تمشي بتؤدة ناحية التسريحة في غرفة النوم. تمشط شعرها، الذي قاوم كل محاولات الصبغ الأخيرة، فظهر بلون رمادي يميل إلى الأبيض. راحت تلمس بأنامل أصابعها تلك التجاعيد التي صنعها الزمن. تتأوه ألمًا على ما فاتها من العمر. تمسك صندوق الذكريات الصغير من على التسريحة، وتمضي نحو السرير. تستلقي، تفتحه، وتقلب فيه. تمسك بسلسلة فضية تنتهي بقلب صغير. تتذكر تلك اللحظة حين قابلته، وأهداها هذا القلب المحفور عليه كلمات غير واضحة المعالم، رغم كونها باللغة العربية الفصحى. سألته وقتها عن مصدرها فقال:
◅ لقد ورثتها عن والدتي رحمها الله.
تترك السلسلة لتمسك بصورة صغيرة له، وأخرى لهما معًا في حفل الزفاف. لقد رحل وتركها وحيدة منذ عشر سنوات، بعد عشرين عامًا من الزواج السعيد، لم يغادر فيها بيت الزوجية إلا عامًا واحدًا عندما سافر ليعمل في إحدى دول الخليج. كان يرسل لها خطابًا كل فترة، وفي النهاية لم يحتمل فراقها وعاد. تمسك رزمة الخطابات، وتبدأ في القراءة. تستعيد مع كل كلمة المشاعر الجميلة التي تفتقدها الآن. لم يعد لديها أحد يؤنس وحدتها حاليًا ما عدا أختها الصغرى التي تزورها بين الحين والآخر. تنتظر يوم وفاتها لترث الشقة، وتزوج ابنها الأكبر بها. تغلق الصندوق، وتضعه بجانبها، ثم تسند رأسها على الوسادة. تغلق عينيها، وتستسلم لنوم أبدي.
أخذت تحث زوجها على التخلص من كل أثاث المنزل بأقصى سرعة، بعد أن استولت على كل الذهب والمال والأشياء الثمينة فيه، حتى تقوم بطلاء الشقة وتجديدها استعدادًا لزواج ابنها البكر فيها بعد وفاة أختها الكبرى ووراثتها للشقة. لقد انتظرت سنين عديدة حتى ترحل أختها المسنة، وتستطيع أن تستولي على تلك الشقة الرحبة. راح زوجها يتابع بائع الأثاث القديم والعمال وهم يفرغون الشقة وما فيها، ويهيب بهم الإسراع في ذلك. أمسك البائع بالصندوق الصغير، وسأل الزوج إن كان يود الاحتفاظ به. أمسك الزوج بالصندوق، ظنًّا منه أنه يحوي ذهبًا أو مالًا، ولكن لم يجد به سوى خطابات وصور وسلسلة قديمة. أعاده إلى البائع، قائلًا:
◅ اعتبره على البيعة.
لمعت عين البائع؛ لأنه أدرك بأن هذا الصندوق مثالي كهدية لزوجته التي تحتاجه لحفظ ذهبها، فدسه بسرعة فائقة في جيب جلبابه ثم صرخ في عماله لينتهوا من عملهم حتى يستطيع متابعة صفقاته اليومية الكثيرة في أماكن مختلفة.
وضع البائع الصندوق على الطاولة أمامه في حانوته، وحوله يتناثر الأثاث القديم والعمال يحملون هذا وينقلون ذاك لحين عودته للمنزل، وهو يتخيل زوجته ومدى فرحتها بهذا الصندوق الصغير. حتى دخل سائح إنجليزي، اعتاد التجول بين حوانيت الأثاث، لعله يجد شيئًا قيّمًا يقتنيه ويعيد بيعه بمبالغ طائلة، ولاسيما لو عثر على أثاث أثري لا يعرف أصحابه قيمته. أخذ يتجول في الحانوت، فلم يجد شيئًا يغريه فهم بالرحيل، وقبل أن يولي ظهره للبائع، وجد الصندوق على الطاولة، فأخذ يقلب فيه وهو جامد الملامح لا يظهر اهتمامًا خاصًا به. مطّ السائح شفتيه وطلب شراء الصندوق، ليضع فيه سجائره كما قال. رفض البائع طلبه، وأخبره بأن الصندوق يخص زوجته. عرض السائح مبلغ خمسمائة جنيه عليه مقابل البيع. صمت البائع قليلًا، لأنه أحس بأن المبلغ كبير، وخاصة أن الأثاث كله كلفه فقط ثلاثة آلاف جنيه، ولم يدفع في الصندوق مليما، ولكنه بفكر البائع الشاطر رفض البيع حتى يزيد السائح المبلغ. ترك السائح الصندوق ومضى، وقبل أن يخرج من الباب سمع صوت البائع يناديه وهو يعلن موافقته، فحمله معه ورحل.
في العاصمة البريطانية لندن، أعلن المنادي عن صندوق أثري من العصر المملوكي في مصر، ويحتوي خطابات من حبيب لحبيبته مكتوبة باللغة العربية، وسلسلة من الفضة منقوش على قلبها حروف بالخط القديم، وثبت أثريتها، وأنها تنتمي لنفس العصر المملوكي، حيث تم افتتاح المزاد عليه بمبلغ مائة ألف جنيه إسترليني، وبيع في نهاية المزاد بمبلغ مليون جنيه إسترليني لعائلة ثرية تعيش في ضواحي لندن.
تمسك زوجة الرجل الثري بالصندوق وتتأمله جيدًا، وهي تضعه بما فيه ضمن قائمة التحف الأثرية ذات القيمة العالية. وقبل أن ترحل إلى غرفتها بالطابق العلوي، تحس بشيء ما يحلق حولها، وكأنها روح ما تستقر بجانب الصندوق وتلتصق به. لم تصبها الدهشة كثيرًا، فهي تختبر هذا الإحساس في كل مرة تشتري فيها قطعة أثرية، ولكن في تلك المرة شعرت بأن الروح رقيقة جداً تهبّ مثل النسيم، حاملة معها رائحة طيبة تنتشر في الأجواء.