تتميز الشعوب بالفنون التراثية التي لها رونق خاص، ومن هذه الفنون فن التطريز الذي أعلن اليونسكو أنه تراث ثقافي غير مادي فلسطيني، والذي يعود أصله إلى أيدي الفلسطينيات منذ القدم. يعتبر فن التطريز الفلسطيني أحد الفنون الشعبية التي مارسها الإنسان الفلسطيني في المراحل المختلفة، وتوارثته الأجيال ولا زالت مضيفة ومجددة ومحسنة، فالتطريز الذي شكل جزءًا هامًا من حياة المرأة الفلسطينية، حيثُ تستعمله لتزيين الأقمشة والثياب وغيرها.

ويرجع تاريخ ظهور الزّي التّراثيّ الشّعبيّ الفلسطينيّ المتكوّن من التّطريز المزخرف والخيوط الملوّنة إلى آلاف السّنين، حيث يُرَجّح أنها ظهرت قبل 280 ألف عامٍ قبل الميلاد.
وكان التطريز الفلسطيني حتى عام 1948 يُستخدم لتزيين ملابس النساء القرويات والبدويات بشكل أساسي، بما في ذلك الثوب والعباءة وغطاء الرأس والسروال، وذلك بأنماط متباينة وفقاً للمناطق الجغرافية. وكان التطريز يزيّن منطقة الصدر والأكتاف والجوانب والأكمام في الثوب، إضافة إلى العروق التي تزيّن مقدمة التنورة وخلفيتها وجوانبها وحاشيتها.
وأما أدوات التطريز وكل ما يلزمه هو إبرة وخيط وقماش، فتقوم المرأة الفلسطينية بالتطريز بأول غرزة أو قطبة كما تسمى، وتعتبر الغرزة المصلَّبة الأوسع استخداماً والأكثر ارتباطاً بفلسطين، وهي تعرف بالقطبة الفلّاحية التي أصبحت الأوسع انتشاراً.
ومرّت غُرز التطريز وأنماطه ومواضيعه وألوانه وتنسيقاته بتغيّرات عدّة عبر الزمان والمكان، حيث أثّرت التنويعات الإقليمية وتغيّر الموضة في كل حقبة على شكل الفساتين وطرازها وأشكال التطريز عليها.
ويتم التطريز الفلسطيني باستخدام خيوط الحرير والذهب والفضة على أقمشة محلية منسوجة يدوياً، تتخلّلها فتحات، مصنّعة من القطن والكتّان والحرير المستورَد من مصر وسوريا وإنكلترا.

وقد خضع التطريز برسوماته وأنواعه لتغيرات أساسية مع مرور الزمن؛ إذ نجد في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين أن الأنماط والرسومات التطريزية كانت هندسية الشكل في المقام الأول؛ أما في الثلاثينيات من القرن الماضي، فقد بدأت تظهر مؤثرات جديدة غيرت في خصوصية التطريز التقليدي، كخيوط التطريز المصنعة في أوروبا، والتي صاحبتها الكُتيِّبات الخاصة بالتطريز الغربي، ووجدت كلها طريقها إلى الأسواق الفلسطينية، فتسربت الرسومات الغربية مثل الأزهار والطيور والحيوانات إلى أثواب النساء التقليدية.
ونجد أكثر أشكال التطريز دقّة وتعقيداً في وسط فلسطين، وخصوصاً في بيت لحم والخليل ورام الله، وغالباً ما كانت الأثواب، وأغطية الرأس، والقبعات، والسترات في هذه المناطق مغطاة بالتطريز الجميل الغني بمختلف أنواع الغرز، مع الاعتماد على الغرزة المصلَّبة بشكل رئيس. وكانت بيت لحم تشتهر بقطبة التحريري، التي غالباً ما كانت تُستخدم فيها خيوط الذهب أو الفضة لتزيين الأثواب والسترات المخملية بزخارف غنية بأشكال نباتية أو بتصاميم على شكل حليّ.
كما تظهر الاختلافات ما بين المناطق الفلسطينية في الأثواب المطرّزة التي تلبسها النساء القرويات والبدويّات في نوع التطريز ومواضيعه، وتنسيق هذه المواضيع وموقعها على الثوب، وألوان خيوط التطريز والأقمشة وطراز الثوب، وقد كانت الاختلافات في الشكل والزخارف بمثابة مؤشّرات بصرية للدلالة على البلدة الأصلية لصاحبة الثوب، أو ثروتها، أو وضعها الاجتماعي.
وقد تغيّرت الأنماط على مدار الزمن، وتدل بعض الأثواب المتبقّية من تلك الحقبة على تقليد مواضيع التطريز ما بين المناطق، نظراً لوجود فرص كثيرة لاختلاط النساء من القرى المختلفة في أيام التسوّق والأعياد، ولا شك أنهنّ كنّ ينتهزن هذه الفرص للتدقيق في نماذج التطريز ونسخ مواضيع وأنماط التطريز غير المألوفة لديهن.

ولا يقتصر التطريز على الملابس، بل عملت المرأة الفلسطينية على تطريز كل شيء أمامها، مثل الوسائد طرزتها بكتابة صباح الخير أو مساء الخير عليها، والمحفظة الشخصية، والكوفية، والسترات، والشالات، والحقائب، ومفارش الأطباق، وأغطية الطاولات، ولوازم منزليّة أخرى، وفي العصر الحديث صار التطريز لأغلفة الجوالات والآيباد، والدروع التذكارية وأغلفة المقتنيات، وصناديق المغلفات وغيرها الكثير.
واليوم يوجد مؤسسات خاصة للتطريز تعطي دورات فيها وتدرب الأجيال على تعلمها، للرجال والنساء على السواء، ومناهج رسمية يتم تدريسها وفق أصول منهجية علمية.
وتتعدد فوائد التطريز فهو من ناحية جمالية يكسب الثوب جمالاً وروعةً، وغيرها من المطرزات، ومن فوائده أنه يصلح عملاً لكل امرأة ورجل، فيستطيع الجميع تعلمه، وللسليم وأصحاب الهمم، فقد خلق التطريز مهنةً ومصدرَ رزق لكل إنسان، فلا يحتاج إلى مصاريف وتكاليف سوى شراء المستلزمات وتعلم التطريز.
ويُصدِّر الفلسطينيون من الأعمال المطرزة سنوياً عشرات الآلاف من المطرزات لمختلف دول العالم، ويوجد متاجر رسمية خاصة بالتطريز الفلسطيني في مختلف الدول العربية والأوروبية، بل وباتت هذه المنتجات، بكافة مستويات جودتها، تُقتنى من قبل الكثير من العرب وغير العرب.

وما تزال الفلسطينيات في كل مكان في العالم يحتفظن بالأثواب التراثية في خزائنهن كجزء من لوازم فلسطينيتهن، وليست هذه الأثواب ذات قيمة عاطفية وتراثية فحسب، بل إنها جديرة بالارتداء في أي مناسبات وهي «موضة لكل مناسبة ووقت».
وفي كل لباس يحمل التطريزَ الفلسطينيَّ، لا تخطئ العين في تحديد فلسطينية هذا الفن المتفرد.