هانْس رُوبِرت يَاوْس

المَعْرفَة وحِوَار التّخصُّصات في العُلُوم الإِنْسَانِية

د. رشيد طلبي

يُعدُّ (هانس روبرت ياوس Hans Robert Jauß) من الأعْلام الغربية التِي اسْتفاد منْهَا العالم العربي والمغرب أيضاً، في النقد الحديث والمعاصر، من خلاَلِ مساهماته في مجال التأويل ونظرية التلقي. حيثُ زارَ فاس والرباط عام 1994م، وألقى محاضرتين في هذا المجال، كما أجرى لقاءاتٍ مع ثلّة من الباحثين المغاربة. ومن أشهر مُترجِمِيه في المغرب، نذْكُرُ "أحمد بو حسن"، و"رشيد بنحدّو"، و"رضوان الضاوِي" وغيرهم.

هو عالِمٌ ألمَانِي، وُلِدَ سنة 1921م، وتوفي سنة 1997م في كونستانس. دَرَسَ في كل من جامعة الرايخ وهايدلبرغ الأمانيتين، منذُ 1942م. أصبح سنة 1959م مُديراً لقسم الدراسات الرومانية بمونستر. وقد أسّس مجموعة البحث الأولى مع (وولفغانغ إيزر Wolfgang Iser) (الشعر والهيرمينوطيقا) سنة1963م. والثانية عُرِفَتْ بمدرسة كونستانس، نسبة إلى الجامعة التي انْتقل للتدريس بها، سنة 1967م.

اهتمّ ياوس إلى جانب الفيلولوجيا بالبعد الهيرمينوطيقي وقواعده الفلسفية، متأثراً بفلسفة (جادمير Gadamer). وبهذا، افترع مسالك جديدة ركّزَ فِيها اهتماماته المتعددة. وقد ألف مجموعة من الكُتُب منها: "أبحاث في شعر الحيوان في القرون الوسطى"، و"الزمن والتذكّر في البحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست"، و"نظرية التلقِي"، و"مسالك الفهم"، كما صدر له بعد وفاته، سنة 1999م، "مشاكل الفهم".

وبالتركيز على مؤلفه الموسوم بـ"مسالك الفهم"1، عمل ياوس على تجديد العلوم الإنسانية، انطلاقاً من حوارية المعرفة التي تتجاوزُ حدود التخصُّصات وفروعها، مُهْتمّاً، في هذا السياق، بالقارئ أولاً وكفاياته المعرفية. كما اهتم ثانياً بمجال الجمالية في مساراته المتعدّدة والمُعقّدة، منْطَلقاً من إصلاح هامبولدت الجامعي، ومعتمداً في هذا على فكرَة الوحدة والترابط والتكامل بين العلمي والتعليم. على أساس أنّ العلوم الإنسانية ذات أهمية في عالم العولمة؛ فهي التي تفتحنا على معارف عديدة من الماضي، مقترحة جسوراً نحو الحاضر والمستقبل، إنها مُعادِلَةٌ للثقافة، ومُساعِدةٌ على فهمها، مادامت تبحثُ "فِي الفهم الذاتي للإنسان ماضياً وحاضراً، بما في ذلك، تمظهرات هذا الفهم في الاقتصاد والسياسة والقانون، كما في العلوم الثقافية. إنّها تمكنُّنا من إيجاد جواب عن السؤال المهمّ وهو: كيف نفهم أنفسنا بشكل أفضل؟ فالعلوم الإنسانية تبحثُ في العالم الإنساني وتقولُ لنَا: مَنْ نحن؟ وماذا يمكنُنا أنْ نكُون"2؟

وَفْقَ هذا السيّاق، تأتي مقالة عالِم الاجتماع ومُدرّس علوم الفلسفة بجامعة جوتة بفرانكفورت "هرالد فيلتسر Harald Welzer" الموسومة بـ"وظيفة العلوم الإنسانية- هل هي علوم دون جدوى"؟ ومن هنا، فما أهمية العلوم الإنسانية؟ وما علاقتها بباقي التخصصات العلمية والمعرفية؟ وما جدواها عند القارئ/ الإنسان في الحاضر والمستقبل؟ وكيف يُمكنُ الاستفادة منها في ظل حوار المعارف والتخصصات؟



إصلاح هامبولدت والعلوم الإنسانية الجديدة

على إِثْرِ الإصلاح الجامعي سنة 1810م الذي أطلقه الفيلسوف الألماني ألكسندر فون هامبولدت، حيث عمد إلى فكرة جامعة جديدة مبنية على استقلال البحث العلمي، ودمجه مع الدراسة العادية بالجامعات والمدارس المختلفة. وبذلك، تجاوزت العلوم الإنسانية المفهوم التقليدي الذي جعلها في القرن التاسع عشر تأخذ وضعية تخصصات مستقلّة، لتعود إلى أصلها، فقد نشأت في الأصل عابرة للحدود ومتكاملة في الوقت نفسه. وتتجلى هذه الوظيفة، في علاقة بتاريخ الفلسفة الغربية التي تميزت في ظل (صراع الكليات) –حسب (كانط Kant)- بإلحاحها على إخراجها من التشريع الحكومي إلى تشريعات العقل، من خلال هذا الإصلاح الجامعي.

وبذلك، أصبحت العلوم الإنسانية لاترتبطُ بشكل تقني وصارم بالمسالك المعرفية المعروفة، مثل: المنطق والنحو والبلاغة وغيرها. بل عادت إلى أصل نشأتها، انطلاقاً من فن التأويل باعتباره منهجاً مشتركاً بينه، وبين العلوم الإنسانية كمذهب لتحقيق الفهم والتفسير والممارسة. لذا، اتخذت مفهومها الجديد؛ أي باعتبارها ثقافة حداثية، أو بوصفها علوماً للثقافة، ينطلق تجديد نموذجيتها وتكامليتها وحواريتها من خلال عبور الحدود التي حصرتها في مجالات تقنية، لتشكل فعاليتها المعرفية في ارتباط بمفهوم النص ومفهوم الخطاب. إنها أصبحت في الحقيقة، في حوارها مع الثقافات، موضوعاً للتفكير العلمي. لهذا "لا تتجلّى الأهمية المركزية للعلوم الإنسانية بالنسبة إلى الحداثة في تعويضها لها، بل تكمنُ فيما تنجزه من ثقافة حداثية تعني علمياً ثقافة تأملية"3.

وإذا كان بمقدور البحث العلمي الحديث، بواسطة إجراءاته الفكرية والعملية، تحقيق وظيفتين أساسيتين؛ "أولاً توسيع دائم ومستمر لدائرة المعرفة. وثانياً تحقيق وسائل جديدة والتغلُّب مرة أخرى على الغموض الذي يهدّدُها"4. فإنّ الفلسفة بجامعة هامبولدت أدركت الوظيفة التكاملية للعمل المركزي الأول، على الرّغم من الحفاظ بشكل موسوعي ومعياري على وحدة التخصّصات، حيث لم تصبح قادرة على تتبّع العلوم في كل ما تنجزه. وبذلك، تنازلت خطوة خطوة عن مكانتها الريادية، حتى وصلت إلى أن تكون واحدة من بين العلوم المتخصصة.

عوامل تشكل النموذجية التكاملية

أسهمت النزعة التاريخانية منذ حوالي 1850م من اندماج جملة من التخصّصات مثل التاريخ والقانون، وتاريخ الفن، وتاريخ اللاهوت، وتاريخ الفلسفة، وغيرها. وبذلك، تمّ الجمع بين الروح والطبيعة قبل الاهتمام بالعلوم السلوكية. وقد تم هذا منذ عصر الأنوار، حيث استطاع (فولتير) أن يُغيّرَ من مفهوم التاريخ، باعتباره تراكماً للمعرفة عن الماضي، حين أدمج التاريخ الفعلي وتاريخ الحكام، وتاريخ الدول، وتاريخ الحروب في فلسفة واحدة، مبرراً ذلك بقوله: "إنّ التاريخ ليس هو العمل السياسي فقط، بل هو أيضاً فتح الأعين على تحول العادات وعلى مكتسبات الفنون، إلى جانب العمل السياسي، وإنّ ذلك هو ما يجعلنا نقيس عظمة أو بؤس تاريخ البشرية، ونعطي لتراكم الأعمال معنى؛ تراكم لا يشغل الذاكرة فقط، ولكنه تراكم يشملُ أيضاً التفكير والذوق"5.

هذا، بالإضافة إلى نظرية الثورة العلمية المقارنة الحديثة لـ(توماس. س. كون. Thomas. S. Kohn) (1967م)، التي جاءت موجهة نحو العلوم الطبيعية بغية مقارنة كيفية محاولة إدخال كل ما هو جديد في العلوم الإنسانية بشكل دائم، في محاولة امتدادها نحو استعادة القديم.

من هنا، جاء ميلاد العلوم الإنسانية الحديثة موحداً في نموذج واحد يجمع بين التاريخ والطبيعة الإنسانية. وقد بدأ هذا مع (فنكلمان Wineckelman) في كتابه (تاريخ فن العصور القديمة)، الذي عرض فيه مفهوم "الجميل" في انتشاره التاريخي. وبذلك، "شكلت التخصّصات الثلاثة الحديثة: التاريخ، الأنثروبولوجيا، وعلم الجمال، من قبل، في كتاب (فيكو Vicos) المبكر "العلم الجديد" رابطة مؤسساتية""6.

وبهذا، تشكلت نموذجية العلوم الإنسانية عموماً، من خلال علاقة التوتر بين المدخل التاريخي والنسقي، شأن علم فقه اللغة الذي تجاوز الفيلولوجيا القديمة تبعاً لمجموعة من مراحل التطور نحو علم الثقافة. حيث مهد التراجع الذي عرفته النزعة الوضعية في الفلسفة، من خلال أعمال كل من هوسرل وبيركسون وكروس إلى ظهور اللسانيات مع دو سوسير، حيثُ مُنِحت الأولوية لنموذجية النحو التاريخي الذي أصبح في الوقت نفسه المنفذ الجمالي بنيوياً، ذا الطابع الأسلوبي، لمساءلة تاريخ الفن والأدب المتداول، بعد أن تم حظر تعليمها في العشرينيات، ولم يحن وقتها آنذاك إلا بعد سنة 1945م. لهذا، أصبح "نموذج دو سوسير (De Saussures) (...) جوهر الإبدال البنيوي الذي ساد في حقل البحث العلمي؛ من الأنثروبولوجيا ومروراً بالتاريخ حتى علوم النص، في الستينيات"7.

وعقب المنعطف اللساني، ظهر منعطف آخر جديد سنة 1969م وهو المنعطف السيميائي، حيث تجاوز هذا الإبدال مستوى المظهر اللغوي نحو المظهر الإشاري. لتتحول العلوم الإنسانية التاريخية نحو العلوم الثقافية النسقية. وقد أثبت هذا المنفذ جدارته في حقل الإعلام وغيره ليخلخل بذلك علم التواصل نحو ممارسة فن التأويل.

وعموماً، وإن أدى كل هذا إلى تفعيل حوار التخصصات في العلوم الإنسانية، فإنه يمكن أن نراهن على بعض التخصصات الكلاسيكية مثل: الفلسفة واللسانيات وعلم التاريخ، وعلم الأدب والفيلولوجيا. وقد برز في هذا السياق مدرسة (فيينا) التي نظرت للعلم الموحد من خلال هذه الوضعية الجديدة، وتعتني بالتحليل المنطقي للمعرفة العلمية الموحدة. وبذلك، اعتبرت أن هناك علماً إنسانياً موحداً على الرغم من تواجد العلوم الإنسانية المختلفة، مادام العلم المركزي، أو ما يسمى بعلم المفاتيح هو العلم الذي يعتبر المعرفة وسيلة لفهم ومعرفة معنى الحياة.

صراع الكليات والوحدة الحوارية

وَفْقَ هذا السيّاق، يظهر أن طموح المعرِفة وهدفها الأسمى هو التبْلِيغ. وبذلك، أصبحتْ الضرورة الراهنة للعلوم الإنسانية في ازدياد لما هو قابل للمعرفة، مما أدّى في الوقت ذاته إلى التكاثر المنجز ليس على مستوى التخصص أو الاستقلال عن الفروع العلمية، بل حتى المواد الدراسية والاختصاصات، ولا يرتبط الأمر بالعلوم العلموية والتأويلية فقط، بل بالتخصّصات التي بإمكانها أن تتحد مع الكليات العتيقة بعد حلّها.

وبذلك، أدّتْ السيرورة التاريخية إلى تجاوز جامعة المحاضرات القديمة المنغلقة على نفسها إلى الجامعة العملية الحديثة، المتقدمة والمتميزة، لتنفصل بعدها عن رابطة الكليات التقليدية الأربعة (الفلسفة وعلم اللاهوت والقانون والطب)، وهي على التوالي كلية العلوم الطبيعية، وكلية علوم الاقتصاد والسياسة، وكلية علم الاجتماع... علاوة على استقلالية المدارس التقنية العليا والمعاهد وغيرها.

من هنا، فما دام الإصلاح الجامعي لهامبولدت يرتكز على المبدأ الحواري في العلم والمعرفة والتكوين، فهذا يعني أنّ "كل تمديد وإعادة تصنيف لنظام العلوم يجلب معه مرة أخرى مقتضيات التعاون المشترك، ويحرّكُ معه الحوار المتداخل للتخصصات المشتركة"8. وهذا ما أشار إليه (شلايرماخر)؛ ذلك أن الذي لم يفهم سوى الكيمياء فقط؛ فإنه لن يفهمها بشكل صحيح أيضاً، مما يعني أن الخطاب العلمي ينبغي أن يكون حوارياً عوض أن يبقى حواراً داخلياً منغلقاً على نفسه.

وهذا ما طالب به أيضاً (فيشته Fichte) أن يُلقى "الدرس الجامعي على شكل خطاب سهل وسلس، والذي يجده (الطلاب) أيضاً في شكل الكتاب، وأن يتحول إلى شكل حواري وأكاديمي حقيقي، كما تراه المدرسة السقراطية... -بعدها ينبغي على الطلاب- أن يلتزموا فيما بينهم بالتبليغ الواسع والقيام بالتبادل فيما بينهم كذلك، والذي يفهم فيه كل واحد منهم كفرد العلم من الوجهة الأخرى"9.

العلوم الإنسانية: الوظيفة وتجاوز الحدود

إذا كانت العلوم الإنسانية في أصل نشأتها كما هي الحال الآن، بعد الإصلاح الجامعي، عابرة للحدود مثل الفلسفة، فإنّها تهتم بالأسئلة التي لا توجد لها أجوبة علمية حتمية. ونظراً لتدافع جملة من التخصّصات في ظل أن العلم مقصور على جانب المادة والطبيعة، فالعلوم الإنسانية دعيت إلى حداثتها في نطاق ربط الجسور بين النظرية والممارسة، وبين الأدب والحياة اليومية، وبين اللعب والعمل، وبين الحرية والمدنية. وباختصار شديد، فقد دعيت إلى تحديد وظيفتها التواصلية والماهوية التي نجدها مبنية أساساً على توافق الآراء.

لقد عبّر (فالتري. ي. أونك Walter.J.ong) عن هذا حين قال:
"يجبُ على علماء الإنسانيات أن يُعيروا اهتمامهم أكثر مما هو عليه، إلى الآثار الاجتماعية الموحِّدة الموجودة في العلوم الإنسانية المفهومة والمؤولة بشكل جيد. يمكنُ للفنون أن تخلق جماعات، وتجعلهم يستطيعون تعريف أنفسهم كجماعات أو ثقافات. وعلى العلوم الإنسانية (الإنسانيات) أن تقوم بتواصل أكثر بين الأشخاص وبالمشاركة بينهم أكثر"10.

وهذا يعني أن العلوم الإنسانية حينما أعيد النظر في توجهها أصبحت المكان الذي يحقق فيها العالم معرفة نفسه. وبذلك، ستشكل جوهر المعرفة بعدما كانت المعرفة جوهر الفلسفة. وبهذا، وصلت إلى الشكل المفتوح لتغير بدورها عادات الثقافات المفتوحة الآن كلياً، بما فيها الوسائل التكنولوجية والرقمية ووسائل الإعلام والاتصال. إنها غير قابلة للاستبدال الآن في نطاق حوار التخصصات، خاصة عندما يتعلق الأمر بفهم موضوع ما؛ أي في حقيقته التاريخية والفلسفية واللغوية والجمالية.

إضاءة خاصة

وملاك القول، يبدو أن العلوم الإنسانية وما هي عليه اليوم، في نطاق حوار معرفي يتجاوز حدُود التخصصات الطبيعية والإنسانية، فقد أصبحت توفر لنا الفهم الذاتي للإنسان وانعكاسات هذا الفهم على مجالات الحياة الأخرى، القانونية والاقتصادية والساسية والتواصلية وغيرها كما في العلوم الثقافية. إنها ثقافة تحمي هوية الإنسان وتدعم حرية تفكيره ونظرته لمجتمعه والعالم الإنساني الذي ينتمي إليه، مادامت تخول لنا فهم أنفسنا بشكل أفضل، بل أكثر من هذا تجيبُ عن السؤال: من نحن؟


هوامش
1.Hans Robert JauB, Wege des Verstehens. Fink. München.1994.
2. هانس روبرت ياوس؛ السؤال المفتوح والجواب الحتمي. نموذجية العلوم الإنسانية في حوار التخصصات. ترجمة: رضوان ضاوي. إصدارات مجلة نصوص من خارج اللغة. ط1. 2019. ص: 9. / 3. نفسه. ص: 22. / 4. نفسه. ص: 25-26. / 5. نفسه. ص: 34. / 6. نفسه. ص: 36. / 7. نفسه. ص: 44-45. / 8. نفسه. ص: 59. / 9. Fichte (1807). Wie Anm. 9.s.36. نقلاً عن هانس روبرت ياوس. سابق. ص: 60. / 10. W. J. Ong (wie Anm18).s.622. نقلاً عن هانس روبرت ياوس؛ سابق. ص: 84.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها