أبو الكلام أزاد.. صوت التّجديد الفكري ورمز التّعايش الدّيني

د. محمد حسن بدرالدين

كان القرن التّاسع عشر من أدقّ مراحل اليقظة والصّدام بين العالم الإسلامي والاستعمار. والصّورة متماثلة في مختلف أجزاء العالم العربي: نفوذ غربي يزحف، وقيادات فكريّة وسياسيّة تقاوم، وتحاول أن تصارع النّفوذ الغربي والاستعمار العسكري والثّقافي. وقد برز من هذه القيادات الفكريّة والسّياسية أعلام ومنارات يمكن أن تكون على الدّوام حاضرة وملهمة في زماننا، كي تزيدنا عبرة وقدوة واستمدادًا نفسيًّا ومعرفيًّا. وقد اخترنا في هذا المقال أنموذجًا جمعَ بين العلم والدّين، وبين الفكر والسياسة. وهو أبو الكلام أزاد (1888-1958م) المفكّر الإسلامي البارز، وأحد أهمّ الشخصيّات الهنديّة التي قامت بأدوار معتبرة في حركة استقلال الهند. كان ناشطًا سياسيًّا وصحفيًّا بارعا، إلى جانب كونه عالم دين، ومؤلّف مجموعة من الكتب في الفكر الإسلامي، كانت في نظر كثير من الباحثين والمؤرّخين ذات تأثير كبير في الأوساط الثقافيّة الهنديّة والإسلاميّة.
 


أبو الكلام أزاد بين مكّة المكرّمة والهند:

ظلّت مكّة المكرّمة على مرّ العصور والأزمان ملاذاً آمناً للمتحصّنين بها وقت الشّدائد والمحن. ومحطّ أنظار العلماء الذين آلوا على أنفسهم أن يأخذوا من فيوضها الإيمانيّة والعلميّة، باعتبارها عاصمة الثّقافة الإسلاميّة ومهدًا لحركات التّجديد في الفكر، والإصلاح في السّلوك. فكانت بحقّ ملتقى العلماء الذين كانوا يتلقّون الإجازات في علوم العربيّة والدّين. ومنهم من يدرّس وينشر العلم بين الطّلبة المقبلين على علوم الشّرع وفنون الآداب، وخاصّة علوم القرآن والحديث والفقه.

 وكان خير الدّين والد أزاد أحد الذين هاجروا إلى مكّة واستقرّوا بها، للتزوّد بالعلم والتّقوى، حيث تزوّج امرأة عربيّة أنجبت له ولده أبا الكلام أزاد. وكلمة أزاد تعني: الحرّ. أمّا أبو الكلام فلَقبٌ أُطلق عليه لأنّه كان بارعًا في الكلام. وقد تعرّض والده إلى حادث أقعده عن العمل، فاضطرّت العائلة إلى الانتقال إلى الهند. وكان ذلك عام 1898م.

وفي السّنوات القليلة التي قضاها أزاد في مكّة المكرّمة، تلقّى توجيهات أوّلية في مبادئ الدّين الإسلامي، كما تعلّم العربيّة والقرآن الكريم في كتاتيب مكّة المكرّمة. وهذه التربيّة الأصيلة أثّرت لاحقًا في فكره الدّيني والسّياسي. ثمّ نشأ في بيئة علميّة صارمة في الهند، حيث تلقّى تعليمه المبكّر في المنزل، مع التّركيز على القرآن والحديث والشّريعة الإسلاميّة. وفي مرحلة لاحقة، درس الرياضيّات والفلسفة واللّغات، مثل: الفارسيّة والأورديّة والعربيّة. وكان شغوفًا بالعلوم الحديثة فدرسها بدون أساتذة، وهذا التّكوين المتين ساعده في تطوير نظريّاته وتوجّهاته الإصلاحيّة.

نشاطه السّياسي والفكري ونضاله من أجل التحرّر:

أسهم أبو الكلام أزاد منذ شبابه في حركة الاستقلال الهنديّة. وكانت له علاقات بالسياسيين البارزين مثل: المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو. وكان دوره في حزب المؤتمر كبيرًا، حيث انضمّ إلى هذا الحزب لكي يناضل من خلاله. فكان من المؤيّدين لنهج المقاومة السلميّة الذي دعا إليه غاندي.

دعم أزاد الوحدة الهنديّة ومعارضة التّقسيم، حيث كان مناهضًا لفكرة تقسيم الهند على أسس دينيّة. واستعمل الصّحافة والكتابة مسلكًا لعرض أفكاره وإصلاحاته ودعوته الدينيّة والوطنيّة، فأسّس عدّة صحف، من بينها جريدة الوكيل التي كانت ناطقة باسم حركة الاستقلال.

أسّس أيضاً صحيفة الهلال، وهي من أوائل الصّحف التي كانت تتناول قضايا سياسيّة واجتماعيّة من منظور إسلامي وإصلاحي. وكان لها التّأثير الكبير في التّرويج لأفكار الوحدة الهنديّة والتّسامح الدّيني في بيئة متعدّدة الملل والأديان والمذاهب. حتّى قال عنها الشّيخ الهندي محمود الحسن: «كنّا نائمين فأيقظتنا مجلّة الهلال».

ساعدت كتابات أزاد في نشر الوعي الوطني والدّيني، والتخلّص من الفكر الطّائفي. والمناداة بتحرير الهند من الاستعمار البريطاني. أمّا أشهر مؤلفّاته في نشر الوعي الإسلامي، فهو: ترجمان القرآن، الذي كان تفسيرًا للقرآن بأسلوب حديث، عكس رؤيته الإصلاحيّة وأفكاره الجديدة في فهم القرآن وتوظيفه في دروب التّوعية والنّضال. ويُعتبر ترجمان القرآن أيضًا من وجهة أدبيّة، أحد أهمّ إسهاماته الأدبيّة، حيث حاول فيه تقديم تفسير حديث للقرآن الكريم بأسلوب يلائم العصر. وبما أنّه كان يدعو إلى التّوفيق بين الدّين والعلم، شدّد على ضرورة مواجهة التحديّات العصريّة بالتّجديد الدّيني.

ركّز أزاد في هذا التّفسير على أنّ الرّسالة القرآنيّة ليست تعاليم روحانيّة خالصة، بل هي أيضًا منهجًا لحياة الإنسان في المجتمع. ولذلك دعا إلى قراءة القرآن الكريم في ضوء التطوّرات المعرفيّة والاجتماعيّة، معتبرًا أنّ الإسلام دين عالمي لا يتعارض مع حركة العلوم والفلسفات والنظريّات. بل أكّد على أهميّة استخدام العقل والتدبّر في تفسير النّصوص الدينيّة. وكان يرَى أنّ المسلمين بحاجة إلى إعادة قراءة القرآن بطرق مرنة ومتطوّرة، تلائم تحوّلات الواقع الحديث وتوجّهه إلى الاعتدال والحكمة.

ولذلك دعا إلى اعتماد المرونة في فهم الأحكام. وحاول في تفسيره أن يُظهر مرونة الشّريعة، معتبرًا أنّ الأحكام الدينيّة والاجتهادات الفقهيّة تراعي السّياقات التاريخيّة والاجتماعيّة، وأنّها قابلة لمواكبة التطوّر مع مرور الزّمن، وإيجاد الحلول اللاّزمة لكلّ حالٍ ومكانٍ. ومع الأسف لم يُترجم هذا الكتاب، حسب ما أمكن الاطّلاع عليه، من الأوردية إلى العربيّة إلى اليوم.

أفكاره الإصلاحيّة:

قدّم أزاد أفكاراً إصلاحيّة في التّعليم والدّين والسّياسة. وكان من أبرز الدّاعين إلى تجديد الفكر الإسلامي وتبسيطه ليكون له الدّور الأهمّ في توعية المسلمين والانسجام مع متطلّبات العصر الحديث. وقد اعتمد التّعليم طريقًا أساسيّا في عمليّات التّوجيه والنّهوض، واستحقّ أن يكون أزاد أوّل وزير للتّعليم في الهند المستقلّة، في 15 أغسطس، 1947، في حكومة رئيس الوزراء: جواهر لال نهرو. وقد أسهم أزاد في تأسيس عدد كبير من المؤسّسات التعليميّة، وتهيئة المعلّمين والأساتذة للقيام بواجبات التّثقيف والتّربية. وكان يرى أنّ التّعليم هو المفتاح لنهوض الأمّة الإسلاميّة. فدعا إلى تعليم الشّباب في كافة المجالات العلميّة والفكريّة، مؤكّدًا أنّ التّعليم يجب أن يكون متاحًا للجميع، بغضّ النّظر عن الدّين أو الجنس. ومن أقواله في هذا السّياق: «لا يمكن أن تكون الأمّة حرّة إلاّ إذا كانت متعلّمة».

وقد أطلق برامجَ وسياساتٍ واعية تهدف إلى نشر التّعليم في المناطق الريفيّة والحضريّة على حدّ سواء. فقد كان يقول: «إنّ التّعليم هو الوسيلة الأساسيّة لمواجهة الجهل والتخلّف، ويجب أن يكون عصريًّا ومتنوّعًا». كما قام بأدوار بارزة في تأسيس عدد من المؤسّسات التعليميّة مثل الجامعات والمعاهد التقنيّة. حيث أعدّ برامج لتعليم الشّباب وتوفير فرص التعلّم للجميع بغضّ النّظر عن الخلفيّة الاجتماعيّة أو الدينيّة.

وفي مجال نشر الفكر الإسلامي القويم، دعا أزاد إلى ضرورة تحديث الفكر الإسلامي ومراجعة العديد من الأفكار التقليديّة وربطها بآفاق التطوّر الفكري والعلمي.
 

العلاقة مع غاندي وحزب المؤتمر الوطني الهندي:

انضمّ أزاد إلى حزب المؤتمر في أوائل العشرينيات وبدأ في تعزيز مبادئ اللاّعنف التي دعا إليها المهاتما غاندي. وشارك في العديد من التحرّكات الاحتجاجيّة ضدّ الحكم البريطاني، وسُجن عدّة مرّات بسبب نشاطه الوطني ومواقفه السياسيّة. وقد قال أثناء محاكمته كلاماً ظلّ شعارًا وقدوة لكلّ المدافعين عن الحقّ، والمناضلين في سبيل الحريّة والكرامة. نختار منه ما يأتي: «الإسلام الذي اعتنقه هو من أوّله إلى آخره، دعوة عامّة إلى البسالة والجرأة والتضحيّة، والاستهانة بالموت في سبيل الحقّ. ألا فلتعلم الحكومة الإنجليزيّة، أنّ المسلم الذي أمره ربّه أن يرحّب بالموت، ويتغلغل في لجج الدّواهي والكوارث، لا يقبل السّكوت عن الظلّم. ولا يخيفه قانون العقوبات الاستعماري». كان أيضا مؤيّدًا للوحدة بين الهندوس والمسلمين، ورأى أنّ التّقسيم سيؤدّي إلى صراعات دمويّة، وهو ما حدث لاحقًا.

فلسفته حول الدّين والسّياسة ووحدة المجتمع:

رأى أزاد أن الدّين يجب أن يكون مصدرًا للوحدة والتقدّم، وليس للتّفرقة والجمود. وكان ينادي بفكرة أنّ الإسلام دين عالمي يمكنه استيعاب التغيّرات الاجتماعيّة والسياسيّة كلّها. كما آمن أزاد بالوحدة الوطنيّة التي تتجاوز حدود الطّائفة أو الدّين، وقد تجلّى ذلك في موقفه الصّلب ضدّ تقسيم الهند، حيث كان يرى أن المسلمين والهندوس يمكنهم التّعايش بسلام ضمن وطن موحّد.

شارك أبو الكلام أزاد في حركة الخلافة التي ظهرت في الهند لدعم الدّولة العثمانيّة والخلافة الإسلاميّة بعد الحرب العالميّة الأولى. كانت هذه الحركة من أهمّ المحطّات في حياته السياسيّة، حيث سعت للتّقريب بين المسلمين والهندوس لمواجهة الاستعمار البريطاني. ومن مقولاته الشّهيرة التي تُظهر رؤيته المتقدّمة للوحدة الوطنيّة والإصلاح الديني: «إذا تمزّقنا على أسس دينيّة، فلن نكون في المستقبل سوى شعوب تمزّقها الكراهية».

ومن أهمّ إسهاماته في التنظير الفكري، دعوته إلى التّعايش بين الأديان المختلفة، خاصّة بين المسلمين والهندوس في الهند. وذلك لأنّه كان يرى أنّ الإسلام يدعو إلى السّلام والتّفاهم بين الشّعوب، والدّعوة إلى اندماج تلك الشّعوب في الإسلام والمجتمع الإسلامي، كما حصل في العصور الأولى. وتطبيقًا لذلك المبدأ دافع عن ضرورة التّعايش بين المسلمين والهندوس في الهند المستقلّة. ودافع أيضاً عن الوحدة الوطنيّة بين المسلمين والهندوس. معتبرًا أنّ الدّين لا يكون حاجزًا بين أبناء الأمّة الواحدة. ومن أقواله في هذا المجال: «في الوحدة قوّة، لكن في التنوّع جمال».

ونتيجة إيمانه القويّ بفكرة الشّمولية في الإسلام، اعتبر أنّ الإسلام لا يخصّ العرب فقط، بل هو دين عالمي يستوعب كافة الشّعوب والثّقافات. وكان يعتقد أنّ الإسلام يمكن أن يتكيّف مع الثّقافات المختلفة. لأنّه يملك من المرونة ما يمكّنه من التّعايش مع المجتمعات المتعدّدة. مع ضرورة أن يعرف المسلمون تاريخهم. ولتأكيد هذه الفكرة قال: «التّاريخ هو معلّم الحياة، ومن لا يتعلّم من التّاريخ يكرّر أخطاء الماضي».

الانفتاح على الحضارات ونقد الجمود على الموجود:

كان أزاد مدافعًا قويًّا عن الإسلام، إلاّ أنّه دعا إلى الحوار مع الحضارات الأخرى والاستفادة من الإنجازات الفكريّة والعلميّة التي حقّقتها الأمم الأخرى. وكان يعتقد أنّ الانغلاق الفكري يؤدّي إلى التخلّف والجمود. وقد قال إنّ: «الإبداع هو ما يجعل الحياة تستحقّ العيش». وكان ينتقد النّزعة التقليديّة والجمود الفكري، الذي كان سائداً في بعض الأوساط الإسلاميّة. إذ كان يرى أنّ الجمود والتمسّك الحرفي بالتّقاليد القديمة دون النّظر إلى المتغيّرات الحديثة يعيق تقدّم الأمّة الإسلاميّة. ومن أقواله في هذا السّياق: «العلم هو الطّريق إلى النّور، والنّور هو الطّريق إلى الحقّ». ولذلك دعا إلى إعادة النّظر في الفقه الإسلامي بطرق تتلاءم مع العصر الحديث، مع الحفاظ على المبادئ الأساسيّة للإسلام. وكان يرى أنّ الفقه يجب أن يتغيّر بتغيّر الزّمن، لأنّه بطبيعته حلول لمشاكل طارئة وحادثة.

ورغم أنّ أزاد كان عالم دين، إلاّ أنّه لم يرَ تعارضًا بين الإسلام والسّياسة. بل كان من الدّاعمين لفكرة أنّ الإسلام دين شامل يتعامل مع كافّة جوانب الحياة بما في ذلك السيّاسة. ومع ذلك، كان يدعو إلى التّمييز بين الشّريعة كقوانين دينيّة، وبين السّياسة باعتبارها إدارة عامّة لشؤون الدّولة. كما أكّد على فصل الدّين عن الطائفية. وألاّ يتمّ استخدام الدّين كأداة سياسيّة لتقسيم المجتمع. حيث اعتبر أنّ الدّين يجب أن يبقى قوّة توحيد، لا تفريق.

مفهوم الأمّة في الإسلام:

كانت لأبي الكلام أزاد رؤية خاصّة عن مفهوم الأمّة الإسلاميّة. فهي ليست مجرّد كيان سياسي أو اجتماعي، بل هي وحدة فكريّة تجمع المسلمين في مختلف أنحاء العالم حول مبادئ العقيدة والقيم المشتركة. وبالتّالي رفض الفكرة التي تقصر الأمّة الإسلاميّة على حدود جغرافيّة أو طائفيّة، داعيًا إلى أمّة شاملة تتجاوز الفروق الدينيّة والعرقيّة. تمشّيًا مع قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) الأنبياء}. فالآية الكريمة تؤكّد، وفق فهمه، وحدة الرّسالات السماويّة وثبات السّنن الإلهية. وأنّ هذه الملّة التي هي الإسلام. وهي الملّة الصّحيحة التي يجب المحافظة عليها، لأنّها أمّة واحدة متجانسة لا تنافر فيها، فلا يمكن التفرّق فيها شيعًا وأحزابًا، لأنّ الله تعالى خالق الجميع ومالك أمر النّاس جميعا، فلا بدّ من إخلاص العبادة وتجنّب الشّرك. ومع ذلك يؤكّد أنّ: «الاختلافات بين النّاس يجب أن يُحتفى بها، لا أن تُنتقد». لأنّ الله تعالى خلق النّاس مختلفين.
 

وفاته وأثره المستمر:

توفّي أبو الكلام أزاد في 22 من شهر فبراير 1958، تاركًا وراءه إرثًا فكريًّا وسياسيًّا متميّزا. تمّ تخليد ذكراه في الهند من خلال تسمية العديد من المؤسّسات التعليميّة باسمه، واعتُبر شخصيّة رمزيّة في التّسامح والوحدة الوطنيّة والكفاح من أجل الحريّة والعدالة ونشر المعرفة.

كان من أوائل المفكّرين المسلمين الذين دَعَوْا إلى تجديد التّفكير الإسلامي ليواكب التطوّرات الحديثة في العالم. ونتيجة تأثّره بتيّارات الإصلاح الإسلامي التي ظهرت في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، سعى لتقديم رؤية عصريّة للإسلام. معتبرًا الدّين دعوة إلى التقدّم، ومصدرًا للإلهام والتطوّر بالنّسبة للإنسان والمجتمع.

جمع أزاد بين الفكر الإسلامي التّقليدي وأفكار الإصلاح والتّحديث. وأسّس لفهم جديد للإسلام يتماشَى مع التحديّات الحديثة، خاصّة فيما يتعلّق بالتّعايش بين الأديان، والتّجديد الدّيني، والتّعليم. كان يؤمن أنّ الإسلام قادر على الاستجابة لمتطلّبات العصر دون التخلّي عن جوهره الرّوحي والدّيني، وأنّ البحث والعلم يمكن أن يُسهِمَا في إثراء حياة المسلمين وتطوّرهم. وقد جمع هذا المبدأ في قوله: «لا يمكننا أن ننسى ماضينا، ولكن علينا أن نبني مستقبلنا».

قدّم أزاد أفكارًا إصلاحيّة حول الدّين، دون الخروج عن السّياق الإسلامي الأصيل. دعوته إلى التّجديد كانت متأثّرة بالحركات الإصلاحيّة الإسلاميّة التي ظهرت في نهايات القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لكنّه تميّز في تقديم رؤى تجديديّة خاصّة به، تنطلق من فهم عميق للدّين وتستجيب للتحديّات المعاصرة.

وأبرز المحاور التي عبّرت عن فلسفته الدينيّة وتجديداته المتنوّعة:
اعتبار القرآن الكريم مصدرًا أساسيّا للفكر والتّجديد: حيث شدّد على ضرورة العودة إلى النصّ القرآني، باعتباره نصًّا حيًّا يتجاوب مع تغيّرات الأماكن والأزمان.
تقديم تفسير عصري للقرآن من خلال كتابه ترجمان القرآن. قدّم فيه قراءة حديثة للقرآن تقوم على تفسير المعاني بأسلوب يتماشَى مع التقدّم العلمي والفكري. كما ركّز في تفسيره على أن القرآن ليس مجموعة من الأحكام الفقهيّة والشرعيّة فقط، بل هو كتاب يشمل جميع جوانب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة.
اعتماد المرونة في الفهم: كان يرى أنّ الفهم الصّحيح للقرآن يجب أن يتّسم بالمرونة والقدرة على التأقلم مع الظّروف الجديدة، وأنّ النصوص القرآنيّة تحمل في طيّاتها إمكانيّات لا حدود لها للتكيّف مع مختلف السّياقات والأوضاع.
الدّعوة إلى إعادة تنشيط الوعي الإسلامي. لأنّ الإسلام دين عقلاني في جوهره، ويجب أن يُفهم ويُتعامل معه وفقًا للعقل والمنطق. ولذلك دعا أزاد إلى التحرّر من الجمود والتّقليد الأعمى، مشدّدًا على ضرورة استخدام التدبّر لفهم الشّريعة والنّصوص الدينيّة. ورفض تقييد الفهم الدّيني بما أتى به الفقهاء السّابقون فقط، مشيرًا إلى أنّ الفكر الإسلامي يجب أن يكون منفتحاً على التّجديد والإبداع.
نقد التّقليد: كان أزاد ناقدًا للتّقليد الفقهي الذي يقيّد الاجتهاد ويمنع تطوير الفكر الإسلامي بما يلائم المستجدّات والتطوّرات. ورأى أنّ الجمود على الموجود في الفقه يؤدّي إلى تأخّر المسلمين عن ركب الحضارة والتقدّم.
التّجديد والاجتهاد في مباحث الشّريعة والفقه: رأى أنّ قضايا الشّريعة الإسلاميّة، رغم ثبات مبادئها، بحاجة إلى إعادة تفسير مستمرّ. لأنّها تتناسب مع تطوّرات الزّمن والمجتمعات. ودعا إلى فتح باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي ليكون قادرًا على مواجهة التحديّات الحديثة. واعتبر أنّ الاجتهاد لا يعني فقط التّعامل مع النّصوص الدينيّة، بل يشمل أيضًا تحليل الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي تتغيّر مع الزّمن. ولذلك لا بدّ من مراعاة المرونة في تطبيق الأحكام وفقًا لروح العصر ومصالح النّاس، واعتماد القراءة المقاصديّة لإصلاح المجتمع الإسلامي.
وحدة الدّين والعلم: من أبرز إسهامات أبي الكلام أزاد في الفكر الإسلامي، دعوته إلى التّوفيق بين الدّين والعلم. فقد كان يقرّر في كتبه ومحاضراته أنّ الإسلام يدعو إلى العلم، ويشجّع على اكتساب المعرفة والتقدّم العلمي. وأنّه يدعو إلى البحث والمعرفة والتّفكير العلمي. واستند في ذلك إلى آيات من القرآن تدعو إلى التأمّل في الكون وفي قوانين الطّبيعة، ورأى أن المسلمين يجب أن يكونوا في طليعة النّهضة العلميّة كما كانوا في العصور الذهبيّة.
رفض الثنائيات: رفض أزاد التصوّرات التي تفصل بين الدّين والعلم أو بين الرّوحي والمادي. وكان يرى أن الإسلام، بمفهومه الشّامل، يجمع بين هذين الجانبين ويحقّق التّوازن بينهما، وأنّ العلم لا يمكن أن يكون مناقضًا للدّين، إذا تمّ فهم الدّين بشكل صحيح.
عالميّة الدين الإسلامي: كان أبو الكلام أزاد من المفكّرين الذين نظروا إلى الإسلام على أنّه دين عالمي، يتجاوز حدود الجغرافيا والعِرق. فالإسلام لا ينسجم مع الثّقافة العربيّة فقط، ولا ينحصر في منطقة واحدة. كان يرى أنّ الإسلام قادر على التكيّف مع كلّ الثّقافات والشّعوب، وأنّ رسالته تتجاوز الحدود التقليديّة. وبالتّالي يمكن أن يقوم بدور فعّال في توحيد الشّعوب وتعزيز التّعاون بين الأديان والثّقافات المختلفة.
الحوار بين الأديان: دعم أزاد فكرة الحوار بين الأديان والثّقافات المختلفة، وكان يؤمن بأنّ الإسلام يمكن أن يُسهِمَ في خلق بيئة من التّسامح والتّفاهم بين الأديان. ولذلك كان يدعو دائمًا إلى الوحدة الوطنّية بين المسلمين والهندوس في الهند.
دور التّعليم والتّنوير الدّيني: من بين أهمّ إسهاماته في التّجديد الدّيني دعوته إلى نشر التّعليم كأداة أساسيّة لفهم الدّين بشكل صحيح. حيث اعتبر أنّ الجهل هو أحد أسباب سوء الفهم الدّيني، وأنّ التّعليم هو الوسيلة للتّنوير الدّيني والفكري معا. وأنّه مفتاح الإصلاح الاجتماعي. وبصفته أوّل وزير للتّعليم في الهند المستقلّة، كان دوره في تطوير المؤسّسات التعليميّة محوريًّا، وكان يؤمن بأنّ التّعليم يجب ألاّ يكون مقتصرًا على العلوم الدّينية فقط، بل لا بدّ أن يشمل كافة فروع المعرفة. كما ركّز على أهميّة تعليم الشّباب، مشيرًا إلى أنّهم يحملون مسؤوليّة بناء مجتمع إسلامي متطوّر. وكان يؤمن بأنّ الجيل الجديد يجب أن يُربّى على الفهم الصّحيح للدّين، وأن يكون قادرًا على الجمع بين المعرفة الدينيّة والعلميّة.

كانت أفكار أبي الكلام أزاد حول التّجديد والإصلاح، متقدّمة بشكل كبير بالنّسبة لعصره. فإسهاماته الفكريّة لا تزال مؤثّرة إلى اليوم، حيث قدّم نموذجًا لتجديد الفكر الإسلامي بشكل يجمع بين الأصالة والحداثة، ومواجهة التحديّات الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعترض العالم الإسلامي. كما قام بدور فعّال في دعم الحريّة والدّيمقراطيّة والتّعليم. وسيظلّ رمزًا للإصلاح والتقدّم، ليس في الهند فقط، ولكن في العالم الإسلامي بأسره. باعتباره مفكّراً إسلاميّاً أوّلا، ثمّ لأدواره الفاعلة في بناء أمّة متعدّدة الثّقافات، والنّضال من أجل حريّة الفكر والتّعليم.

 


المراجع:
أبو الكلام أزاد، غبار الخاطر، ترجمة جلال السّعيد الحفناوي، المركز القومي للتّرجمة، القاهرة، 2016.
أبو الكلام أزاد، الهند تظفر بالحريّة، ترجمة نبيلة يوسف الزواوي، وزارة الثّقافة والفّنون والتّراث، ط1، قطر، 2011م.
أنور الجندي، تراجم الأعلام المعاصرين في العالم الإسلامي، مكتبة الانجلو المصريّة، ط1، القاهرة، 1970م.
محمّد أيّوب النّدوي، أبو الكلام أزاد وإسهاماته في الصّحافة، مجلّة ثقافة الهند، مجلّد52، عدد2، ص: 53.
رضوان قيصر، أبو الكلام أزاد وتشكّل الأمّة الهنديّة، ترجمة صهيب عالم، مؤسّسة الفكر العربي، ط1، بيروت، 2016.
علاء الدين أنصاري، أبو الكلام آزاد، حياته وعصره وجهوده.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها