ينتمي حسب الشيخ جعفر إلى الموجة الثالثة من شعراء التفعيلة العربية بعد موجة الشعراء المؤسسين لشعر التفعيلة في أربعينيات القرن العشرين، مثل السياب ونازك الملائكة، والموجة الثانية المتطوِّرة من شعر التفعيلة في خمسينيات القرن العشرين التي ضمت شعراء كبارًا مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأدونيس والبياتي وغيرهم.
ولِد حسب الشيخ في مدينة "العمارة"، تخرَّج من معهد "جوركي" للآداب في موسكو، عام 1966. حصل على جائزة "السلام" السوفياتية عام 1983، وجائزة سلطان "العويس" عام 2002- 2003. أصدر عديدًا من الدواويين الشعرية مثل نخلة الله عام 1969، الطائر الخشبي عام 1972، زيارة السيدة السومرية عام 1974، عبر الحائط في المرآة عام 1977، أعمدة سمرقند عام 1985، تواطؤًا مع الزرقة، إني أقرأ العمر احتطابًا، الفراشة والعكاز.
لخصوصية تجربة حسب الشيخ جعفر الإنسانية والثقافية آثار واضحة في شعره، فما بين رحيله للدراسة في الاتحاد السوفياتي السابق في ستينيات القرن العشرين، وإقامته في عمان، العاصمة الأردنية في تجربة أقرب إلى النفي القسري في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، تتجلى علامات التأثر بالثقافة الروسية بشكل كبير والثقافة الغربية عمومًا على نحو ما في شعره، كما يتبدَّى الشعور الاغترابي في تجربته الإنسانية حاضرًا في نصه الشعري.
يظهر في شعر حسب الشيخ جعفر جمعه بين أسلوب شعري يعتمد البناء التفعيلي والتعدد القافوي في أحرف الروي في القصيدة من ناحية، وثقافته وخصوصًا بأثر خبراته ومعارفه من إقامته في الاتحاد السوفياتي لسنوات من ناحية أخرى.
الحس الاغترابي:
بدا حسب الشيخ جعفر معبِّرًا في شعره عن اغترابات الذات سواء على مستوى شخصي، نتيجة تجربة عيشه ولو لفترة بعيدًا عن الوطن، أو على مستوى وجودي وإنساني، تعبيرًا عن اغتراب الإنسان في هذا العالم، وقد انعكس ذلك الشعور على رؤية حسب الشيخ جعفر للوجود وكل ما فيه، فيقول في قصيدة بعنوان "قهوة العصر":
النهر في الظهيرة
كدمعة كبيرة
يجري ولا يجري، وأوراق النخيل مثقلة
بالمطر المحموم والغيوم فوقها مهدَّلة.
يتجلى في أشعار حسب الشيخ جعفر حسُّ رومانسي في التمازج الحادث بين الذات والطبيعة حد التماهي، حيث تُسقِط الذات مشاعرها الحزينة ورؤيتها التشاؤمية على عناصر الطبيعة التي تعاينها في إحالة نفسية، تُلبس فيها الذات أحاسيسها للموجودات التي تتمثَّلها حزينة، مثقلة بالهموم مثلها كالنهر والنخيل مع انتشار الغيوم في الأفق، ما يدل على ضبابية هذه الأفق، بما يعكس قلق الذات الوجودي من مصيرها ومصير العالم الذي تعيش فيه. وتعمل صور حسب الشيخ جعفر على تكثيف ما تلتقطه حدقة الشاعر كما في التشبيه: (النهر في الظهيرة/ كدمعة كبيرة) الذي فيه إسقاط نفسي لما يعانيه الشاعر من أحزان وما يحسُّه من اغتراب على ما يعاينه من معطيات الوجود وأشياء العالم.
وتبدو صياغات حسب الشيخ جعفر على قدر كبير من التوازن بين التجديد باختيار قالب الشعر التفعيلي والحرص على الثراء الموسيقي المتمثل في كثافة التقفية، وكذلك استعمال الوسائل البلاغية كالتكرارات أو النفي والتقابل كما في وصف حركة النهر: (يجري ولا يجري) التي تجعل حركة النهر الطبيعية كأنَّها لم تكن بأثر شعور الذات النفسي بتجمُّد الوجود وتوقف العالم.
يتبدى في شعر حسب الشيخ جعفر استبداد الشعور بالألم بالذات وطغيان حالة من الحزن، وإحساس ثقيل بالوحشة في هذا العالم والاغتراب فيه ما يفاقِم شعورًا تشاؤميًّا يهيمن على النفس ويراكم مواجعها، يقول حسب الشيخ جعفر في قصيدته "النهاية الثانية":
"مرَّ صيف آخر، والتهم الموقد ألواح السفينة
فاركب الجذع المقيم
أيها النورس في مقهى المدينة
أيها النخل الذي يحمل في الجذر حنينه
وانثر الملح على الجرح القديم"
يساكن الذات في شعر حسب الشيخ جعفر مشاعر عديدة بين الحزن والرجاء، اليأس والأمل، الهزيمة والمقاومة مع غلبة المشاعر السلبية في معظم خطاباته الشعرية. ومن المقطع الاستهلالي للقصيدة يتضح الشعور بمأساوية الوجود وأفول الحياة. ويتبدَّى أنَّ ثمة مكوِّنات عدة تتشارك في تشكيل قصيدة حسب الشيخ جعفر وفي صياغة مقولاته، ففي الإحساس بالزمن المتبدِّي في الوعي بمرور الصيف وحضور الشتاء تلوح ظلال "الأرض اليبباب" لإليوت، كما تحضر رموز متنوعة من خطابات مقدَّسة وأسطورية، كما في استعارة (التهم الموقد ألواح السفينة)، بما تحيل إليه "السفينة" من رمزية النجاة في العالم، كما في سفينة "نوح" التي كانت وسيلة للنجاة من الطوفان، فالتهام الموقد "ألواح السفينة" يعني ضياع وسيلة النجاة، أو وسيلة انتقال الذات إلى وجهتها المنشودة ومقصدها. وإشارة الذات إلى نفسها بطير "النورس" فيبدو كرمز للترحال والبحث عن أرض ومستقر له. أما الإحالة المكانية للتواجد في "مقهى المدينة" فيعني الوجود العابر، فالمقهى مكان عام لكنَّه ليس بالمكان المستقر، في حين ترتبط المدينة عند شعراء الحداثة العربية، خصوصًا في الخمسينيات والستينيات بمعاني الاغتراب باعتبارها كيانًا معقدًا في بناه وتكويناته، ثم تأتي الإشارة إلى الذات بـ"النخل"، في هيئة اسم جنس جمعي، بما يرمز إليه النخل كأيقونة للعراق من معاني الرسوخ والإثمار والنماء. أما الدعوة (فاركب الجذع المقيم) التي تحل بالجذع محل السفينة فتعني المغامرة والمخاطرة، في حين تعني الدعوة (وانثر الملح على الجرح القديم) الرغبة في نكأ الجراح واستعذاب الألم.
وتعتمد القافية على حرفين للروي (النون) في كلمات (السفينة/ المدينة/ حنينه) مسبوقة بصوت (الياء) كإسناد ومتبوعة بصوت (الهاء أو التاء المربوطة المنطوقة هاءً) كوصل، مما يجعل صوت الخواتيم في هذه الأسطر الشعرية الثلاثة صوت نبر، ويبدو (النون) صوت الروي من الحرف الرخوة التي تعبِّر دلاليًّا عن حالة التعب والإنهاك التي أصابت الذات، أما وصله بصوت (الهاء) التي من حروف الهمس فيؤكِّد حالة الضعف التي تشعر الذات بها في حين يعكس صوت (الياء) الذي من حروف المد كإسناد الشعور بعمق الألم، ويبدو أنَّ الربط القافوي بين السفينة المحترقة، والمدينة، يعكس شعورًا مضمَّرًا لدى الذات بخراب المدينة وعدم جدوى العيش فيها، أما (حنينه) فتضع حنين الذات أمام الموقف المأساوي التي باتت فيه. ويأتي صوت (الميم) كروي مسبوقًا بصوت المد (الياء) كإسناد له في سطرين (المقيم/ القديم)، ليربط الجذع المقيم الذي هو بديل الذات عن السفينة بالجرح القديم، فتتلاقى صفتا الإقامة والقدم، فكأنَّ قدِم الجرح زمانيًّا يعادل رسوخ الجذع وإقامته وتعمُّقه مكانيًّا.
الضياع في المكان الآخر:
في مغتربه في المكان الآخر، بعيدًا عن وطنه والمكان الأول، يتزايد الشعور الأليم في خطابات حسب الشيخ جعفر بالاغتراب والضياع في المكان الآخر الذي لا تجد الذات نفسها فيه، فتمسي في حالة من الشتات والتيه المستدام، كما في قصيدة "آخر مجانين ليلى":
أضاعني الباصُ الأخير، من ترى يوسعُ لي ركنًا يقيني البردَ والمواصلات؟ غرفتي الوحيدة الضوء إلى الفجر الجليدي الهزيل؟ ليلة ضائعة الشارع في فينّا، وحيدًا انتحي ركنًا بلا ذاكرة في قهوة، يعجُّ بالأوانس الشقر الملطخاتِ، تحت الأرض، لن أكتب شعرًا هذه الليلة، إنِّي مطرٌ يصفحُ طفلَ النخل في فينّا، وعشب يابس يوقد في ضاحية تلتف بالسرو، وعظم مقمر يلهو به الصبية.
ثمة أزمة تتبدَّى في علاقة الذات بزمكان عوالمها في المكان الآخر، مثلما تحكي عن معاناتها في ليل "فينا"، مع تنامي شعور بهشاشة الذات وضعفها الوجودي إزاء معطيات مكانها الآخر وحالته البالغة القسوة، مع تفاقم شعور فادح بالوحدة وإحساس ثقيل بالاغتراب الذي يضاعف ما تحسه الذات من سحب الكآبة التي تلوح في أفقها.
يعتمد حسب الشيخ جعفر في هذه القصيدة نظام البنية العروضية المدوَّرة التي تنتظم في إطار فقرات شعرات لا أسطر أو أبيات، هذا النظام الذي كان يبدو جديدًا حينها على قصيدة التفعيلة العربية في ستينيات القرن العشرين، التي كان رائدها الأبرز مع حسب الشيخ جعفر، أدونيس ويوسف الخال، ذلك النظام العروضي الذي يتأسس على تدفُّق التفاعيل دون حد لها أو تأطير في بيت أو سطر شعري، ويعبِّر ذلك، دلاليًّا، عن انهمار الخواطر وتدافع الأفكار وتداعيات الرؤى التي تلحُّ على وعي الذات.
وعلى وقع التدوير العروضي ثمة منظومة للصور تنبني على التدفُّق الاستعاري الذي قد يبدو ظاهريًّا، على هيئة اضطراب صوري أو تشذُّر بنيوي، فتكشف استعارة: (أضاعني الباصُ الأخير) عن الشعور بالضياع والمتاهة الوجودية التي تحسُّها الذات في المكان الآخر/ "فينَّا"، كما يدل "الباص الأخير" على دلالات الفرصة الأخيرة للعودة إلى البيت أو إلى مأوى الذات ومسكنها، كما يدل، ضمنيًّا، على التسكع أو حالة الشتات وفقدان الوجهة في شوارع المكان الآخر، كما تكشف الكناية الواردة بصياغة تساؤل: (من ترى يوسعُ لي ركنًا يقيني البردَ والمواصلات)؟ عن شعور الذات بضيق المكان الآخر عليها وقسوة أحواله، كما تعكس الاستعارة المصاغة في جملة تمثِّل باضطراب لغوي حالة الاضطراب النفسي الذي يداهم الذات: (غرفتي الوحيدة الضوء إلى الفجر الجليدي الهزيل) الإحساس النفسي لشعور الذات بالوحدة والهزال الذي تقوم بعملية إسقاطه على الأشياء والعناصر التي تعاينها، كما تعكس الصورة الجامعة بين الكناية والاستعارة: (وحيدًا أنتحي ركنًا بلا ذاكرة في قهوة) اغتراب الذات في المكان الآخر الذي تحسُّه بلا هوية، كما تكشف الكناية: (يعجُّ بالأوانس الشقر الملطخاتِ) عن تَمثُّل الذات للآخر، في مكانها الآخر، شائهًا. ثم تعكس استعارات ثلاث: (إنِّي مطرٌ يصفحُ طفلَ النخل في فينّا، وعشب يابس يوقد في ضاحية تلتف بالسرو، وعظم مقمر يلهو به الصبية)، تبدو في حالة ترابط منطقي -ظاهريًّا- حالة الذات المتوترة في تمثُّلها لنفسها وعلاقتها القلقِة بعالمها في المكان الآخر، حيث التداعي النفسي المتوتر يفضي إلى تعبير لغوي استعاري يعكس تمزُّقات الذات واهتزازتها النفسية.
في شعر حسب الشيخ جعفر تمثيل لشرود الذات في المكان الآخر، كما في قصيدة "قارة سابعة":
الزمن اليابس، يا حبيبتي، كالقش في أصابعي، انزلقتُ في المترو بكوم هائل من زهر الأوركيد وانتظرتُ في العواصف المجنونة البيضاء، كالرصاصة العمياء يعدو الكوكب الأرضي مذعورًا.
تعكس لغة حسب الشيخ جعفر في تشكيلاتها الاستعارية لصور تبدو، في معظمها، مغايرة وغير مألوفة، الشعور بحالة الموات الوجودي والجدب الكوني في تمثُّل الذات لعالمها، كاستعارة (الزمن اليابس، كالقش في أصابعي) التي تمثِّل لإحساس بتيبُّس الزمن أو بالأحرى لعدم تحقيق الذات إنجازًا فيه، كما تبدو استعارة مثل: (كالرصاصة العمياء يعدو الكوكب الأرضي مذعورًا) تجسيدًا لشعور نفسي بفوضوية العالم ولا منطقيته، وحالة الذعر الإنساني العارم والقلق الوجودي المتمادي.
عبثية العالم والمحاكاة التهكمية:
في شعر حسب الشيخ جعفر كثيرًا ما يبدو أنَّ ثمة خيوطًا شفيفة خفية تربط ما هو موضوعاتي بما هو تقني؛ إذ قد يفضِّل الشاعر تقنية ما ويختار أسلوبًا شعريًّا معينًا في تعبيره الجمالي عن موضوع ما. وفي شعور الذات المأساوي بعبثية العالم ولا جدواه تستدعي، غالبًا، نصوصًا إبداعية أدبية وفنية درامية وموسيقية تمثيلاً لمآسيها، فتعتمد الصياغة الشعرية أسلوب "المحاكاة التهكمية"، أو "البارودي" في التعبير عن شعور الذات بعبثية العالم، كما في مقطع بعنوان "ورقة من بيت الموتى" من قصيدة بعنوان "وقت للحب ووقت للتسوُّل":
الزبد الضائع في البحار
والورق الميت والغبار
آخر شيء قابع في جعبة الممثل المهزوم.
منفردًا أراه
يحلم في مقهاه
يلتف في معطفه المهترئ القديم
يشدُّ في غيظ على الكأس، ويهذي غائبًا، محموم.
عرائس الغابات من أوكارها فرِّت، فمن يحوم
في منزل الأموات غير البوم؟
أوديت في بحيرة البجع
أسيرة الريح إلى الأبد
فمن يدق بابها؟
يهيمِن على الذات في شعر حسب الشيخ جعفر شعور بالخيبة وإخفاق مسعاها الوجودي، وأنَّ ما حصلته من العالم هو هباء بلا قيمة كما في الاستعارة المرشَّحة: (الزبد الضائع في البحار/ والورق الميت والغبار/ آخر شيء قابع في جعبة الممثل المهزوم)، فتعمل العناصر المتعددة في البنية الاستعارية، الممثلة لحصيلة مسعى الذات الوجودي، على تأكيد فكرة خسارة الذات التي تبدو كـ"الممثل المهزوم".
ويُلاحَظ، أيضًا، تمثُّل الذات نفسها في اغتراباتها كآخر تشير إليه بضمير الغائب، كما تغلب الصورة الانعزالية في تقديم الذات لنفسها: (منفردًا أراه)، ويبدو التقديم النحوي للحال (منفردًا) على جملته الفعلية (أراه) للتأكيد البلاغي على دلالة الوحدة وطيغان الشعور بها على الذات. ويحضر (المقهى) كثيرًا في شعر حسب الشيخ جعفر كفضاء مكاني ترتاده الذات في المكان الآخر، لكنَّه يبدو بلا قيمة ومجرد مكان لتمضية الوقت بلا صحبة وبلا عمل مجدٍّ. وتؤكِّد الكناية (يلتف في معطفه المهترئ القديم/ يشدُّ في غيظ على الكأس، ويهذي غائبًا، محموم) حال الذات البائس في اغترابها بمكانها الآخر واضطرابها الوجداني وفقدانها الاتزان النفسي.
وتستعمل الصياغة الشعرية في بعض مواضع النص الشعري لحسب الشيخ جعفر أساليب مركّبة في التعبير الجمالي عن مقولات الخطاب الشعري، كما في: (عرائس الغابات من أوكارها فرّت، فمن يحوم/ في منزل الأموات غير البوم)؟ التي تعتمد أسلوب الاستعارة المرشَّحة حيث التمثيل لحالة التشوُّه والوحشة السائدة الوجود، بفرار عرائس الغابات من أوكارها، تعبيرًا عن تنفير العالم الذي يضم الذات للكائنات الجميلة أو بالأحرى للآخر الذي تنشده الذات، في مقابل شعور الذات بتحول العالم إلى منزل للأموات، في استعارة لنص دويستوفسكس "منزل الأموات"، وتوظيف لأسلوب المحاكاة التهكمية، "البارودي"، ثم في استعارة أخرى: (أوديت في بحيرة البجع/ أسيرة الريح إلى الأبد،/ فمن يدق بابها)؟ توظيف لأسطورة "أوديت" في باليه "بحيرة البجع" للموسيقي الروسي تشايكوفسكي، تلك الأسطورة التي تقول بأنَّ أميرًا، "سيجفريد"، قد أعجب ببجعة جميلة، "أوديت"، كانت تسبح في البحيرة وعلى رأسها تاج، وعند حلول الظلام وإذ بالأمير الشاب يوجه القوس والنشاب لاصطياد البجع فيجد البجعة الجميلة قد تحوَّلت إلى امرأة شابة، فتخبره أنَّها قد تعرَّضت ورفيقاتها إلى عمل ساحر شرير قد حولهن إلى بجعات، ولن ينفك السحر ويزول إلا إذا أحبها شاب، وما إن فكّر الأمير في أن يعترف بحبه للفتاة حتى ظهر الساحر وأخذها في حضنه لتعود هي ورفيقاتها بجعات كما كن. وفي اليوم التالي في احتفال أقيم بالقصر الملكي طالبت الأميرةُ الأم الأميرَ الشاب باختيار فتاة للزواج منها، لكنَّه كان يفكِّر في "أوديت" الجميلة، الفتاة/ البجعة التي تظهر له من النافذة فيغادر الأمير الحفل ويلاحقها، ثم يعود الساحر الشرير "روزارت" ليقدِّم ابنته "أوديل" إلى الأمير على صورة "أوديت" لينخدع الأمير ويقع في حبها، وتبقى "أوديت" سجينة إلى أن يكتشف الأمير الخدعة ويبطل مكيدة الساحر، ويذهب إلى البحيرة بحثًا عن "أوديت"، فيلتقيها ويحررها، لكنَّ حسب الشيخ جعفر في محاكاته التهكمية، واستعارته هنا، يغيِّر من النهاية السعيدة في نص تشايكوفسكي، ليجعل النهاية، حزينة، مأساوية، وتبقى "أوديت"، هنا، سجينة إلى الأبد، في تمثيل استعاري لانعدام التلاقي بالآخر المفقود الذي تبحث الذات عنه، لتحقيق سعادتها.
يقوم حسب الشيخ جعفر في استدعاءاته لنصوص تمثِّل علامات في الوعي بإعادة تشكيلها أو بإعادة إنتاجها وفقًا لمعطيات آنه وواقعه المحايث، كما في استدعائه لتوفيق الحكيم في قصيدة "عهد الشيطان":
أبصرتُ توفيق الحكيم
حَردًا، تدقُّ عصاه شُبّاكَ التذاكر..
قٌلتُ: انصرف يا شيخُ
أوصدَ بابَه الأوديونُ
واعتكر الضباب
وتسلّلت أيدي الضلالة..
قال: امض عني
واستزد قصفًا ولهوًا
أنا لا أدقُّ على الفتاة
بل جئتُ أعمدةَ الخرائبِ طارقًا أبواب قلبي
فلرُبَّما يصحو الغراب
فأعيدَ حكمته القنوعَ
وأستردَّ بها الجهالة!
على الرغم من عنونة القصيدة، باسم أحد نصوص توفيق الحكيم وتحديدًا مجموعة قصصية له، عهد الشيطان، التي تكون خلاصتها الصراع الدائر في وعي الكاتب والمثقف بين شهوة الحب وشهوة المادة وشهوة المعرفة وشهوة الشباب، وفيها يعطي الكاتب شبابه ليأخذ العلم فيخدعه الشيطان ويضيع عمره هباءً- فإنَّ المعالجة التناصية، هنا، تستدعي أحداث رواية عصفور من الشرق، التي أخفق فيها بطل رواية الحكيم، "محسن"، في قصة حبه التي دارت في المكان الآخر، باريس، للفتاة الفرنسية، "سوزي"، فيبرز هذا الحوار الذي تقيمه الصياغة الشعرية بين صوت النص الشعري وصوت الحكيم المستعاد حالة من الرؤية الضبابية والسوداوية للعالم، في محاكاة تهكمية، "بارودي"، تؤكِّد الشعور بمأساوية العالم ووحشته، فإعادة إنتاج الحكاية، هنا، بمثابة، استعارة تمثيلية، كما يبدو الحوار تجسيدًا لصراع نفسي وشعور باليأس يساكن الذات وفقدان الرجاء في العالم، ليكون استحضار توفيق الحكيم، بمثابة آلية قناعية للقرين الشبحي أو الذات الأخرى المضادة، حيث تعيش الأنا حالة من الصراع المحتدِم والانشطار الذي يفضي بها إلى صراعات نفسية وتوترات وجودية.
رؤية الشعر:
في الخطاب الشعري لحسب الشيخ جعفر رؤية خاصة للشعر، وتمثُّله لما يجب أن يكون الشعر عليه، وما يجب أن يتخلَّص منه أو يدافعه ليحافظ على هويته النوعية وخصوصيته، فقدَّم حسب خلاصة تصوراته للشعر في عدد من المقاطع الشعرية، جاء بعضها أقرب إلى "السونيت"، فيبدو حسب الشيخ جعفر في رؤاه للشعر متمسِّكًا بالشعر التفعيلي الموزون في مقابل قصيدة النثر، فيقول:
قد تقضِمُ القططُ العجاف
بحثًا عن الفئرانِ، في الزرع الخيار..
قد يألفُ (الشعراءُ) في (النثرِ) القطاف!
يستعمل حسب هذه الاستعارة التمثيلية التي تصوِّر بحث الشعراء في النثر، أي اختيار بعضهم لنوع قصيدة النثر، مشابهًا لبحث القطط العجاف عن الفئران في الزرع وقضمها الخيار، فتقوم هذه الاستعارة التمثيلية على المشابهة بين حالتين.
وفي غير نص لحسب الشيخ جعفر نجد رثاء لحال الشعر، كما في قصيدة بعنوان "تساؤلات"، من ديوان تواطؤاً مع الزرقة:
قلتُ للماءِ منحدرًا
في السواقي الصغار:
(المياهُ، كما قيل في الدرسِ،
تجري إلى ظلماتِ البحار
فإلى أين تجري)؟
فقالَ: (القصائدُ،
منذ انطوى الماءُ عما تقولُ القصائدُ،
تُكتَبُ حبرًا على ورقٍ
للرياح..
وستكتُبُني خضرةً تتجدّدُ
أيدي الشجر)!
يعتمد حسب الشيخ جعفر تقنية "الحوار" بشكل ملحوظ في تشكيلاته الشعرية تعبيرًا عن الجدل الدائر حول تصوُّرات الأفكار ومفاهيم الأشياء، وفي تصوُّر حسب لما آل إليه حال الشعر، فإنَّه يراه (حبرًا على ورقٍ)؛ أي أنَّه يحسُّ بافتقاد الشعر الصدق الفني وبعده عن التعبير النابض عما يدور في العالم والوجود فيكون مصيره (للرياح)، أي التبدُّد هباءً، في حين يرى الشاعر نفسه بأنَّ العالم والطبيعة هي التي تكتبه: (وستكتُبُني خضرةً تتجدّدُ/ أيدي الشجر)! في استعارة تشخيصية ترى الشعر انفعالاً صادقًا وطبيعيًّا لما يمليه العالم والطبيعة على الشاعر.
وعن رؤية وموقف حسب الشيخ جعفر من القافية التي هي ركيزة أساسية في بنائه الشعري يقول:
شحاذَ قافيةٍ شرودٍ لن أكون!
إني أمدُّ يدي إلى الصندوق، وكما عهدتُ..
السحبُ مرعدةٌ، هتون!
تكشف هذه الاستعارة المُرشَّحة عن رؤية حسب لعملية التقفية في الشعر؛ إذْ يرفض "القافية الشرود"؛ أي القوافي الغريبة أو المتكلِّفة، ومن ناحية أخرى يرى أن عهده بالقوافي كعهده بالسحب، غزيرة الأمطار، فحسب الشيخ جعفر من الشعراء الذين تأتي قوافيهم غزيرة في حروف رويها وتنوعها.