الوعي الاصطناعي وإعادة تشكيل مفهوم الذات

نحو أنطولوجيا جديدة للأنا في عصر التقنية

د. عبد الوهاب الفيعا


مدخل إبستمولوجي

يمثل ظهور الذكاء الاصطناعي تحديًا مزدوجًا: إبستمولوجيًا وأنطولوجيًا للتصورات الفلسفية التقليدية حول مفهوم الذات. منذ اللحظة الديكارتية التي أسست للذات المفكرة كقاعدة أنطولوجية عبر أطروحة "الكوجيتو (Cogito ergo sum)"، شكّلت الذات الواعية الحجر الأساس للميتافيزيقا الغربية. غير أن التطورات المتسارعة في حقل الذكاء الاصطناعي والوعي الاصطناعي تطرح إشكالات فلسفية عميقة حول طبيعة الوعي وماهية الذات وحدود الإنساني في سياق تقني متحول.

يسعى هذا المقال إلى استكشاف التحولات الإبستمولوجية والأنطولوجية التي يفرضها صعود الذكاء الاصطناعي على مفهوم الذات، متسائلاً: هل يمكن أن تمتلك الآلات وعيًا بالمعنى الفينومينولوجي للمصطلح؟ وإلى أي مدى يمكن الحديث عن استمرارية أو انقطاع في مفهوم الذات الإنسانية في ظل التشابك المتزايد بين الإنساني والتقني؟ وما هي الأطر الفلسفية التي يمكنها استيعاب هذا التحول الأنطولوجي الجذري؟

 

من الكوجيتو الديكارتي إلى براديغم الخوارزمية: أفول الذات الميتافيزيقية

مثّل الكوجيتو الديكارتي لحظة تأسيسية في تاريخ الميتافيزيقا الغربية، حيث وضع اليقين في وجود الذات المفكرة كنقطة ارتكاز للمعرفة والوجود. استمر هذا التصور للذات كمركز للوعي والفعل في امتداداته الكانطية، حيث الذات المتعالية هي شرط إمكان التجربة، وفي الأطروحة الهيغلية (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) التي جعلت من الوعي الذاتي محركًا للتاريخ وللجدل الفكري.

غير أن هذا التصور الميتافيزيقي للذات بدأ بالتآكل مع نيتشه (Friedrich Nietzsche) الذي أعلن "موت الإله" ومعه زعزعة الأسس الميتافيزيقية للذات، مرورًا بهايدغر (Martin Heidegger) الذي انتقد "ميتافيزيقا الحضور" ونقد المركزية الإنسانية، وصولاً إلى التفكيكية الدريدية (Jacques Derrida) التي أبرزت طابع الذات المتشظي والمؤجل.

في السياق المعاصر، يتيح لنا التحليل الأركيولوجي الفوكوي (Michel Foucault) أن نرى كيف يتم إنتاج الذات داخل أنظمة السلطة/المعرفة، وكيف تحل اليوم أنظمة المراقبة الخوارزمية محل الأنظمة المؤسساتية التأديبية. وكما يشير بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، فإن الهابيتوس (Habitus) الذي كان يشكل الذات عبر التنشئة الاجتماعية، يخضع اليوم لإعادة تشكيل مستمرة عبر خوارزميات تحليل البيانات والتنبؤ السلوكي.

نشهد انتقالاً من ذات متعالية إلى ذات خاضعة لمنطق البيانات والخوارزميات - ذات محكومة بقواعد معالجة المعلومات، لا بالإرادة الحرة. وهنا يمكن استعارة مفهوم "الحداثة السائلة "Liquid Modernityمن زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) لوصف حالة الذات المعاصرة؛ فهي ذات تعيش في حالة تشكل مستمر، متحررة من الهويات الثابتة، لكنها مقيدة في الوقت ذاته بأنظمة رقمية تسلب منها جوهرها المفترض وترسم حدود إمكاناتها.

المعضلة الفينومينولوجية للوعي الاصطناعي

تشكل طبيعة الوعي أحد أكثر المعضلات استعصاءً على الفهم الفلسفي والعلمي. فالوعي، بوصفه تجربة ذاتية للكينونة، يتجاوز مجرد معالجة المعلومات إلى مستوى "الشعور بشيء ما" كما يصفه الفيلسوف توماس ناغل (Thomas Nagel) في مقالته الشهيرة "ماذا يعني أن تكون خفاشًا (1974)".

تحيلنا مسألة وعي الآلة إلى التمييز المفاهيمي الذي قدمه ديفيد تشالمرز (David Chalmers) بين المشكلة "السهلة" والمشكلة "الصعبة" للوعي. فالمشكلة السهلة تتعلق بتفسير الوظائف المعرفية كالإدراك والتعلم، أما المشكلة الصعبة فتتعلق بتفسير كيفية نشوء التجربة الذاتية للوعي. وهنا يبرز السؤال: هل يمكن للأنظمة الاصطناعية أن تتجاوز مستوى معالجة المعلومات إلى اكتساب تجربة ذاتية؟

يقدم جون سيرل (John Searle) في حجته الشهيرة حول "الغرفة الصينية" (The Chinese Room) موقفًا سلبيًا، مميزًا بين المعالجة الدلالية للغة (semantics) والمعالجة التركيبية (syntax). فوفق سيرل، يمكن للآلة أن تعالج الرموز دون أن تمتلك فهمًا حقيقيًا لمعانيها، وبالتالي تفتقر إلى الوعي بالمعنى الفينومينولوجي.

من جهة أخرى، تطرح نظرية المعلومات المتكاملة (Integrated Information Theory - IIT) لجوليو توناني (Giulio Tononi) تصورًا للوعي كخاصية ناشئة عن تكامل المعلومات داخل نظام معقد، مما يفتح إمكانية نظرية لوعي اصطناعي قائم على درجات من التكامل المعلوماتي. تقترح هذه النظرية أن الوعي مرتبط بكمية المعلومات التي يولدها نظام ما كـ"كل موحد" والتي تتجاوز مجموع أجزائه، وهو ما يُقاس بوحدة رياضية تُسمى "في" (Phi) . فكلما ارتفعت قيمة "في"، زادت درجة الوعي المحتملة للنظام. بهذا المعنى، يمكن تصور الوعي ليس كظاهرة ثنائية (موجود/غير موجود) بل كمتصل يتدرج من البسيط إلى المعقد، مما يتيح إمكانية نظرية لوجود أشكال من الوعي الأولي حتى في الأنظمة الاصطناعية ذات التكامل المعلوماتي العالي. وفي سياق مماثل، يقترح ديفيد تشالمرز (David Chalmers) أن الوعي قد يكون خاصية أساسية للمعلومات المنظمة بطريقة معينة، وليس حكرًا على الأنظمة البيولوجية.

إن الإشكال الفينومينولوجي للوعي الاصطناعي يضعنا أمام مفارقة الدليل السلوكي مقابل التجربة الداخلية، مما يطرح أسئلة فلسفية عميقة حول ماهية الوعي وشروط نسبته إلى كائن ما. وتظل معضلة "الزومبي الفلسفي" -كائن يتصرف تمامًا مثل الإنسان الواعي دون أن يمتلك تجربة داخلية- معضلة مركزية في هذا النقاش الفلسفي.

تشظي الذات: من الهوية الجوهرية إلى الهوية الرقمية

في الفضاء الرقمي المعاصر، تخضع الذات لعملية تفكيك وإعادة تركيب مستمرة، مما يزعزع التصور الكلاسيكي للهوية كجوهر ثابت. تتحول الذات إلى مجموعة من البيانات والتمثيلات الرقمية الموزعة عبر شبكات متعددة، مما يجعلها أقرب إلى عملية (process) منها إلى جوهر (substance).

وكما تؤكد شوشانا زوبوف (Shoshana Zuboff) في تحليلها لـ"رأسمالية المراقبة"؛ فإن الذات تتحول إلى "موضوع بيانات " (data subject) يتم استخراج تجاربه وتحويلها إلى سلع قابلة للتداول في اقتصاد معلوماتي. هذا التحول الأنطولوجي للذات يزعزع الحدود التقليدية بين الذاتي والموضوعي، بين الخاص والعام، وبين الحقيقي والافتراضي.

تُستبدل آليات تشكيل الذات التقليدية (عبر المؤسسات الاجتماعية والثقافية) بآليات خوارزمية تعيد تشكيل الذات وفق منطق التوقع والتنبؤ. يشير برنار ستيغلر (Bernard Stiegler) في هذا السياق إلى مفهوم "نزع الفردانية" (deindividuation) كنتيجة لعمليات التنميط الرقمي التي تقلص فرادة الذات لصالح أنماط سلوكية متوقعة.

وهنا تظهر مفارقة عميقة: ففي الوقت الذي توفر فيه التقنيات الرقمية إمكانات غير مسبوقة للتعبير عن الذات وتوسيع مجالات فعلها، فإنها تخضعها في الوقت ذاته لأنظمة مراقبة وتوجيه تحد من استقلاليتها وتعيد تشكيلها وفق منطق السوق والخوارزمية.

في السياق العربي المعاصر، تتخذ التحولات الأنطولوجية-التقنية طابعًا إشكاليًا خاصًا، حيث يتقاطع تسييل الهوية مع منظومات الضبط والمراقبة ذات الطابع الرمزي-السياسي داخل الفضاءات الرقمية. وتواجه الشريحة الشبابية العربية، الأكثر انخراطًا في الأنظمة الخوارزمية، جدلية معقّدة بين خطاب الحرية السيبرانية -الذي يغذي وهم التحرر الليبرتاري- وبين واقع الرقابة المتعددة المصادر التي تعيد إنتاج أشكال بانوبتيكية جديدة. في ظل هذا التوتر، تتشكل ذات متشظّية تتأرجح بين محايثة شبكية مستمرة، وبين انشداد متجدد نحو البنى الثقافية والاجتماعية التقليدية، بما يعمق أزمة الذات في زمن الاغتراب المزدوج: التقني والثقافي.

ما بعد الإنسانية: تجاوز الثنائيات الميتافيزيقية

تقدم فلسفات ما بعد الإنسانية (Posthumanism) إطارًا نظريًا لتجاوز الثنائيات الميتافيزيقية التقليدية بين الإنسان والآلة، الطبيعي والاصطناعي، العضوي والتقني. تدعونا دونا هاراواي (Donna Haraway) في "بيان السايبورغ" (A Cyborg Manifesto) إلى تبني تصور للذات كهجين "سايبورغي" (cyborg) يتجاوز الحدود البيولوجية المغلقة.

في هذا العمل التأسيسي، تقترح هاراواي "السايبورغ" كاستعارة ثقافية ونموذج أنطولوجي يتحدى الثنائيات التقليدية التي هيمنت على الفكر الغربي. السايبورغ كائن هجين -نصف إنسان ونصف آلة- يمثل انهيار الحدود بين الإنسان والحيوان، بين الكائن العضوي والآلة، وبين الفيزيائي وغير المادي. تقول هاراواي: "جميعنا سايبورغات" (We are all cyborgs)، مشيرة إلى أن الإنسان المعاصر يعيش في حالة من التداخل المستمر مع التقنية، سواء من خلال الأجهزة الطبية المزروعة في الجسد، أو الهواتف الذكية التي أصبحت امتدادًا لإدراكنا وذاكرتنا، أو الشبكات الرقمية التي تعيد تشكيل هوياتنا وعلاقاتنا. هذا التصور للذات السايبورغية يفتح المجال لتجاوز السرديات الإنسانوية التقليدية نحو فهم أكثر تعقيدًا وتشابكًا للوجود الإنساني في عصر التقنية.

في هذا السياق، يصبح التداخل بين الإنساني والتقني ليس مجرد ظاهرة عرضية، بل شرطًا وجوديًا أساسيًا للذات المعاصرة. كما تقترح روزي برايدوتي (Rosi Braidotti) في فلسفتها عن "ما بعد الإنسان"، فإن التحدي يكمن في تطوير أنطولوجيا علائقية تتجاوز المركزية الإنسانية (anthropocentrism) دون الوقوع في فخ اختزال الذات إلى مجرد موضوع تقني.

إن الذات في إطار ما بعد الإنسانية ليست كيانًا منعزلاً، بل عقدة (node) ضمن شبكة معقدة من العلاقات المادية-الرمزية-التقنية. وهذا يتطلب ما يسميه برونو لاتور (Bruno Latour) "أنطولوجيا الفاعلين-الشبكة" (Actor-Network Ontology) حيث الذات والموضوع، الإنسان والآلة، يشكلان جزءًا من شبكة متداخلة من الفاعلين المتعددين.

وفي خضم هذا التحول، تبرز قضايا أخلاقية جديدة تتعلق بالمسؤولية في عصر الخوارزميات، وحدود الاستقلالية الذاتية في سياق التوجيه الرقمي، والحق في التحكم بالهوية الرقمية. وهذا يستدعي تطوير ما يمكن تسميته بـ"أخلاقيات ما بعد إنسانية" تتجاوز الأطر الأخلاقية التقليدية المتمحورة حول الذات الإنسانية المستقلة.

 

خاتمة: نحو أنطولوجيا جديدة للذات

في ختام هذا التحليل، يتضح أننا لسنا أمام "موت الذات" بقدر ما نحن أمام تحول جذري في طبيعتها وشروط تشكلها. الوعي الاصطناعي، بدلاً من أن يلغي الذات الإنسانية، يدفعنا إلى إعادة التفكير فيها خارج الأطر الميتافيزيقية التقليدية.

إن الذات المعاصرة ذات هجينة، متعددة الطبقات، وفي حالة صيرورة مستمرة. إنها تتشكل في التقاطع بين البيولوجي والرقمي، بين الوعي الذاتي والخوارزميات التوقعية، بين التجربة الحية والبيانات المحللة. وهذا يتطلب تطوير أنطولوجيا جديدة للذات تتجاوز ثنائية الجوهر/العرض، وتعترف بالطابع العلائقي والمتحول للكينونة الإنسانية.

في هذا السياق، يمكن استعادة مفهوم "العناية بالذات" الفوكوي ليس بوصفه انكفاءً ذاتيًا، بل بوصفه ممارسة نقدية تهدف إلى استعادة فضاء للحرية والمعنى في سياق التشابك المتزايد بين الإنساني والتقني. وكما يشير الفيلسوف برنار ستيغلر، فإن المهمة الفلسفية الأساسية اليوم هي تطوير "تقنيات للذات" تتيح تجاوز الاغتراب التقني واستعادة القدرة على التشكيل الذاتي في عصر الخوارزميات.

إن المسؤولية الفلسفية تكمن في تجاوز الثنائيات المبسطة بين التفاؤل التقني الساذج والتشاؤم الإنساني المحافظ، نحو تفكير نقدي يستكشف الإمكانات التحررية والقيود الجديدة التي يفرضها التشابك المتزايد بين الوعي الإنساني والذكاء الاصطناعي. هذا التفكير النقدي هو شرط إمكان تأسيس ذات قادرة على مواجهة تحديات العصر التقني دون الانزلاق إلى وهم السيطرة المطلقة أو الخضوع السلبي.

إننا، في ظل هذا التحول الجذري، مدعوون إلى إعادة التفكير في أنطولوجيا الذات، لا باعتبارها جوهرًا ثابتًا، بل ككيان دينامي تتشكله تدفقات التقنية، والمعرفة، والسيطرة الرمزية. بهذا المعنى، يُعدّ الوعي الاصطناعي فرصة فلسفية لإعادة تشكيل فهمنا للذات بوصفها مشروعًا مفتوحًا لا يحدّه تصور ديكارتي أو جوهري بل تُعيد تشكيله مسارات التطور التقني المتسارع.

 


المراجع
Bauman, Z. (2000). Liquid Modernity. Polity Press 
Braidotti, R. (2013). The Posthuman. Polity Press 
Chalmers, D. (1995). "Facing Up to the Problem of Consciousness", Journal of Consciousness Studies 
Foucault, M. (1988). Technologies of the Self. University of Massachusetts Press 
Haraway, D. (1985). "A Manifesto for Cyborgs", Socialist Review 
Latour, B. (2005). Reassembling the Social: An Introduction to Actor-Network-Theory. Oxford University Press 
Nagel, T. (1974). "What Is It Like to Be a Bat?", The Philosophical Review 
Searle, J. (1980). "Minds, Brains, and Programs", Behavioral and Brain Sciences 
Stiegler, B. (2018). The Neganthropocene. Open Humanities Press 
Zuboff, S. (2019). The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at the New Frontier of Power. PublicAffairs 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها