الغريب!

ليندة كامل

صوته كالرعد نزل على أرضٍ صهباء، شق الصمت نصفين، فأخرجني من قوقعتي، مثل سلحفاة، أخرجت رأسي من كومة الشرود الذي أحاط بي، فأيقظ حواسي المتاخمة للصمت، غادرت الاجتماع وصوته الرهيب ما يزال عالقاً بمسمعي، وأنا أحاول جاهداً إخراج نفسي من مستنقع مظلم، وأحاول إعادة نفسي الهائمة وسط هذا التشتت الذي لازمني منذ نزوله مديراً على مصلحتنا، كان يصرخ بي "ستذهب، يعني تذهب".

وسط توسلاتي التي غرقت في كومة من التجاهل والاستطراد، خرجت وأنا أعصر قلقي وأبتلع غيظي، وأخفي فشلي بابتسامة شاحبة أداري خلفها هزيمتي في إقناعه بعدم قدرتي على السفر، حملت قهري واتجهت إلى البيت بعدما استلمت أمراً بمهمة -الجهة كانت تونس- تغطية فعاليات المهرجان الدولي للثقافة العربية.

أحب السفر؛ لكنه بات مرهقاً لي، ودوار الطائرة عند إقلاعها يجعلني أنشطر، وينشطر معه قلبي فيكاد يخرج من قفصه، حذرني الطبيب من وضعي الصحي، وطلب مني التقليل من السفريات، ولكن مع من أتحدث؟ شعرت وأنا أحاول إخراج كلمة من فكي عفريت أنني أشبه الكلاب المدربة التي إذا انتهت صلاحيتها يرمونها بالرصاص، كان قراره رصاصة قاتلة لي، وليس أمامي سوى تحدي ومواجهة الموقف، اضطررت إلى حزم حقائبي بعدما تمددت على السرير.. أخذت ريموت وغيرت البرامج، لا شيء يستحق المشاهدة، أخبار عن القتل والموت متفرقة هنا وهناك.

ما أثارني أخبار الصين وفيروس كورونا الذي ظهر، والناس تتساقط في الطرقات موتاً وصرعاً، صورتهم رسخت بذهني ولم أعر الأمر اهتماماً، فالصين بعيدة عنا ولا مجال للخوف، ثم إني صحافي وأدرك جيداً خبايا السياسة حتى المرض يُسيّسُ، إنه عالم قذر.

نمت بعض الشيء واستيقظت على صوت المنبه، كانت الساعة تشير إلى السادسة وموعد إقلاع الطائرة بعد ساعة تقريباً، رحت جيئةً وذهاباً أرتب أغراضي وأحضر نفسي، وأدس في جيبي الدواء حتى لا أموت عند إقلاع الطائرة.

وصلت تونس.. بدا المطارُ متأهباً على غير عادته، كاشفات حرارية، وأقنعة واقية، وقفازات يرتديها العمال. يبدو أن الفيروس سبقني إلى تونس، شعرت بنوع من الخوف، وسرعان ما تجاهلته حين طرحت السؤال على الموظف، وهو يكشف حرارة جسمي "الحرص واجب، ونحن نكشف أكثر الوافدين من الصين"، خرجت من المطار وتسربت بين الجموع وسط موجة بشرية بالعاصمة، بدا الناس يعيشون حياة عادية، وقد تبددت فكرة الخوف مني قليلاً بعد وصولي إلى الفندق، وتناولي وجبة دسمة، لكن الأخبار كما هي في الجزائر لا حديث إلا عن الفيروس، بدأ الخوف يدب في قلبي من جديد كدبيب النمل، وبدأت أستشعره أكثر، وقد استغليت فرصة الفراغ الذي أحاط بي، دخلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي، الجزائريون كالعادة يأخذون أشد الأمور خطورة بضحك واستهزاء، ربما لطرد شبح الخوف بطريقة هزلية تثير الكثير من الدهشة أمام خوف العالم، ربما لكثرة ما عاشوه من أوجاع وآلام وإقصاء وتهميش.

في حركة بهلوانية قفزت من السرير، وقد جاءني موظف الفندق وطلب مني وضع القناع الواقي والحذر من الفيروس، ودخل الغرفة وراح يرش المكان بمطهرات، قلت في نفسي "أي فيروس هذا الذي أحذر منه وأنا لا أراه"، بدت لي الإرشادات المقدمة غريبة ومضحكة، بدونا مثل مجانين نبتعد عن بعضنا، ونغسل أيدينا في كل مرة، بعد انتهاء المؤتمر نزلت في جولة إلى العاصمة، وقد بدأ الناس يستجيبون شيئاً فشيئاً لفكرة انتشار الفيروس، وبدأت الشوارع شبه فارغة، والحوانيت والمقاهي مغلقة، وقلت الحركة ودخلنا في سجن، أغرب سجن تعيشه البشرية، وقد جاءني أمر بمغادرة تونس، فالمطارات تأهبت للإغلاق وتوقيف حركة الطيران، ولم يكن الأمر يخص تونس أو الجزائر، بل العالم كله، وتصدرت الأخبار والجرائد ومواقع التواصل قصة فيروس كورونا.

رجعت للجزائر في أقصر رحلة عمل لي، ونجوت من موت إقلاع الطائرة، ووقعت في فخ الخوف من الموت على يد فيروس لا مرئي أي ميتة هاته! لم يكن الفيروس ما يخيفنا، فنحن نحارب شيئاً لا نراه؛ إنها أصعب حرب ضد مجهول حتماً سيكون هو المنتصر، ما يخيفنا هو تلك الأخبار التي تخلق في أنفسنا شعوراً بالرعب.. توالت عملية المحاصرة، وغلق المدارس والمحلات والمقاهي، ومناطق العمل التي باتت تخيف، ودخلنا في نفق الخوف من اللاشيء.

لا شيء يقتل مثل الخوف من الخوف.. كنا كذاك الذي مات لأن قاتله أخبره أنه فتح قارورة الغاز في زنزانته فمات دون أن يشتم رائحة الغاز، مات بسبب خوفه، وهكذا كنا، أو هكذا كان العالم يموت بسرعة تفوق الجنون، أي فيروس هذا الذي يملك قدرة خارقة ليقتل الآلاف في يوم واحد، وزمن واحد.. كنا خلف البيوت نتابع أخبار الموت بعدما كنا نتداول أخبار البورصات والماركات، وبات همنا الوحيد كيف ننجو من هذا المرض!

وأنا أحاول التأقلم مع حياة أقل ما يقال عنها سجن، لكل شيء نختبئ خلف جدران المنازل مثل الفئران، نحارب شبح الخوف من عدو غير مرئي، فقلت خرجاتي وتواصلي مع الناس، واقتصر عملي على الانترنت، أرسل تقارير عن المواضيع المقترحة، الشيء الوحيد الذي جعلني أستريح ابتعادي عن صوته المثقل بالصراخ ما يزال يقرع في أذني، إلى أن سمعت بمرضه بالفيروس شعرت حينها بحزن عليه، وأنا أتصوره خلف زجاج غرفته في عزلته التي تشبه قاعة انتظار ما قبل الموت، مجرد التفكير بذلك يقتلك آلاف المرات، فقد مات الكثير من هذه الفكرة، ثم وهو محاط بطاقم من الأطباء، وصدره مرتبط بجهاز التنفس، ما أصعب ذلك المشهد، فلم يطل مرضه حتى جاء نبأ موته، ودفنه بلا جنازة أو عزاء، بات أقصى ما نتمناه حياة عادية، فسحة في الشارع أو شرب كوب قهوة، أو تناول طعام جاهز.. كنت أشعر بموت الأشياء في داخلي، وأقاوم هاجس الوقوع في المرض حتى لا أدفن غريباً، وأنا الغريب عن كل شيء في هذا الوطن.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها