صوت شعريّ شاب مغاير، يشكّل تجربته من تداخل الشعر بالحياة، والذات بالجماعة، والحنين بالمنفى. الشاعر السوداني عمار حسن سعدالدين الفكي محمد، من مواليد 24 أبريل 1995 بمحلية كرري في السودان، والمقيم حاليًا في الإمارات حيث نال الإقامة الذهبية عن فئة المبدعين، يكتب القصيدة كمَن يبحث عن شرفة يطل منها على الحلم أينما حلّ، بعد أن تجاوز جغرافيا الواقع والمسافات.

عمار شاعر وإعلامي وإداري بارز في بيت الشعر بالخرطوم التابع لدائرة الثقافة بالشارقة، وقد أدار منذ 2018 منتدى بيت الشعر ولعب دورًا محوريًا في تنشيط المشهد الثقافي السوداني. له ديوان شعري بعنوان "على شفة الحلم" صادر عن دائرة الثقافة بالشارقة، ويستعد لإصدار ديوان جديد. نُشرت أعماله في مجلات عربية وموسوعات شعرية، وشارك في مهرجانات دولية بارزة كـ "شاعر شباب العرب" ببغداد، و"أيام الخرطوم الشعرية"، وغيرها، ونال عدة جوائز تقديرية في السودان والعراق، والجزائر، والسعودية، واليمن.
في هذا الحوار، نحاول مقاربة تجربة شاعر يؤمن أن القصيدة ليست فقط فنًّا، بل موقفٌ من العالم، ومساحة تأمل تقف بين الحلم والانتماء، وبين اللغة والحنين.
▣ في أي لحظة شعرت أن الشعر لم يعد مجرد كتابة، بل قدَر شخصي؟ وما الذي دفعك للسير في هذا الطريق؟
كنت هائماً أقلب وجهي في زوايا حياة لا تشبهني، أرى الأشياء بحساسية لا تشبه رؤيا أقراني حينها، أحلق بخيالي كطائر ريشه الضوئي يأخذه إلى جهات أخرى من الخلد. هنالك تلقفني الشعر على كفوفه وهمس في أذني قائلاً: أنا قدرك ياعمار منذ أن ارتضيت هذه الرسالة، لذا أصبحت عالمك، تخرج أوجاعك بي ولي، وترقص على بساطي كأنك وحدك من تتقن هذا الرقص.
كان هذا حواري مع الشعر منذ لحظات تفتق رؤاي الأولى على هذه الحياة. فالشعر هو من دفعني للسير في طريقه؛ لأنه أصبح يتلامس مع كل مسام حياتي، ولأنه سمح لي بالغوص عميقاً في عوالم أشتهيها، وألهمني بطريقته تحقيق أحلام تمنيتها.
▣ هل كانت البدايات في حضن مدينة الخرطوم؟ أم أن للريف أو الطفولة في كرري ذاكرة مغايرة تسرّبت إلى القصيدة؟
أنا أوقن تماماً أن الريف ينزّ الشعر في عروق سكانه، وهذا اليقين لا يسلب المدينة حقها، ولكنها تركب الهودج في قافلة يقودها فرس القرية الأصيل.
أنا ترعرعت في اليمن حيث الحقيقة تتجلى في كل شيء، تنضح من وجوه أهلها وهم يشرقون بحكمتهم، ويغربون بشهامتهم. وعروقي تلك التي ارتوت بدماء كوشية أصيلة، تتدفق كعزف منفرد في حفل سماوي صاخب.
هنالك حق للريف أن يكون أستاذي الأول، وللخرطوم بحنينها الخالد أن تكون باعثة الشعر داخلي.
▣ كيف تشكّلت ذائقتك الشعرية الأولى؟ مَن هم الشعراء الذين منحوك مفاتيح الدخول إلى عالم الكتابة؟
في طفولتي اقتنيت ديوان المتنبي أولاً، وبدوره فتح لي الباب كبيراً لأبدأ زيارتي إلى بيوت الشعراء متتلمذاً بمدارسهم، منتشياً بتجاربهم، متمنياً أن تختم تلك القصائد التي عشقتها باسمي، وتنسب لي؛ ولعل هذا مادفعني للغوص أكثر في تجاربهم. كان أبو العلاء يعيرني بصيرته وأمرؤ القيس حصانه، وعنترة حسامه، والسموأل ملكه، والفرزدق لغته. كلهم لهم داخلي بصمة وموسيقى أحفل بها دائماً.
▣ هل تنتمي قصيدتك إلى جغرافيا محددة؟ أم أنك تكتب من "هوية عابرة للحدود"؟
يجب أن يكون الشاعر بسجيته عابراً للحدود، لذا يجب أن أعبر عوالم كثيرة لأمارس مهارتي في السفر، متقلداً ملامح جغرافيتي التي أفخر بها. قصائدي ولو حاولت الهرب لا تستطيع إلا أن تحمل النيل داخلها.
▣ ما معنى "الوطن" عند شاعر يعيش في منفى اختياري؟ كيف يتجسد الوطن في اللغة، في الصورة، في الإيقاع؟
الوطن هو وصف أوسع لما يحمله الشاعر داخله، حتى وإن عشت في آخر بقعة في الدنيا، سيخرج السودان من عيوني وقصائدي وكتاباتي، ليخبر العالم أجمع أنه حيث ما وجدت شاعراً سودانياً، ستجد السودان داخله يتبختر بأبهى حلة.
▣ هل الاغتراب -كشرط حياتي- منحك رؤية أكثر اتساعًا أم عمّق الغربة في داخلك؟
لعل الغربة هي قدر الشاعر ولو عاش بين أهله، لذا فالغربة بمفهومها المادي ماهي إلا وسيلة أخرى لتدفق الحنين داخلك، تجعلك في شوق وتوق لكل شيء عشقته في بلادك، حتى إنك تحن إلى الوجع الذي تذوقت مرارته فيها أحياناً.
▣ عملك في الإعلام الثقافي وبيت الشعر بالخرطوم... كيف أثّر على صوتك الشعري؟ هل تجد تعارضًا بين الوظيفة والكتابة؟
أحياناً تسرقك الوظيفة من الكتابة، ولكن العمل في حقل أساسه الشعر يذكرك، يوبخك أحياناً، أنه لا يجب أن تنسى أنك شاعر وهذا قدرك وثراؤك. الإعلام خاصةً الشعري منه يتيح لك الاطلاع على تجارب كثيرة والإفادة منها، ويبقيك على مسافة قريبة من المشهد الشعري وتطوره.
▣ هل تحتاج القصيدة اليوم إلى منصة إعلامية كي تصل، أم أن الشعر يظلّ معتمدًا على شرعيته الجمالية فقط؟
الشعر هو الإعلام في معناه الأول عند العرب، ولكن هذا لا يعني أنه لا يحتاج إلى منصة، على العكس تماماً هو يحتاج إلى منصات كثيرة تعيد له الشعبوية التي نزعت منه عند انصراف الناس عنه إلى أشياء قد لا ترقى إلى مقامه في الغالب.
▣ كيف تنظر إلى مسؤولية الشاعر في صناعة وعي ثقافي؟ وهل ترى أن الشعر ما زال يمتلك دورًا في التنوير؟
للشاعر دوره الأكبر في التنوير، يجب عليه النزول إلى بساطة البسيطين أحياناً، وأن يرتقي بعقولهم في أحيان أخرى، يجب أن يعي الشاعر أنه حتى لو أصبح الزمان يميل برأسه عنه، إلا أنه في لحظة سيعود لينظر إليه بكبريائه، وقد يقبله بين عينيه.
▣ كيف تنظر إلى راهن القصيدة السودانية؟
المشهد الشعري الآن في السودان يبشر بخير كبير، فهو يكتظ بأسماء شبابية ذات صوت متفرد، منهم من ظهر، ومنهم من سوف يطلق سهامه إلى الفضاء قريباً.
▣ ما موقع قصيدة النثر لديك؟ وهل تراها امتدادًا طبيعيًا لتطور القصيدة أم قطيعة معها؟
قصيدة النثر لها مالها، بحر مختلف له صيادوه البارعون، وإن كنت أميل أكثر إلى عمود الشعر وتفعيلته، ولكن يبقى للنثر مقامه المميز في النفس.
▣ هل اللغة الشعرية عندك أداةٌ للبوح أم وسيلة للتمرد على المألوف؟ وما سرّ هذا التوازن بين رهافة الصورة وقوة المعنى في نصوصك؟
أنا أعتقد أنه ثمة خيط رفيع يربط بين البوح والتمرد على المألوف عند الشاعر، فالشاعر في طبعه متمرد حتى في أموره البسيطة، فكيف الحال إذا أراد البوح عن خباياه التي ستكون خارج المألوف بالطبع. أنا أميل في الغالب إلى الكتابة بلغة أقرب إلى أرواح المتلقين، ولعل التقلب بين تجارب كثيرة يتيح لي اختزال الكثير من المشاهد في مقاطع قصيرة.
▣ ما الفرق بين نص تكتبه من اندفاع عاطفي، وآخر من تأمل فلسفي؟ وهل تختلف درجات الصدق بينهما؟
النصوص التي تكتب باندفاع عاطفي، تكون مشحونة المشاعر تصل إلى قلوب الناس بشكل أسرع، ولكن أحياناً قد يؤثر تدفق العاطفة على قوة الصور الشعرية سلباً. أمّا تلك التي تكتب بتأن فلسفي قد لا تبلغ نفوس الناس بسرعة، لكنها إذا وصلتهم ستخلد في أذهانهم. أمّا فيما يخص الصدق فحتى في النصوص الفلسفية إذا لم تتقمص الحالة بصدق فلن تكتب نصاً عظيماً.
أنا أرى أن النصوص الفلسفية نصوص عاطفية من الطراز الأول، ولكنها تترك لتختمر في كهف العقل حتى تنضج.
▣ شاركت في مهرجانات محلية ودولية، وفزت بجوائز معتبرة... ما أثر هذه المشاركات على وعيك بالشعر والشاعر؟
الشعر إذا وفى لك ستفي له، ومن أجمل أشكال الوفاء أن تبلغ قلوب الناس عبر منصات المهرجانات، أو أن تزف متوجاً بجائزة، هذا اعتراف بشاعريتك وصوتك المتفرد، وهذا أقصى ما يرغب به الشاعر.
لذا فهذه المشاركات والجوائز أثرت روحي الشاعرة، وأضافت لي هماً أكبر، وهو أن أستمر في العطاء والبذل دون توقف.
▣ هل الجوائز في رأيك تُنصف الشاعر، أم أنها جزء من لعبة ثقافية لا علاقة لها بالمنجز الحقيقي؟
أنا أعتقد أنه يجب على الشاعر الحقيقي ألا يركن إلى نتائج المسابقات كثيراً، وأن يعتبرها مجالاً للمساعدة على الكتابة، فلو وفقت للفوز فلك أن تسعد، ولو لم توفق فلك أن تحتفي بنص جديد يضاف إلى سيرتك.
▣ كيف تقيّم مشهد التلقي الشعري عربيًا؟ وهل ترى أن الجمهور تغيّر، أم أن القصيدة تغيّرت؟
التغيير طال الأبواب جميعها، فالقصيدة التي تكتب اليوم، ليست كتلك التي كانت تكتب قبل 10 عقود، وجمهور اليوم ليس كجمهور الأمس. لكل زمن مغاراته وتفاصيله الخاصة، ونحن في فترة عصيبة فيما يخص تلقي الشعر، فالناس انصرفت إلى أشياء أخرى، لكن يقع على عاتقنا أن نسعى لإعادة توجيه الأذواق وتنقيحها.
▣ ما الأسئلة التي تتهرب منها كشاعر؟ وما الهواجس التي تطاردك كلما أمسكت بالقلم؟
لا أظن أن هنالك أسئلة يتهرب منها الشاعر، إلا أحياناً حينما يسأل عن شرح أبياته، وكما تعلم أن الشاعر لا يحب شرح قصيدته.
ولكن دون ذلك لا أظن أن هنالك ما يدعو للهرب، خاصة وأننا نألف المناطق التي لا يألفها غيرنا.
أما فيما يخص الهواجس التي تطاردني فهي كثيرة، كثيرة جداً... أنا الطفل الذي ما زال يحلم بعالم آمن، لا يخشى على نفسه فيه. أنا الأب الذي يحلم أن ينام مطمئناً وأولاده تحت ظله في نعيم.
أنا وطنٌ مرهقٌ من عواصف الدنيا وزوابعها.
أنا الفقير الذي ثراؤه لقمته، وكنزه سقف بيته.
والكثير الكثير.
▣ في عالم سريع ومتشظٍ، ما جدوى الشعر؟ وهل يمكن للقصيدة أن تصمد أمام هذا الضجيج؟
للشعر في ظل هذه البراكين الهائجة يدٌ طويلة جداً، الشعر هو نبض القلوب الصامتة، وهو أنّات المتعبين الذين يحسبون أن الصراخ فضيحة. الشعر طبيب يدخل يده إلى أقصى جراحك، يمسح عنها نزيفها، ويتركها كوردةٍ تفتحت بعد شتاءٍ عاصف، للشعر يا صديقي سلطةٌ لا يمحوها الزمن ولو حاول تقليل انبعاثها.
▣ ماذا تكتب الآن؟ وهل تفكر في تجربة جديدة خارج حدود الشعر؟
كما تعلم أن الشاعر مسرحي بطبيعته، روائي بسليقته، وعازف بقصيدته. في هذه الفترة أنا بصدد الغوص في مشاريع جديدة، وأبواب مغرية، حاولت اقتحامها بيد ناعمة، طرقت باب المسرح والقصة، ولي أبواب أخرى أود اقتحامها، ولكنني في هذه الفترة بالتحديد أعمل على حقل مسرحي أود أن يضاف إلى الساحة، وأن يوفق لأخذ مكانة مرموقة فيها.