مؤشرات الكفاية المعرفية لدى المدرس

عبد الخالق بهلول


تمثل الكفاية المعرفية مجموعة المعارف والمهارات والقدرات التي يجب أن يتوفر عليها المدرس ليتمكن من أداء دوره على أكمل وجه، لذلك قيل في تعريفها بأنها "خبرات معرفية أكاديمية وثقافية تمكن الفرد من أداء مهام المهنة بفعالية"، وتمكن هذه الخبرات والمعارف المدرس من فهم المادة التخصصية التي يدرسها، ويغني هذا الفهم عملية التفاعل المعرفي بين المدرس ومتعلميه داخل الفصل، كما أنها تعزز ثقة المدرس في نفسه، وتنمي ثقة المتعلمين في ما يتم تداوله من معطيات ومعارف داخل الحصة الدراسية، ومما ينبغي الإشارة إليه أن الكفاية المعرفية لا تتعلق بضبط المادة المعرفية وحدها، وإنما تستلزم أيضاً المعرفة بطرائق تدريسها، ومعرفة المتعلم الذي يستهدفه نفسياً واجتماعياً، كما تستلزم المعرفة بالأدوات والمعينات التي يمكن اعتمادها في تدبير الحصة الدراسية، وغالباً ما يكون الجهل بهذه العناصر سبباً في فشل التعلم، ويعني هذا أن ضبط المعرفة الأكاديمية وحدها غير كافٍ، وإنما لا بُد للمدرس أن يكون ملمّاً بكيفيات نقل المعارف من سياقها العالم إلى سياقها المدرسي، وهو ما يفرض عليه أن يتوفر على معارف أخرى بيداغوجية وديدكتيكية وتواصلية.


وبالتالي، فليس المراد بالكفاية المعرفية ضبط المعارف وحدها أصولا وفروعاً، بل لا بد أن تنسحب هذه الكفاية على جميع المعارف المؤطرة للمادة الدراسية، وأن تلائم السياق المدرسي الذي يحتضنها؛ لأن الهدف الرئيس من التعلم لا يكمن في ضبط المعارف وحدها، بل في استعمالها في وضعيات سياقية مختلفة؛ لأننا لا نتحدث هنا عن المعرفة، بل نتحدث عن الكفاية المعرفية، ومن لوازم الكفايات كما يرى بيرنود: "قدرة الشخص على تفعيل موارد معرفية مختلفة لمواجهة نوع محدد من الوضعيات"، ولا شك في أن أي حديث عن الكفاية المعرفية يفرض، ضرورة، الإشارة إلى لوازمها ومؤشراتها، وسنحصرها في هذا المقال في ثلاثة مؤشرات كبرى، هي: (القدرة على انتقاء المعرفة، والقدرة على تصنيفها وتنظيمها، ثم القدرة على تصريفها في المقام المدرسي).

1. القدرة على انتقاء المعرفة

تشكل المعرفة بمادة التخصص المستوى الأول في الكفاية المعرفية؛ فالمدرس ملزم بضبط المعارف المتعلقة بالمادة التي يدرسها، وملزم بالإحاطة بها إحاطة إتقان، ولا ينبغي أن يتعامل معها معاملة التلميذ المجتهد؛ وإنما ينبغي أن يتعامل معها معاملة المتقن، وذلك لكي لا يخل بالأسس الابستيمولوجية المؤسسة لهذه المعارف أثناء القيام بعملية النقل؛ أي نقل المعارف من سياقها الأول في صورتها الأكاديمية، إلى سياقها الثاني في صورته المدرسية، ويقتضي هذا الضبط الانفتاح الدائم على المعرفة التي تتسم بالتجدد، ويخلق هذا التجدد كثيراً من المشاكل للمدرس، وفي مقدمتها مشكلة الانتقاء، أي انتقاء المعرفة المناسبة لأهداف التعلم وحاجيات المتعلمين؛ لأن إيقاع المعرفة دائم التحول والتغير، وهو ما يجعل المدرس، على الدوام، في مواجهة مشكلة الانتقاء من بين مصادر متعددة، ومتغيرة باستمرار، "وقد بين المؤتمر الدولي للتربية C.I.E أن التحولات السريعة التي طرأت على مستوى المعارف والتجارب، تدفع المدرس اليوم إلى التكيف مع المعارف الجديدة، وهذا الأمر يتطلب منه التوفر على كفايات تؤهله للاتصال بمختلف مصادر المعرفة، والمقصود بمصادر المعرفة أن المعارف التي يبحث عنها المدرس لا توجد فقط، في الكتب والمراجع، بل توجد أيضاً في البيئة المحيطة، والوسائل السمعية البصرية، وقنوات الإعلام".

وتقتضي إشكالية الانتقاء الاستناد إلى معايير محددة، تعين المدرس على انتقاء المعارف الملائمة، وفق قانون الأنفع؛ لأن المعارف كثيرة، وفيها ما يفيد في بناء التعليمات المدرسية، وفيها ما لا يفيد، ومن المعايير التي يمكن الإشارة إليها في هذا الباب:
◅ أن تكون صحيحة علمياً ومنسجمة مع تطور العلوم والمعارف.
◅ أن ترتبط بمدخلات المنهاج ومخرجاته.
◅ أن ترتبط بالأهداف المحددة للدرس.
◅ أن تناسب الفئة المستهدفة.
◅ أن تكون مناسبة لمتطلبات البرنامج الدراسي ونظام الامتحانات.
◅ أن تكون متنوعة المهارات.

2. القدرة على تصنيف المعرفة وتنظيمها

يؤكد أندري بتي جون André Petitjean أن المعرفة وهي في طريقها صوب التحول إلى معرفة قابلة للتدريس تخضع لتحولات بغية الاستجابة لغايات وأهداف النظام التعليمي ولخصوصيات الديدكتيك (Didactics)، لذلك يتم تحويل المعرفة ديدكتيكيا (la didactisation du savoir) من خلال العمليات الآتية:

نزع المعرفة من السياق؛ ويراد بالنزع سحب المفهوم من المنطق الأصلي للمعرفة العلمية (هذا المنطق الذي يعد تجريداً متماسكاً، لكن قابلا للجدل والتعديل، وموجهاً لغايات أخرى غير التعليم والتعلم لتحويلها إلى عناصر تتناسب مع تعلم محدد.

إزالة الطابع الشخصي عن المعرفة: La dépersonnalisation‏ فسواء احتفظت المعرفة بتسميتها الأصلية أم لا، فالعنصر أو المفهوم المراد تدريسه ليس مرتبطاً بمنشئه ولا بالمجال العلمي المرجعي.

قابلية المعرفة للبرمجة La programmabilité من خلال وضع العنصر أو المفهوم المدرس ضمن شبكة مع باقي العناصر والمفاهيم، وذلك في توزيع مفهومي منظم ومتدرج، وبناء على امتداد زمني، وذلك لكي يتم وضع أهداف التعليم والتعلم في صيغتها النهائية.

إشهار المعرفة: La publicitéبحيث المعرفة المراد تدريسها محددة ضمن نص رسمي.

القابلية للمراقبة Le contrôle وتتجلى في التحقق من انتقال المعرفة عبر التدابير التي تسمح بالتصديق على المكتسبات".

وتسند هذه العناصر إلى المعرفة المدرسية خصوصيات إضافية تضاف إلى خصوصياتها الأصلية، وتتجلي في كونها معرفة منظمة ومتدرجة، لذلك نجد لها قابلية للمراقبة؛ لأنها مستندة إلى أهداف خاصة محددة، ولكن من الضروري التمييز في التنظيم بين تنظيم المعرفة في علاقتها بالمدرس، وتنظيمها في علاقتها بالمتعلم، وذلك لأن منطق المعرفة عند المدرس مختلف في طبيعته عن منطق المتعلم، "إلا أننا قليلا ما نعي أن الترتيب الذي اكتسبنا به المعارف من المصادر أو خلال تكويننا يختلف أصلاً، عن المنطق الذي يمكن التلاميذ من اكتساب المعارف، فهناك إذن منطقان في تنظيم المعارف:

منطق المعرفة: ويتعلق بالتنظيم الذي تأخذه بنية المادة في مصادرها، وعند العلماء.

منطق سيكولوجي: ويتعلق بالآليات التي يستخدمها المتعلم لاكتساب المعرفة ومعالجتها.

ويقدم راونتري أمثلة عن ذلك قائلاً: "من الطبيعي أن نبحث عن نوع من النظام المنطقي أثناء تناولنا الموضوعات والأفكار التي سيعالجها (المتعلمون)، ولكن المنطق الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هو ذاك الذي يؤكد حدوث التعلم، وقد لا يكون هو نفس المنطق الذي يبدو منظماً أو مرتباً في نظر شخص آخر يعرف مادة الدراسية، نحن نحتاج إلى منطق التلميذ لا منطق المعلم".

وهذا ما يفرض على المدرس في تنظيمه للمعرفة ضرورة استحضار طبيعة النظام الذهني للمتعلم الذي سيمكنه من استقبال المعارف الجديدة على نحو متدرج ومنظم، وهو ما عبر عنه أوزبل بمفهوم الملاءمة؛ أي ملاءمة البنية المعرفية المقدمة للبنية الذهنية للمتعلم، ومن الأسئلة التي يجب أن يستحضرها المدرس وهو يستعد لتصنيف المعرفة وتنظيمها:

◂ ما وضعية المتعلم العامة ومحيطه: سنه، مرجعيته، تاريخه الشخصي؟

◂ ما القدرات الإدراكية للتلميذ؟

◂ ما القدرات التعبيرية اللغوية وغير اللغوية للتلميذ؟

◂ ما مهارات المعالجة التي يستخدمها؟

◂ ما الكفايات التي يتوفر عليها؟

◂ ما القدرات التي يتوفر عليها؟

◂ ما الحوافز التي يظهرها؟

وحين يطرح المدرس هذه الأسئلة وما يشبهها، فإنه يتحول تلقائياً من التفكير في المعرفة إلى التفكير في المتعلم، ويضطر حينها إلى استحضار مبدأ الملاءمة، فيختار من المعارف ما يلائم خصوصيات متعلميه، ليكون المنطلق، في بناء خطة الدرس، حينها، هو حاجات المتعلمين وما يتوفرون عليه من قدرات وتحفيزات وميولات...، ويمكن للمدرس هنا أن يستعين بتصنيف بلوم للمهارات المعرفية في مستوياتها المختلفة (مستوى التذكر، مستوى الفهم، مستوى التطبيق، مستوى التحليل، مستوى التركيب، مستوى الابتكار)، ومن شأن هذه المستويات أن تعينه على تصنيف المعارف وتنظيمها.
 

3. القدرة على تصريف المعرفة

قد يحسن المدرس انتقاء المعارف الملائمة، وقد يحسن تصنيفها وتنظيمها، لكنه إذا لم يحسن تصريفها داخل الصف الدراسي، فأكيد، حينها، أن لن يحقق الأهداف المرجوة، فلا قيمة إذن للمعرفة في ذاتها؛ وإنما القيمة في طريقة إيصالها إلى المتعلمين، وعلى المدرس أن يجتهد في هذا الباب، من خلال اختيار الطرائق المناسبة في بناء المعارف مع المتعلمين، بما يناسب خصوصياتهم، وخصوصيات السياق من حيث المكان (القسم)، ومن حيث الزمان (زمن الحصة)، ومن حيث الوسائل والمعينات المتاحة، ثم يفكر في طرائق التصريف الممكنة، التي ينبغي أن تكون ملائمة لطبيعة المعرفة المدرسية وخصوصياتها، فضلا عن ملاءمتها لطبيعة الأهداف التي تستهدفها تلك المعرفة، ولا يكون تصريف المعرفة فعّالا ومحققا للأهداف، إلا إذا كان المدرس قادراً على تنظيم المادة وعرضها على نحو منظم يراعي خصوصيات المتعلمين وقدراتهم وحاجاتهم، ولا يتحقق هذا الأمر إلا إذا كان المدرس يتوفر على جملة من المهارات الرئيسة التي بإمكانها أن تحوله إلى مدرس فعال، وأن تحول المعرفة التي يدرسها إلى معرفة ذات معنى.

 

خاتمة:

إن الكفاية المعرفية مهمة جداً لتحقيق تدريس فعّال، وإن المدرس ملزم بدءاً بضبط معارفه ضبطاً دقيقاً، وملزم بالتعامل معها تعامل الباحث المدقق، ثم تأتي، بعد ذلك، عملية التخطيط لبناء المعرفة المدرسية، ليعمد المدرس حينها إلى تقنية الانتقاء، فينتقي ما يتعلم وما لا يتعلم، وليست المعارف في هذا الباب سواء، وبعد الانتقاء يصنف المدرس المعارف إلى (مفاهيم، وجهات نظر، نظريات، وقائع...)، ثم يخطط لتمرير هذه المعرفة المصنفة، ويدبر مراحلها في الفصل الدراسي، ويقوم ضبط المتعلمين لها.

 


المصادر والمراجع:
- مريم موصديق، النقل الديدكتيكي وتدريس اللغة، مجلة النداء التربوي، العدد 29، 2022.
- الفاربي عبد اللطيف، دروس في علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالجديدة، 2015.
- عبد السلام مصطفى عبد السلام، أساسيات التدريس والتطوير المهني للمعلم، كلية التربية جامعة المنصورة، دار الجامعة الجديدة، ط1، 2007.
- أحمد حسن القاني وآخرون، التدريس الفعال، كلية التربية جامعة عين شمس، ط1، 1995.
- مجدي عزيز إبراهيم وآخرون، التدريس الفعال، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط1، 1998.
Philip Perrenood, Dix nouvelles compétences pour enseigner, édition ESF, Paris, 1999
 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها