عودةُ الطائر المهاجر لإسبانيا من جديد!

الفنان راشد دياب :الأصالة لا تفترض إلغاء الماضي

محمد بغدادي


الفنان السوداني راشد دياب أحد أبرز الفنانين التشكيليين العرب، فهو فنان عالمي بالمفهوم الأشمل والأعم، نهل من التراث الشعبي السوداني، وجسد في أعماله أشكالًا فنيةً عصرية، لاقت قبولًا عربياً وعالمياً مبهراً، وشكلت أعماله الفنية ملمحاً أساسياً في حركة الفن التشكيلي السوداني. فالفنان راشد دياب واحد من أهم المبدعين في مجتمع الهجرة، والاغتراب الفني السوداني، وعبر تجربته كأستاذ للحفر في جامعة مدريد المركزية، تألق الفنان راشد دياب، خلال ممارسته للإبداع الفني لأكثر من عشرين عاماً في إسبانيا، وعبر اتصاله المستمر بالتيارات الفنية الأوروبية والأمريكية والإفريقية والعربية المعاصرة، تفردت تجربته وتميزت بالأصالة والمعاصرة، وعلى مدى مشواره الممتد مر مشروع الفنان راشد دياب الفني بثلاث مراحل:
الأولى: تمثلت في فترة تكوين وجدانه الفني، ولغته الإبداعية، والحنين إلى مجتمعه السوداني.
الثانية: تلك التي انتقل فيها من مرحلة التكوين إلى الأعمال ذات الصبغة الذاتية، وتميزت هذه المرحلة بتطوير تقنياته، وبدء تنفيذ مجموعته الشهيرة بـ"الطائر المهاجر"، و"الممالك الأخيرة".
الثالثة: فترة الانغماس في الألوان، والبحث عن وسائطها الفنية المتعددة، وتلك المرحلة التي أنجز فيها مجموعته المعروفة باسم "المساحات الحمراء"، ومنذ اجتيازه لهذه المراحل الثلاث قويت عنده العلاقة بين اللون والمساحة من ناحية، وبين الرمز والتقنية من ناحية أخرى، وصولًا إلى الترابط الشكلي الذي تخطاه عن اقتدار في مجموعته المسلسلة للرسومات الدقيقة المسماة "يوميات المهاجر".

ارتبطت تجربة الفنان راشد دياب بالتراث رغم تنوعها، وتعدد مراحلها، وذلك ما دفعة دائماً للبحث عن الرموز والمأثورات الشعبية بعناصرها الأصيلة، ليعيد صياغتها، ومعالجتها برؤاه الفنية المتجددة، فيقول: "الأصالة لا تفترض إلغاء الماضي؛ إنما يظل في اللاوعي كمخزون بصري وثقافي". أعمال راشد دياب في مجملها تعد تعبيراً صادقاً عن فلسفته في التعامل مع التراث بوعي يحقق له التوافق بين الأصالة والمعاصرة، ولعل إيمانه بهذه الفلسفة دفعه لإنشاء مركز "راشد دياب للفنون" بالخرطوم، ليكون منارة إشعاع للثقافة والفنون والتنوير، محققاً من خلاله كل طموحاته التي حلم بها، قبل عودته كالطائر المهاجر من إسبانيا عام 2005، فبعد هجرتهه الأولى نحو الشمال عاد إلى حضن الوطن الدافئ ليرد لبلاده بعضاً من عطاياها، مؤكداً انتماءه للأرض الطيبة، ولكن ما وقع مؤخراً من أحداث في السودان أعادت الفنان راشد دياب للشمال مرة ثانية، فعاد لإسبانيا من جديد. جاءت أعماله الأخيرة تعبيراً عن هذه المرحلة مجسداً فيه دور المرأة السودانية في مأساة السودان الأخيرة، حيث يقول دياب: "النساء بأمتعتهن وفي أثوابهن التقليدية الأقرب إلى أطياف ملوّنة سائحة في فضاء مفتوح أفقياً وعمودياً".

كثيراً ما ينتاب رواد معارض دياب إحساس غامض بالمتعة والدهشة، لوحات راشد متدفقة بالحياة رغم السكون الهائل التي تسبح فيه كائناته التي تضج بالصمت المحير، وذلك هو السهل الممتنع، أمام كل هذه البساطة والتلخيص أقف عاجزاً عن تقدير حجم الخبرات والممارسات والرؤى التي يمتلكها دياب، تلك الخبرات التي تقف خلف كل بقعة لون، وكل خط تائه في هذا الفراغ الفسيح الذي يهيمن على مفردات لوحاته، وهنا نستشعر سطوة الحضور لسنوات العمل المتواصل للعثور على ذاته ليجسد كائناته المدهشة، والمتدثرة بثوبها السوداني الملون، التي تتوارى خلف حوار الألوان الصامت، وحضور المرأة الصاخب.

وُلد الفنان راشد دياب في مدينة ود مدني بحي (ود أزرق العريق) في العام 1957، التقيت الفنان دياب عدة مرات عبر مشاركته في معارض متعددة، كان أولها في مدينة الأقصر، حين شارك في ملتقى الأقصر الدولي للتصوير عام 2013، والتقينا بعدها في مدينة الخرطوم بمركز راشد دياب للفنون عام 2016، وفي القاهرة كان لنا عدة لقاءات حين أقام معرضه في جاليري بيكاسو الشرق بمصر عام 2019، وشارك في عدة معارض بالقاهرة، ومؤخراً التقينا على ضفاف نهر الرقراق بمدينة الرباط بالمغرب، حين جمعنا الاجتماع التنسيقي الأول لمركز الحوار الحضاري بمنظمة الإسيسكو، بعد أن انتقل دياب إلى مدريد مرة أخرى.

عبر هذه اللقاءات كان الحوار بيننا ممتداً، وعندما سألته كيف كانت البداية تحدث فقال: "الضوء كان يشكل ركناً أساسياً في حياتي، كنت أبحث عن تأثير الضوء على الأماكن والوجوه، وجذبني الظل والنور، لأكتشاف اللون، ومنذ تفتحت عيناي على الحياة، كانت سعادتي غامرة عندما أجد علاقة بالآخرين، وأرغب في أن يشاركني أحد في هذه الرؤية العميقة للموجودات التي حولنا، وعندما بدأت أعبر عن ذلك بنفسي، لجأت إلى المشاركة اللفظية بالكلمة والقصيدة، واكتشفت أن ذلك يتطلب جهداً كبيراً. لذلك اضطررت إلى أن أعبر عن نفسي بنفسي، وأصقل إحساسي بالأشياء بالكلمة، والأوراق والألوان، وما زلت منذ بداية السنوات الأولى، وهذا الشغف موجود وحاضر بداخلي حتى الآن.

أما المرحلة الثانية؛ فجاءت عندما بدأت أتعلم اكتشاف القدرات الفنية والتقنية للتعبير عن نفسي، فاستخدمت الطين كخامة طيعة لتشكيل ما حولي من أشياء، باب، كرسي، ثم أحطمه، وبعدها اكتشفت الآلوان المائية، وكنت لا أعرف ألوان الزيت، حتى لم يكن لدي فرشاة لألون بها، وكنت أستخدم السواك، ولم أكن أعرف أي فنان تشكيلي في ذلك الوقت، بعد ذلك بدأت أتعرف على أعمال الفنانين العفويين من خلال لوحاتهم في المطاعم، وكنت أذهب لأراها وكان معظمها مبني على مفردات الفنون الشعبية البسيطة.

أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الوعي بالذات، وكنت بدأت أشعر أنني فنان، وبدأت أبحث عن أدواتي لأعبر بها عن نفسي، حتى دخلت كلية الفنون الجميلة، وحصلت على شهادة البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم، بدرجة الشرف الممتازة في التلوين عام 1978. ووجدت التجربة ليس لها جانب فكري، يغذي رغبتي الجامحة للتعلم، وكنت أحتاج لمن يفكر معي ليقود خطاي نحو العمل الفني، وكيف أكتشف مصادر الإلهام في السودان، إلى أن تلقيت منحة تعلمية من الحكومة الإسبانية للدراسات العليا في مجال التلوين، وهناك بدأت المشوار منبهراً باهتمامهم بالفنون بشكل عام، وانبهرت بالحضارة الإسلامية في جنوب إسبانيا، وحصلت على الأستاذية في الرسم من كلية الفنون الجميلة في جامعة مدريد المركزية، ثم الماجستير في التلوين وفن الحفر عام 1987، ثم الدكتوراه بتقدير ممتاز في فلسفة الفنون الجميلة من جامعة مدريد المركزية في إسبانيا عام 1991. وانطلقت من هناك لأشارك في عدد كبير من الفعاليات الثقافية في مختلف أنحاء العالم، وأقمت عشرات المعارض الخاصة الداخلية والعالمية، وشاركت في عدد كبير من المعارض الدولية، وحصلت على جوائز عديدة، وفي عام 2005 تم اختياري كواحد ضمن أفضل مائة شخصية عالمية عن إفريقيا. وفي عام 2007 تم اختياري سفيراً للسلام، وحصلت عام 2010 على منحة جائزة سفير البيئة. وما زلت أبحث عن مفتاح الخلاص من مرارة مواسم الهجرة. ليس فقط الهجرة التي تعاظمت إثر النزاعات القائمة في السودان، بل أيضاً كل الهجرات التي تعصف في بلدان المنطقة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها