استعادة الأندلس في الإبداعات العربية المعاصرة

نوستالجيا الفردوس المفقود ورحلة البحث عن الذات الضائعة

د. آمنة بن منصور

إن الأندلسي في أول عهده وبعد أن تقلب في أرض الأندلس، وعفر وجهه بترابها، وملأ رئتيه بهوائها، وكحل عينيه بجمالها، لم يدر في خلده، ولا خطر على باله، أن هذه الجنة التي آثر الله بها المسلمين ستصبح يوماً ما مجرد ذكرى، ومحض اسم يدور على ألسنة المؤرخين والشعراء، وأن هذه الأرض التي شغلت الدنيا بمآثرها وحضارتها وعمرانها ستستحيل إلى متحف ومنظر بانورامي جميل تهوي إليه أفئدة السياح من أصقاع العالم، وأن هذه الأرض التي اجتمعت عليها في سابقة تاريخية غير معهودة العقائد الثلاث، وتآخت فيما بينها تحت راية التوحيد ردحاً من الزمن، ستؤول إلى الزوال والاندثار، ولكن الدهر خيب ظنه حتى إذا شهد انفراط العقد وسقوط حباته، بكاه بعيون دامية وفؤاد مفجوع، لائماً نفسه على تفريطه وتخاذله في الذود عن حياض هذا الفردوس الموعود.


لم يكن سقوط الأندلس وضياعها من يد المسلمين مجرد طفرة سرعان ما تطويها يد الدهر، بل كانت إيذاناً بما سيحل ببلاد الإسلام فيما يأتي من أزمان، فإذا تكررت الأسباب حتماً ستتكرر النتائج، وقد صدقت الأيام ذلك، فمن عجائب القدر وصنائع الدهر أن سيمفونية الأندلس بنوتاتها الحزينة، تكررت غير مرة؛ وكأن لعنة فراق الفردوس المفقود أبت إلا أن تظل وصمة عار على جبين كل من فرط فيه، فما زلنا إلى يومنا هذا نشهد سقوط دول واستعمار أخرى، وانتكاس ثالثة، في مشهد درامي سديمي حزين، ولعل الاستفاقة الوحيدة التي يُشهد لها في هذا الباب ما سجلته الساحة الأدبية من إبداع شعري وسردي تنبه إلى أن سقوط الأندلس يومها لعنة تلاحق الأجيال جيلا بعد جيل، وأن الهزائم والخنوع والخضوع ما هو إلا صفحة من صفحات التاريخ التي تعيد نفسها في مشهد مخز، فراح الأدباء والحال كذلك يستدعون الداخل والناصر والمنصور لفتح جديد، ملتمسين الجمال والعز في حواضر قرطبة وغرناطة وإشبيلة، ليقفوا أخيراً على أعتاب الجزيرة الخضراء ينشدون أغنية الأندلس الأخيرة على لسان الزغبي الصغير.

إن مصطلح الأندلس اليوم لم يعد مجرد درس يلقى على مسامع التلاميذ في المدارس، شأنه في ذلك شأن أي دولة وحضارة قامت واندثرت، بل أصبح عنواناً للهزيمة والضياع والخذلان على الأقل في الذاكرة والمخيلة الأدبية العربية، بيد أن ثلة من الأدباء أبوا إلا أن يتجاوزوا مسحة الحزن التي طبعت المخيلة الأندلسية، فانتقلوا من مرحلة البكاء والشوق والتحسر على الماضي التعيس، إلى محاولة استرجاع الأمجاد والبحث عن الذات الضائعة وبعثها من جديد، فيما يسمى باسترجاع الأندلس واستعادتها، وبين الغياب والتجلي نطرح السؤال التالي: إلى أي مدى وفق المبدع العربي في استرجاع واستدعاء التاريخ الأندلسي ثم إسقاطه على الحاضر؟ وهل كان ناقلاً أميناً ومستلهماً ناجحاً أم مجرد واقف ومراقب على الأعتاب؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في ضوء بعض النماذج الأدبية المعاصرة، مستعينين في ذلك بالمنهج التاريخ والوصفي وبعض إجراءات التحليل، ونحسب أن الزاد هنا ثري بنماذجه السردية شحيح بدراساته النقدية التي نكاد نجملها في كتاب الأندلس في الرواية العربية المعاصرة، دراسة تحليلية لأحمد محمد الزلط وهي رسالة دكتوراه، ورسالة أخرى شبيهة عنوانها: الأندلس في الرواية العربية (2000 – 2017م) لعبود توفيق عبود، وكتاب صورة الأندلس فى الرواية العربية والإسبانية في النصف الثاني من القرن العشرين: دراسة أدبية مقارنة لمراد حسن عبد العال عباس.
إضافة إلى بعض المقالات المبثوثة في المجلات، وبضع ملتقيات والأيام الدراسية، على قلتها، تحاول، مشكورة، نفض الغبار عن هذا الموضوع المهم والقيم، في اعتقادنا؛ لأنه يلامس مجالات أخرى ذات صلة بالسياسة وعلاقات الدول، إنه باختصار التاريخ الذي جعل لاستلهام العبر.
 

:: الأندلس في عيون أهلها ::

 كان قلب الأندلسي، بداية، معلقاً بالمشرق– الأرض الأم– ولطالما عبر عن شوقه إليها، وسرعان ما تبدلت الأمور وصارت الأندلس أحب البلاد إليه لدرجة أصبح الخروج منها ضرباً من العذاب والشقاء. وتعلق الأندلسي بأرضه تعلق نادر قل أن نجد مثيله في المشرق، ولعل السبب راجع إلى شعوره المستمر بأنه سيفقد هذه الأرض يوماً، ولأجـل ذلك فهو يتفانى في حبها.

وليس غريباً، والحال كذلك، أن يبالغ الأدباء في وصفها وتفضيلها على بقاع الأرض جميعاً، يقول المقري: "محاسن الأندلس لا تستوفى بعبارة، ومجاري فضلها لا يشق غباره، وأنى تجـارى وهي الحائزة قصب السبق في أقطار الغرب والشرق"1، ولا تعجب إذا رأيت من يختصـر مدن العالم كلها في الأندلس فهي: "شاميـة في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظـم جبايتها، صينية في جواهر معادنها... فيها آثـار عظيمة لليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة"2.

أما الشعراء فقد أفاضوا في تفضيل الأندلس على سائر البقـاع، فهذا ابن خفاجة لا يرى الجنة إلا فيها، إذ يقول:
يا أهلَ أندلسٍ للّهِ دَرّكُم *** ماءٌ وظلٌّ وأنهارٌ وأشجـار
ما جَنّة الخلْد إلا في دِيارِكُم *** وهَذه ِكُنتُ لوْ خُيّرتُ أخْتار3

وانظر إلى قول ابن سفر المريي:
فيها خَلعْتُ عذارِي ما بها عِوض *** فهي الرّياضُ وكلّ الأرضِ صَحْراء4

لقد فتح الأندلسي عينيه فوجد نفسه يتقلب في الجنة، ولهذا أفاض في وصفها، وبالغ في حبها وتفضيلها على بقاع العالم قاطبة، فهي في نظره تختصر الجمال والكمال، حتى عندما انفرط عقد الأندلس وتناثرت حباته ذات اليمين وذات الشمال، ظل متمسكاً بمبدأ أن الأندلس جنة في حضورها وغيابها، في استقلالها وتبعيتها، فعلى الرغم من اشتداد التنافس بين المغاربة والأندلسيين في عصر الموحديـن، "وعلى الرغم من أن الأندلس كانت تابعة للمغرب سياسياً إلا أنها كانت تتفوق عليه ثقافياً، وأدبياً وكان الأندلسيون يعتزون بهذا التفوق ويتباهـون به أمام المغاربة"5. يشهد بذلك رد الشقندي على ابن المعلم، الذي بدا له أن ينتقص من قدر الأندلس وعلمائها ظناً منه أن نجومها أفلت، وبطونها قد عقمت، فجاءه الرد الذي أسكته، والحجة التي أفحمته، إذ كيف يعقل أن يقال "الليل أضوء من النهار؟ ويخاطبه فيقول: "كيف تتكثر بما جعله الله قليلاً، وتتعزز بما حكم الله أن يكون ذليلاً؟ مـا هذه المباهتة التي لا تجوز؟ وكيف تبدى أمام الفتاة العجوز؟ أقن حياءك أيها المغرد بالنحيب... المتحبب إلى الغواني بالمشيب الخضيب"6. فالشقندي يوصد من البداية، أمام خصمه أبواب الاعتراض، فالمقـارنة أساساً لا تجوز لانعدام التكافؤ، ومع ذلك فلا مانع من الرد على جرأتـه في الانتقاص من الأندلسيين، يقـول: "أما قولك الملوك منا، فقد كان الملوك منا أيضاً وما نحن إلا كما قال الشاعر:
فيومٌ عليْنا ويومٌ لنا *** ويومٌ نُسَاء ويومٌ نُسَرّ

وقد نشأ في مدتهم من الفضلاء والشعراء ما اشتهر في الآفـاق، وصار أثبت في صحائف الأيـام من الأطواق في أعناق الحمام"7، ثم يعرض الشقندي فترات الحكم التي مرت على الأندلس وكذلك حكامـها؛ فبعد انتهاء فترة الخلافة تولى الحكم المنصور بن أبي عامر "الذي بلغ في بلاد النصارى غازياً إلى البحر الأخضر، ولم يترك أسيراً في بلادهم من المسلمين، ولم يبرح في جيش الهرقل وعزمة الإسكندر، ولمـا قضى نحبه كتب على قبره:
آثارهُ تُنبِيكَ عَن أوصَافِه *** حَتى كأنكَ بالعَيانِ تـراه
تاللّهِ لا يأتي الزّمانُ بمثله ِ*** أبدًا ولا يَحْمي الثغورَ سِواه

ولما ثار -بعد انتثار هذا النظام- ملوك الطوائف وتفرقوا في البلاد، وكان في تفرقهم اجتماع على النعم لفضلاء العباد، إذ نفّقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم... وسمعت عن الملوك العربية بنو عباد وبنو صمادح وبنو الأفطس، وبنو ذي النون وبنو هود"8. ويثني الشقندي في حديث طويل على هؤلاء الملوك، ثم يسأل ابن المعلـم بمن يفخرون" أبسقوت الحاجب؟ أم بصالح البرغواطي؟ أم بيوسف بن تاشفين الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه ما أجروا لـه ذكرا"9، ويعرّض بابن تاشفين –مفخرة المغاربـة- لأنه لا يفقه الشعـر ولا يحسن اللغة العربية، ضارباً المثل بالأبيات التي أرسلها له المعتمد فلم يفهمها10.
وانتقل بعد الفخر بالملوك إلى الفخر بالعلماء، فقال: "وإنك إن تعرضـت للمفاضلة بالعلماء فأخبرني هل لكم في الفقه مثـل عبد الملك بن حبيب، ومثل أبي الوليد الباجي ومثل أبي بكر بن العربي، ومثل أبي الوليد بن رشد الأكبر؟ وهل لكم في الحفظ مثل أبي محمد بن حزم... وهل لكـم في حفّاظ اللغة كابن سيدة صاحب كتاب المحكم، وهل لكم في علـوم اللحون والفلسفة كابن باجة، وهل لكم في الطب مثل ابن طفيل، ومثل ابن زهر؟"11، ومضى الشقندي يعد علماء الأندلـس الذين تبحروا في مختلف العلوم والفنون، إلى أن وصـل إلى طبقة الشعراء فخصهم بكلام طويل، وفخر كبير، ذلك أنهم استطاعوا أن يعارضوا كبار شعـراء المشرق، وهو ما عجز عنه شعراء عدوة المغرب، بـل وراح يعرّض بكبير شعرائهم أبي العباس الجراوي، الذي به يفاخرون، يقول: "أولى لكم أن تجحدوا فخره، وتنسوا ذكره، فقد كفاكم ما جرى من الفضيحة عليكم في قوله من قصيدة يمدح بها خليفة:
إذا كانَ أملاكُ الزمانِ أراقِما *** فإنكَ فيهُم دائمَ الدّهرِ ثعْبان

فما أقبح ما وقع ثعبان وما أضعف ما جاء دائم الدهر... فسبحان من جعل روحه ونسبه وشعره تتناسب في الثقالة"12.

وانتقل الشقندي بعد هذا إلى المفاخرة بمدن الأندلس، فإشبيلية" غابة بلا أسد ونهرها نيل بلا تمساح، وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم، ومركز العلم ومنار التقى ومحل التعظيم، وأما جيان فإنها لبلاد الأندلس قلعة، وأما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس، ومطمح الأنفس، وأما مالقة فإنها قد جمعت بين منظر البحر والبر بالكروم المتصلة، والبروج التي شابهت السماء"13، ويذكر الشقندي مـدناً أخرى كمرسية وبلنسية وميورقـة... وما تمتاز به كل مدينة، وما اشتهر من علمائها.

ولئن ذهب الأستاذ أحمد أمين إلى القول بأن الشقندي تعصب على طـول الخط للأندلسيين14، ففي اعتقادنا أن الشقندي إنما تكلـم وفق ما تمليه عليه وطنيته وأندلسيته وإخلاصه الكبير لبلاده، ولو لم يفعل ذلك لاتهم أيضاً بالتقصير والتخاذل.

وتجدر الإشارة إلى أن ابن المعلم لم يكن أول من انتقص من الأندلس وأهلها، ولا كان الشقندي أول من ينافح عنها، فقد سبقه إلى ذلك ابن الربيب ووجد من ابن حزم الرد المفحم والحجة البينة في رسالة مطولة.

لم يتوقف الأندلسي عن حب بلاده وذكرها حتى بعد نفيه وإخراجه قسراً منها، فمن الأدباء الذين أنجبتهم الأندلس فبرّوا بها لسان الدين بن الخطيـب الذي كتب مقامة فضل فيها مالقة على سلا "تعصباً لها، وتحزباً لوطنـه، فهو لا يرى في الدنيا من يفضل الأندلس أو يساويـها... [وقد] استحضر شخصية مفترضة توجه إليه سؤالا يكون جسراً للوصول إلى غرضـه، ويجعل من نفسه بطل المقامة"15.

ويبدأ ابن الخطيب بالثناء على مالقة، وبأنه لا مجال للمقارنة بينها وبين سلا فهي: "أرفع قدراً وأشهر ذكراً... وأبعـد التماساً من أن تفاخر أو تطاول"16، ويبرر ابن الخطيب تحيزه لمالقة على أساس شروط لا تتوفر عليها سلا، وهي: "الأمور التي تتفاضل بها البلدان... وتعرفها حتى الولائد والولدان: المنعة، والصنعة، والبقعة، والشنعة، والمساكن والحضارة والعمارة"17، ويمضي ابن الخطيب في حديث مطول يسرد فيه جمال مالقة، وما حباها الله به من عمران وخيرات لا توجد في سلا التي حط من قيمتها على الرغم من أنها هي التي احتضنته بعد طرده من الأندلس، وكان يجدر به أن يجامل هذه البلاد وأهلها إلا أنه أبى إلا أن يكون أندلسي الروح واللسان والوجدان، ثم أتت يد الدهر على بلاد الأندلس، وطرد المسلمون منها ذات يناير بارد، واستحالت هذه الجنة إلى أرض غريبة عن المسلمين، فالمساجد أمست كنائس، والقصور أضحت متاحف، والوادي الكبير صار وحيداً، وجنات العريف باتت تئن حنيناً، على الذين ألفوها وألفتهم زمناً طويلاً، حتى العربية التي أنشد بها ابن زيدون وابن خفاجة والمعتمد أشعارهم، وحبر بها لسان الدين بن الخطيب وابن بسام وابن القوطية كتبهم ورسائلهم، اختفت وباتت نسياً منسياً.

إن الفاجعة التي ألمت بالأندلس خلدها من أدركها من الشعراء بقصائد كثيرة، لا يتسع المقام لذكرها جميعاً، بكوا فيها الديار البائدة، والأرض المسلوبة، والنفوس المفجوعة، وبعد قرون ولت، خلف من بعدهم خلف أعادوا الذكرى واستلهموا العبرة، واستدعوا التاريخ لمحاسبته، وهو ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في الصفحات التالية.
 

:: حضور الأندلس في الإبداع العربي ::

كان العربي قديماً يقف على الأطلال فيبكي الحجر والوبر والوتد، ويتذكر الأهل والأحبة الذين سكنوا المكان، وعمروا الديار، وتلك الوقفة بما تحمله من شحنات حزينة ظاهراً إلا أنها تمد العربي بشيء من التسلية، فالذكريات السعيدة تولد شعوراً بالأمل وإن كان مؤقتاً، وهكذا فعل العرب المحدثون لما أصابتهم النكسات وألمت بهم الملمات، إذ إنهم نظروا يميناً وشمالاً فلم يجدوا غير الماضي التليد، بأبطاله ورجاله، فراحوا يستدعونه من جديد، وها هو نزار قباني يرجو أوبة قريبة لطارق بن زياد، وفتحاً قريباً كذلك الفتح العظيم، يقول:
كتبت لي يا غاليه
كتبت تسألين عن إسبانيه
عن طارق يفتح باسم الله دنياً ثانيه
...
سألت عن أميرها معاويه
عن السرايا الزاهيه
...
لم يبق في إسبانيه
منا ومن عصورنا الثمانيه
غير الذي يبقى من الخمر
بجوف الآنيه
...
مضت قرون خمسة
ولم تزل أحقادنا الصغيره
كما هيه
حوارنا اليومي بالخناجر
أفكارنا أشبه بالأظافر
...
مضت قرون خمسة يا غاليه
كأننا نخرج هذا اليوم من إسبانيه18

وفي إسقاط جميل، وتشبيه أجمل، يحكي نزار عن القرون التي قضاها المسلمون أسياداً في الأندلس وفي جزء كبير من أوروبا، وسرعان ما زال كل شيء فكأن تلك النشوة الزائلة أشبه ما تكون عندما تفرغ زجاجة الخمر، فلا يجد السكران بما ينتشي، وكعادة نزار يلمح إلى سبب نكبة الأمة وهي تلك الأحقاد والصراعات الداخلية التي ضربت بجذورها عميقاً في نفوسنا، فمنعتنا من التقدم قيد أنملة.

كما استحضر محمود درويش في ديوان أحد عشر كوكباً الأندلس بتاريخها ورجالها ومدنها وتفاصيلها، فمزج بين الزمن الحاضر والغابر، ليرسم لوحة فسيفسائية حزينة، فكأنك ترى الأندلس لما سقطت وأسلمت مفاتيحها رأي العين، فالحاضر اليوم ليس إلا صورة مستنسخة عن الأمس، يقول:
وأنا واحد من ملوك النهاية... أقفز عن
فرسي في الشتاء الأخير، أنا زفرة العربي الأخيرة
مذ قبلت معاهدة الصلح لم يبق لي حاضر
كي أمر غدا قرب أمسي، سترفع قشتالة
تاجها فوق مئذنة الله، أسمع خشخشة للمفاتيح في
باب تاريخنا الذهبي، وداعا لتاريخنا، هل أنا
من سيغلق باب السماء الأخير، أنا زفرة العربي الأخيرة

لا يخلو كلام الشاعر من تشاؤم، فمنذ سلم الصغير مفتاح غرناطة لقشتالة، هزمنا فلم نعد نقوى على القيام بعدها أبداً؛ ولأن غرناطة أو الرمانة مأوى الأفئدة، وقبلة الهائمين بأرض الأندلس، جعلها درويش تيمة في كل قصائده، فهو يكررها بلا ملل، يقول:
لم تغير حدائق غرناطتي، ذات يوم أمر بأقطارها
وأحك بليمونة رغبتي، عانقيني لأولد ثانية
من سيوف دمشقية في الدكاكين، لم يبق مني
غير مخطوطة لابن رشد، وطوق الحمامة، والترجمات.

بصيص من الأمل يلوح في أفق الشاعر، فيتخيل يوم يرجع لغرناطة فاتحاً مثلما فتحتها السيوف الدمشقية، إذ لم تعد الأندلس التي يقرأ عنها في المخطوطات والكتب تروي رغبته الجامحة في العودة إليها والتمرغ في ترابها.

لا شك أن الأندلس كانت حاضرة بقوة في الشعر العربي المعاصر، لا سيما ذلك الذي واكب وعاصر النكسات التي مرت بالأمة العربية، والهزائم المتكررة، ووقوع جلها في قبضة المستعمر، فكأن ما حصل في الأندلس يعيد نفسه ولكن الناس لا يتعظون.
وكذلك سجلت الأندلس حضوراً معتبراً في الروايات العربية، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنها أصبحت هاجساً لدى الروائيين الذين أبوا إلا تطعيم رواياتهم بأحداثها وتاريخها، فهي في نظرهم رمز للفتح العظيم والقوة التي جعلت ملوك أوروبا يصابون بالذعر لمجرد ذكر اسم من أسماء ملوكها الأقوياء، المنصور بن أبي عامر على سبيل المثال الذي ركع ملوك قشتالة وليون وجليقية.
ولكنها أيضاً رمز للنكسة والنكبة والهزيمة المرة التي كانت وما زالت غصة في الحلق، وجمرة تكوي الفؤاد كلما تذكر يوم الانهزام وتسليم المفتاح الذي لم يحافظ عليه أهلها كما ينبغي.

ويرى النقاد أن جرجي زيدان كان من الأوائل الذين سيطرت عليهم فكرة الانبعاث التاريخي، فراح يستدعي في رواياته الأندلس في زمن كانت الدول العربية تعاني التشتت والضياع والانهزام، كصقر قريش وفتح الأندلس وعبد الرحمن الناصر.
وفي السياق نفسه يمضي عبد الجبار عدوان في روايته "راوي قرطبة" مسترجعاً أحداثاً وقعت طيلة نصف قرن من الزمن بطلها سليمان الذي أدرك موت الناصر طفلاً في السادسة من عمره، وتتوالى الأحداث بمبايعة هشام المؤيد وهو ابن الحادية عشر، ثم تولي الحاجب المنصور زمام الملك، ولم يكتف الروائي بذكر السياسة والحكم ونزاعاته، ولكنه أسهب أيضاً في الحديث عن الحياة الاجتماعية وعادات الأندلسيين في ذلك العصر19.

وإذا كانت الروايات السابقة اختار أصحابها تسليط الضوء على الفترة الأكثر إشراقاً في تاريخ الأندلس، كنوع من الجرعة التي تمد القارئ بالحماس، وتشعره بالفخر، فإن الروايات التالية وهي الأكثر في نظري تحدد طريقها من البداية، الانهزام والضياع، فالروائي العراقي سلام عبود في روايته "يمامة في الألفة والآلاف والندامة" يختار فترة بداية الانهيار والتواجد العربي في الأندلس، وتحديداً بعد موت المنصور بن أبي عامر، وتولي الحكم من بعده بعض بنيه الذين كانوا من الضعف والهوان ما عجل بانتهاء الحكم الأموي، ومن ثم بداية النهاية الوشيكة للمسلمين في الأندلس.

:: قيمة الأندلس ورمزيتها في الرواية الجزائرية المعاصرة ::

تعد التجربة الروائية الجزائرية حديثة بالمقارنة مع جيرانها المغاربة، وأشقائها المشارقة، ولكنها مع ذلك استطاعت تجاوز المسافة التي تفصلها عن البقية، ونعني بها المسافة الزمنية، إذ إنها وفي ظرف وجيز استطاعت تسجيل حضورها، وترك بصمتها في الساحة الأدبية، من خلال روائيين كبار لا تذكر الرواية إلا وتقرن بأسمائهم كواسيني الأعرج، وأحلام مستغانمي والطاهر وطار وغيرهم.
وهؤلاء الروائيون كان لهم تجربة في الكتابة التاريخية، أو استدعاء التاريخ وتمثله في رواياتهم، وليس من شك في أن تمثل التاريخ في الرواية المعاصرة يعد أداة من أدوات التجريب الذي "يبتكر طرائق وأساليب جديدة في أنماط التعبير الفني المختلفة، فهو جوهر الإبداع وحقيقته عندما يتجاوز المألوف، ويغامر في قلب المستقبل"20. ويعد الواسيني الأعرج من أبرز الكتاب الذين أبدعوا في استدعاء التاريخ، تاريخ الجزائر والأندلس والأمة العربية، جاعلاً منه تيمة يطعم بها رواياته.

ونذكر على سبيل المثال رواية البيت الأندلسي الذي استحضر فيها معاناة الموريسكيين واليهود مع الترحيل القسري غداة سقوط الأندلس، من خلال غاليلو الروخو الذي بنى البيت الأندلسي في القصبة على طراز ما كان عليه في بلاده الأندلس قبل أن يطرد منها ذات شتاء بارد، موصياً أبناءه بالحفاظ عليه مهما كلف الثمن، "حافظوا على هذا البيت فهو من لحمي ودمي، ابقوا فيه ولا تغادروه، حتى ولو أصبحتم فيه خدماً أو عبيداً"21، وكأن البطل يصر هذه المرة على البقاء وعدم تقبل الطرد والهزيمة، إلا أن البيت يمر بمحن كثيرة منذ بنائه حتى ساعات هدمه ما بعد الاستقلال، ليصير ركاماً، ويدخل التاريخ كذكرى عابرة، وكأن قصة الأندلس لعنة تأبى إلا أن تتكرر في كل شيء يتصل بها من قريب أو بعيد، وقد صور واسيني الأعرج ذلك المشهد المهيب في قوله: "كانت الآلة تعري البيت الأندلسي، كمن يعري جسد امرأة لاغتصابها"22، ثم يضيف متحسراً: "مات البيت الأندلس واندفنت بعض أصدائه"23، وعلى سبيل السخرية يقترح صاحب المشروع الذي سيبني على أنقاض البيت الأندلسي برجاً تجارياً فخماً أن يكون اسمه برج الأندلس"24بدل البرج الأعظم تطييباً لخاطر أصحابه، "اقترحنا برج الأندلس... أنت تعرف يا سي مراد أن الأسماء وحدها تبقى والحجارة تموت"، فما عساها تنفع الأسماء إذا ذهب الأصل واندثر؟

وبطريقة تراجيدية ينهي الأعرج روايته مثلما استهلها ببيت أبي البقاء الرندي:
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ
وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ

وفي سياق مماثل ينسج أمين زاوي روايته الساق فوق الساق من منطلق أندلسي خالص، وهذه المرة لم يكن بيتاً بل كانت قرية بأكملها، قرية المورو التي بنيت على الطريقة الأندلسية، "لقد شيد جدنا الأول المورو بن علي القصر الذي أقيمت على أساسه القرية لاحقاً، والتي سميت باسمه قصر المورو، على شكل قصر أندلسي صغير"25. وليست الأماكن وحدها التي تحتفي بعبق الأندلس وتاريخها، بل حتى الأسماء وقد اختارها الزاوي بعناية كالجد حمديس والأعمام عبد البر وخلدون، كما لا تخلو الرواية من إشارات تاريخية كذكر واقعة طرد المسلمين على يد إيزابيلا وزوجها فرديناند، لينتشروا ويتشتتوا في بلدان المتوسط، ومن بينها الجزائر مثلما فعل جد البطل أو السارد في رواية الزاوي26.

فالأندلسيون حيثما نزلوا وحلوا عمروا وبنوا، وصحيح أن أغلبهم جرد من متاعه وأمواله وطرد صفر اليدين لا يحمل إلا قلبه الموجوع بين ضلوعه، لكنه كان يحمل أيضا ًحباً نادراً لوطنه ترجمه فيما تركه من آثار وزراعة وبناء في البلدان التي حل بها؛ ولأن لعنة الطرد تلاحق الأندلسي حيثما نزل، ها هو الاستعمار الفرنسي يحاصر قرية المورو ويجبر أهلها على الهرب إلى الحدود تاركين ديارهم ومتاعهم، مكرهين على الرحيل تماماً مثلما رحل أجدادهم من الأندلس، فباتوا لا يملكون من متاع الدنيا إلا قلوبهم وذكرياتهم.

ولكن الزاوي طعم روايته ببصيص أمل إذ عاد أهل قرية المورو إليها بعد غياب خمسة أعوام، ولكنهم وجدوها خواء، موحشة، فقرروا إعادة بنائها وتعميرها وتنظيفها27، وهكذا تمضي حال الأندلسي في جل الروايات بين كر وفر، بين استقرار ورحيل، بين اعتزاز بالماضي وسخط على الحاضر الذي أحاله غريباً بلا أرض، بلا تاريخ، بلا هوية، سوى من ذكريات يسلي بها نفسه حتى يقضي.

ختاماً؛ فإن الأندلس تكاد تكون التيمة الوحيدة التي علق عليها المبدع العربي هزائمه لاسيما وقد عاصر قرناً من الضياع والهوان وتخاذل العرب وخنوعهم وخضوعهم للغرب، ناسين ماضيهم المزهر التليد الذي كانوا فيه أسياداً يسوسون الدنيا، فالأديب العربي يقف اليوم على أعتاب عالم غريب عنه، يسام فيه أنواع الهوان والخذلان، ولهذا فهو يستحضر من تاريخ الأندلس الجزء الأخير، وتحديداً الجانب المظلم لأنه يماثل واقعه ويحاكيه بطريقة غريبة، فما زالوا يطردون، وما زالوا يعذبون ويسجنون ويهانون، ماتت إيزابيلا لكنها تركت بعدها من يجلد ظهورهم العارية التي تأبى النهوض ونفض غبار الذل عنها.


الهوامش: 1. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: أحمد بن محمد المقري، شـرح وضبط : مريم قاسم الطويل، يوسف علي الطويل - دار الكتب العلمية، ط1، لبنان، 1995: 1 : 127.2. المصدر نفسه: 1 : 129.3. ديوان ابن خفاجة – تح : سيد غازي، منشأة المعارف، ط2، الإسكندريـة، دت: 364.4. نفح الطيب: 1 : 202.5. الشعر الأندلسي في عصر الموحدين : فوزي عيسى، دار الوفاء، ط1، الإسكندرية، 2007: 70.6. نفح الطيب: 4: 164-165.7. نفسه: 4 : 165.8. نفسه: 4 : 166.9. نفح الطيب: 4 : 167.┃ 10. نفسه: ينظر: 4 : 168.11. المصدر نفسه: 4 : 168-169.12. نفح الطيب: 4 : 185.13. نفسه:4 : 187 وما بعدها.14. ينظر: ظهر الإسلام: أحمد أمين – دار الكتب العلمية، ط2، لبنان، 2007: 3: 24.15. النثر الفني عند لسان الدين بن الخطيب: عبد الحليم الهروط، جامعـة الحسن بن طلال، ط1، دار جرير للشروق والتوزيع، 2006: 94-95.16. مشاهدات لسان الدين بن الخطيب: 57.┃ 17. نفسه: 57.18. نزار قباني الرسم بالكلمات منشورات نزار قباني 1966:51-52.19. ينظر عبد الجبار عدوان: راوي قرطبة، دار الفارابي، بيروت، 2006، 12 وما بعدها.20. صلاح فضل :لذة التجريب الروائي،أطلس للنشر والتوزيع الإعلامي،القاهرة،ط1،2005 :03.21. واسيني الأعرج، البيت الأندلسي، منشورات الجمل، ط1، بيروت/بغداد، 2010 : 42.22. م ن:441.┃ 23. م ن : 439.┃ 24. م ن: 431.25. أمين زاوي: الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى، لبنان،2016 :13.26. ينظر: م ن:14.27. ينظر: م ن:32.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها