نجيب محفوظ ألهمني كتابة "ميكرفون كاتم صوت"

حوار مع محمد طرزي الفائز بجائزتَي كتارا ونجيب محفوظ 2024

حاوره: محمد توفيق

حاز الأديب اللبناني محمد طرزي على جائزتَيِ كتارا ونجيب محفوظ عن روايته "ميكرفون كاتم صوت" في أقل من أربعة أشهر عام 2024. وهاتان الجائزتان المرموقتان تمثلان منارات أدبية وثقافية في العالم العربي. ومن خلال هاتين الجائزتين، أُتيحت للكاتب الفرصة لتسليط الضوء على القضية اللبنانية، بآلامها وآمالها، وإبراز أصوات المهمّشين الذين يستحقون أن يكون لهم مكان في السرد الأدبي. وأوضحت لجنة اختيار الفائزين في الجائزتين:

أن رواية "ميكروفون كاتم صوت" تستحق جائرة نجيب محفوظ لعام 2024؛ لما تميزت به من عناصر استعارية ومجاز عميق، وشخصيات قوية، وأسلوب سردي سهل ممتنع. وإن كانت تتحدث عن لبنان اليوم إلا أنها خرجت من محدودية المكان والزمان المفترض لتكشف واقعًا إنسانيًا عامًا عن أزمة الإنسان المعاصر في مدن تدفن الروح وتقتل الحلم. وعن الجائزة وإبداعات محمد طرزي كان للرافد معه هذا الحوار:

 

 ما أسباب فوز ميكرفون كاتم للصوت بجائزتين متتاليتين في بضعة أشهر؟

إنها لمصادفة روائية أن تفوز "ميكروفون كاتم صوت" بجائزة نجيب محفوظ للأدب؛ لأن ما أثار فكرةَ الرواية في المقام الأول، ودفعني إلى كتابتها اقتباسٌ لأستاذنا قرأته عرضًا في إحدى الصحف "وطن المرء ليس مكان ولادته، لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب". فكان هذا الاقتباس بمثابة إيجاز بليغ لحياة بطل الرواية سلطان، ذاك الشابّ الذي فعل كل شيء كي يخرج حيًّا من المقبرة التي ولد فيها. إنها لمصادفة أيضًا أن يفوز ميكروفونٌ أدبيٌّ بهذه الجائزة العريقة في زمن انتصار صرخة الشعب السوريّ على كواتم الصوت.

الرواية، كما يشير عنوانها، عن الميكروفون الذي يحاصرنا منذ سنوات بعيدة، يزعق بكل ما يناقض تطلّعاتنا لحياة كريمة، يخطب فينا، يروّج للوهم، يسوّق للجهل والخرافة، يكمّ الأصوات، يسطو على أموال الناس وأحلامهم ومستقبلهم، لكننا اليوم، إذ نجد أنفسنا محاصرين بالصمت المدوّي حيال ما يجري من مجازر، نكاد نترحّم على زمن الميكروفونات.

◉ ما تفاصيل الراوية؟

أحداثُ الرواية تدور في صوُر، المدينة التي أضحت فجأة حديث وكالات الأنباء، لما تعرّضت له من عدوان. من زار المدينة تعرّف بسهولة إلى معالمها المذكورة في طيّات السرد، ولكنْ، ليس بعد هذا اليوم؛ إذْ غيّر العدوان ملامحها، وشوّه أجمل ما فيها. عَلّق في سمائها ميكروفونًا خرافي الحجم، صوته مرعبٌ كريه، يلاحق الأطفال في الأزقة، والرضّع في الأسرّة، يسفك دماءهم، من دون حاجة إلى كواتم للصوت، بل رأيناه، يصوّر أفعاله الشنيعة، ويبثها عبر الشاشات، كمن يفتخر بانتهاك القيم الإنسانية التي نحتفي بها اليوم في كنف هذا الصرح العريق.

نكتب كي نتصدّى للميكروفون الذي يسلب الصحافي رأيه، والطفل دميته، والمرأة المشرقية حقّها في جسدها وصوتها. نكتب كي نتمرّد على الميكروفون الأكبر، ذاك الذي يختلق صراعات لا أسس لها بين الشرق والغرب، يخوّف الشعوب، بعضهما من بعض، حتى أصبحت كلّ جماعة تعيش في صندوق أسود مغلق، معتقدة أنه العالم، وأن كل من هو خارجه عدوّ لها. والأهمّ من ذلك، نكتب كي نُسكت الميكروفونات العنصرية والطائفية والطبقية المزروعة في داخلنا، تلك التي ما انفكت توسوس لنا، تقنعنا بأننا مختلفون، أو مصطفون دون الآخرين من البشر. نكتب لأننا نؤمن بقدرة الأدب، بل بقدرة الفنون جميعها، على سحق الميكروفونات، وإيقاظ الجمال الإنسانيّ الدفين في داخل كل واحد منا. إذ وحده الجمال قادر على إنقاذ العالم

◉ كيف كتبت هذه الراوية؟

كتبتُ هذه الرواية وأنا محاصر بالميكروفونات التي تكتم صوتي وتغلّ لساني. كان شعبي مفلسًا، موزّعًا بين المقابر ومراكب الموت. أبواب المستشفيات موصدة أمام المرضى بعدما احتكرت حاشية الزعيم الدواء، أسوة بسائر المواد الأساسية. كتبتُها صامتًا، يبلّل الدمع عينَي، كأنني واحد من الشخصيات البكم التي دفعتُ بها في الرواية. لعلّ بكمي إذن هو ما لامس وجدان أعضاء اللجنة الموقّرة، فقرروا منحي أغلى ما يتطلّع إليه الكاتب "الصوت"، وقد تجسّد هذا الصوت على هيئة ميدالية تحمل اسم كاتبنا الكبير، وهم بذلك إنما يضمّونني إلى لائحة المبدعين الذين منحوا هذه الجائزة لجودة أقلامهم ولنضالهم الصلب ضدّ الكراهية والطغيان.

◉ استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

استوحيتُ الرواية من اقتباس لنجيب محفوظ قرأته في مقال بإحدى الصحف، حيث قال: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا القول يطاردني حتى صادفتُ شاباً عشرينيّاً في أحد المقاهي، يتحدث عبر هاتفه قائلاً: "كل محاولاتي للهروب من المقبرة باءت بالفشل". في اليوم التالي، سمعنا عن انتحاره، من دون أن تتضح أسباب خطوته المأسوية. بعدها وجدت نفسي أربط بين كلمات محفوظ وعبارة الشاب، لتتشكل لدي فكرة الرواية تدريجياً.

◉ ماذا تقول لكتارا ونجيب محفوظ بعد فوزك بهما؟

أتوجه بخالص الشكر والتقدير للقائمين على جائزتَيِ كتارا ونجيب محفوظ لمنحي شرف الفوز بهاتين الجائزتين المرموقتين، الّلتين تمثلان منارات أدبية وثقافية في العالم العربي. من خلال هاتين الجائزتين، أُتيحت لي الفرصة لتسليط الضوء على القضية اللبنانية، بآلامها وآمالها، وإبراز أصوات المهمّشين الذين يستحقون أن يكون لهم مكان في السرد الأدبي. 

اتفقت اللجنة أن رواية "ميكروفون كاتم صوت" تستحق جائرة نجيب محفوظ لعام 2024 لما تميزت به من عناصر استعارية ومجاز عميق، وشخصيات قوية وأسلوب سردي سهل ممتنع. وإن كانت تتحدث عن لبنان اليوم إلا أنها خرجت من محدودية المكان والزمان المفترض لتكشف واقعًا إنسانيًا عامًا عن أزمة الإنسان المعاصر في مدن تدفن الروح وتقتل الحلم.


◉ وضح لنا كيف فعلت ذلك بمنتهى الحرفية؟

سعيت لتحقيق توازن بين السرد البسيط والمجاز العميق. كذلك ركزت على مزاوجة الخاص بالعام والمأساة الفردية بالجماعية، مما منح الرواية بعداً إنسانياً شاملاً يتجاوز حدود لبنان ليلامس أزمة الإنسان المعاصر في كل المدن التي تقتل الأحلام، بغض النظر عن خلفية القارئ أو تجربته.
 

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

◉ ما رأيك في هذا التعليق؟

أوافق الوصف؛ الرواية تسعى لتقديم رؤية اجتماعية عميقة تلقي الضوء على التحولات في لبنان من منظور إنساني شامل.

◉ فازت الرواية بجائزة "كتارا" قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

أعتزّ بكوني ضمن قائمة الفائزين بجائزة "كتارا"، وأتشرف أيضاً بفوز روايتي بجائزة "نجيب محفوظ" للأدب. قد يكون الجمع بين الجائزتين حدثاً غير مألوف، ما أثار تساؤلات ونقاشات، إلا أن ذلك لا ينتقص من استحقاق الرواية، طالما أن القرار كان بيد لجنتي تحكيم مستقلتين، وفي إطار الالتزام بشروط الترشح. من المهم الإشارة إلى أن جائزة "نجيب محفوظ" لا تضع شرطاً يمنع العمل الفائز بجائزة أخرى من الفوز بها. بالنسبة إلي، القيمة الحقيقية تكمن في أن كلا الجائزتين ساعدتا على تعزيز حضور الرواية، وجعل صداها يصل إلى شريحة واسعة من القراء.

◉ حدثنا عن روايتك جزر القرنفل؟

تناولت الرواية تاريخ زنجبار في فترة حاسمة من تاريخ شرق أفريقيا، فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان. كانت زنجبار آنذاك نقطة استراتيجية، ليس فقط لكونها مركزاً تجاريًّا إقليميًّا، بل أيضاً لكونها حلقة وصل بين العرب والأفارقة والهنود.

الرواية توثِّق التفاعل الثقافي والسياسي بين العرب وسكان شرق أفريقيا، مسلّطة الضوء على مرحلة شهدت صراعاً على السلطة بين القوى الاستعمارية الكبرى، خاصة بريطانيا، التي كانت تسعى لفرض سيطرتها على القارة الإفريقية. تأتي هذه الأحداث في ظل تشريع قوانين لتحرير العبيد، وهو ما شكَّل نقطة تحوّل اقتصادي واجتماعي كبرى أثرت على زنجبار وعلاقاتها الإقليمية.

إلى جانب هذا البُعد السياسي، تتناول الرواية الصراعات العائلية داخل أسرة السلطان سعيد، وتركز بشكل خاص على الصراع بين الإخوة حول من يتولى السلطة بعد وفاته. الحكاية ليست مجرد تأريخ للأحداث، بل هي استكشاف لديناميات السلطة، والخيانة، والطموح.

◉ هل تعد نفسك مؤرخاً أم روائياً؟

أرى نفسي روائياً طبعًا، أستخدم التاريخ كخلفية للعمل الأدبي، كما أنني لا ألتزم بالدقة التاريخية الصارمة. فالتاريخ بالنسبة إلي ليس سوى نقطة انطلاق، أنسج من خلالها أحداث الرواية، وأملأ فراغاته بأسلوب أدبي يُبرز المشاعر الإنسانية، ويعيد الحياة إلى شخصيات وأحداث قد تكون غائبة عن السرد التاريخي التقليدي.

◉ ما سر إقامتك حالياً في جنوب السودان؟

لدي عمل هناك، وأجد في التنوع الثقافي والتاريخي لهذه المنطقة مصدر إلهام.

◉ في رأيك ما أهم العقبات في طريق مبدعي شباب العرب؟ كيف نجذب الشباب للقراءة؟

العقبات تشمل ضعف الدعم الثقافي وغياب الفرص. لجذب الشباب للقراءة، نحتاج إلى نصوص معاصرة وقريبة من اهتماماتهم.

◉ هل يمكن أن تفوز قصتك بجائزة ثالثة أيضاً؟

عسى أن تجد ترجمتها إلى اللغات المختلفة طريقًا إلى التقدير أيضًا.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها