيا للاستخدام من قبل الأجيال الحالية". والذي ظهر سنة 2015 فالمصطلح كما يدل عليه المعنى الاشتقاقي مأخوذ من الكلمة الإنجليزية the collapse والتي تحيل على الانهيار والسقوط، وهي نفسها الكلمة التي وردت كعنوان لكتاب رايموند جاريد. فيكون معنى الكولابسولوجيا كما يعرفها الكاتبان هو الدراسة العلمية للإخفاقات والأزمات البنيوية وليس العابرة، وللكوارث التي تعرفها الحضارة الصناعية سواء على المستوى البيئي أو الاقتصادي أو الديموغرافي أو غيره، والتي من الممكن أن تؤدي إلى سقوطها وانهياريها التام وما يمكن أن ينتج عن ذلك. كما يؤكد الكاتبان في هذا السياق أن الكولابسولوحيا تستند على دراسات أكاديمية وتقارير رصينة، صادرة عن مؤسسات رسمية محترمة مثل تقرير مودوز الشهير تحت عنوان: حدود النمو، والذي قام به باحثون ينتمون إلى معهد ماشاسوست للتكنولوجيا MIT سنة 1972، وتقرير الخبراء الدوليين حول التغيرات المناخية GIEC سنة 2014. إضافة إلى التقارير الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة أو مراكز البحث، والجامعات العالمية المشهورة.

من أشهر التعريفات كذلك التي تقدم للكولابسولوجيا التعريف التي أدلى به إيف كوشيه، وهو وزير بيئة فرنسي سابق في حكومة ليونيل جوسبان، وأحد منظري الكولابسولوحيا في أوروبا حيث يقول: "الانهيار هو السيرورة التي ينتج عنها عدم القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية (الماء والغذاء، والمأوى والملابس، والطاقة وما إلى ذلك)، بتكلفة معقولة لغالبية السكان عن طريق الخدمات التي ينظمها القانون".

الأمر يتعلق بعلم جديد تماماً، وبمعرفة متعددة التخصصات مثل الإيكولوجيا والاقتصاد، والديموغرافيا والبيولوجيا وغيرها، بحيث تتضافر جهودها جميعاً من أجل تشخيص الأوضاع الكارثية التي وصلتها الحضارة الرأسمالية، والتقدم التكنولوجي المعاصر. والتي ستقود حتماً إلى انهيار شامل على المستوى العالمي خلال هذا القرن. المتفائلون يرون أن هذا سيحدث سنة 2030، أما المتشائمون فيرون أن العدادات قد وضعت جميعها في الأحمر، وبالتالي قد تكون النهاية أسرع من ذلك بكثير.

رغم كل هذه الأخطار المحدقة بالحضارة المعاصرة؛ إلا أنه ما من إجراء أو قرار عملي ملموس -على الأقل لحد الآن- اتخذ من أجل تغيير واقع الأمور. وهكذا يبدو كما لو أننا نسير باتجاه قدر محتوم، كما لو أن المنحدر خارج عن السيطرة. إنها التراجيديا المعاصرة التي شبهها جيمس مارتن في كتابه: "معنى القرن الواحد والعشرين" بالتراجيديا اليونانية يقول: "إن الضرر الذي لحق بالكرة الأرضية، لم يسببه أفراد أو منظمات بنوايا خبيثة، ولكن حدث لأن هؤلاء أسرى تراجيديا إغريقية. ففي تراجيديات المسرح الإغريقي الكلاسيكي، لا يعرف البطل أن أفعاله ستؤدي إلى نتائج كارثية. ولكن سوء تقدير الإنسان للواقع هو الذي يسبب التراجيديا" [ص: 45]. هل سيتدخل الإنسان في آخر لحظة من أجل إيجاد الحل المناسب، أم أن الأمور سيكون قد فات أوانها.

لا أحد يمتلك الجواب النهائي لدرجة أن عالم الفلك الإنجليزي مارتن رييس وضع نسبة 50% للنجاة و50% للإخفاق. ولكن كيفما كان الحال فإن البحث عن أوضاع حضارية أقل تعقيداً، والدخول في نوع من التقشف بالعودة إلى الطبيعة، أو تطوير تكنولوجيا بديلة مثل تلك التي أصبحت تعرف بالتكنولوجيا المنخفضة low tech بدل التكنولوجيا العالية، كلها أمور فد تؤدي إلى تفادي السقوط.

∵∴∷ آمال ومخاوف ∵∴∷

الانهيار، هل معنى هذا أن الجنس البشري سيختفي تماماً من فوق الأرض؟! ليس هذا بالضبط فهذا هو ما يميز الكولابسولوحيا عن النبوءات حول نهاية العالم. المسألة ترتبط فقط بنهاية الحضارة الصناعية والطاقية كما هي معروفة حالياً.

العديد من الناس أدركوا هول الكوارث التي من الممكن أن تحل في حال حدوث الانهيار، لذلك كان الحل بالنسبة لهم هو البحث عن النجاة والخلاص الفردي، أو على شكل تجمعات بشرية صغيرة. فالفرق بين انهيار الحضارات قديماً، وما يمكن أن تعيشه الحضارات المعاصرة من سقوط هو أن الأولى كانت تمس غالباً البنى والهياكل الأساسية لهذه الإمبراطوريات، بينما حالياً ستطال الأزمة شرائح اجتماعية واسعة في معاشها واحتياجاتها اليومية. هؤلاء هم المستعدون الذين يشترون أقبية les bunkers محصنة للاختباء داخلها، أو منازل صغيرة tiny house ذات اكتفاء ذاتي محدود. الباحثون عن النجاة من الكارثة قد يبدو كما لو أنهم أناس أذكياء يعرفون كيف يتدبرون أمورهم. غير أنه في الحقيقة مثل هذه الحلول المعزولة قد نكون في غنى عنها إذا ما وجد متدخلون يعرفون كيف يديرون دفة الحضارة باتجاه آخر.

لقد كان القرن العشرون قرن الحروب العالمية، والديكتاتوريات والإبادات الجماعية، والإيديولوجيات المغلقة. أما القرن الواحد والعشرون فهو قرن الآفاق المشتركة، والرهانات الإنسانية، قرن التضامن والتعاون من أجل مواجهة الأخطار التي تهدد النوع البشري. هذا يعني أن الحديث عن الكولابسولوجيا ليس حديثاً يزرع اليأس ويثبط الهمم. بل بالعكس حديث يدفع الإنسان إلى الخروج من "السبات الدوغمائي" في ثبات التقدم الحضاري الذي نعيشه وفي لا نهائية التنمية. هو أيضاً محاولة لتأسيس ثقافة جديدة هي ثقافة الشجاعة في مواجهة المشاكل بدل ثقافة الإنكار والانكفاء على الذات. إنسانية الغد ستكون قد تعلمت الدرس جيدّاً، ستعرف أن أوقات الرخاء قد انتهت، وأنه لتفادي الانهيار الكلي والشامل قد آن الأوان لبناء حضارة جديدة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها