كيف انهـارت أول "عولمة" فـي التاريخ؟

عندما سقطت "الأخوية العالمية" وحلّ عصر الظلام

طايع الديب

في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وخلال خمسين عاماً فقط، أصاب الدمار كل الحواضر المهمة في شرق وشمال البحر المتوسط، بما في ذلك مدن بلاد الرافدين وأرض كنعان واليونان، وأُسدل ستار النهاية على ما يُعرف بـ"حضارة العصر البرونزي المتأخر" فوق كوكب الأرض.
آنذاك، ضربت العواصف والزلازل والجفاف الناجم عن التغيّرات المناخية مناطق واسعة من العالم القديم. وسقطت أمم وممالك و"دول عظمى" بمقاييس ذلك الزمان، وعلى رأسها الفينيقيون والآراميون والحيثيون والكنعانيون والميسينيون والقبارصة، سقطوا جميعاً تحت أقدام "شعوب البحر" من الهمج الذين خرجوا من العدم على شواطئ البحرين المتوسط والأسود، ليهاجموا المراكز الحضارية الكبرى لأول مرة في التاريخ.
وتبعاً لذلك، اندلعت ثورات الفلاحين، وازدادت أعداد المحاربين الجوّالين من "المرتزِقة" الذين كانوا يقاتلون بالأجر لحساب أنفسهم، أو لصالح من يدفع أكثر. وهو ما أدى إلى اهتزاز استقرار الممالك، ونشوب الحروب فيما بينها، وتوقف حركة التجارة العالمية، وانقطاع طرق التجارة البحرية، نظراً لانتشار أعمال القرصنة على أوسع نطاق. ودخل العالم بعدها "عصر الظلام" الطويل لعدة قرون.
 

وقد صدر حديثاً عن "مؤسسة هنداوي" بالقاهرة، الترجمة العربية لكتاب "1177 ق. م.. عام انهيار الحضارة"، لمؤلفه الباحث الأمريكي إريك كلاين، من ترجمة محمد حامد درويش ومراجعة مصطفى محمد فؤاد، وهو الكتاب الذي يتناول الأسباب المؤدية إلى هذا "الانحطاط العظيم"، وكيف أدت الصلات المعقدة بين حضارات العالم القديم في الشرق الأوسط واليونان –وقتها- إلى تدميرها في نهاية المطاف.
وبحسب مراجعة نشرتها صحيفة "ديلي نيوز" الأمريكية، يكشف الكتاب المدوّن على شكل رواية بوليسية شيّقة، عن أوجه تشابه تبدو "مخيفة"، بين الجغرافيا السياسية للسنوات الأولى من القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والقرن الحادي والعشرين الذي نحيا فيه اليوم.


 

لا حروب في عالم "الأخوية"

أطلق المؤرخون على الفترة الزمنية من (3000 ق. م – 1200 ق. م) اسم "العصر البرونزي المتأخر"، بسبب انتشار استخدام البرونز في صنع الأدوات والأسلحة على نطاق واسع في تلك الحقبة المزدهرة، التي شهدت بناء أهرامات الجيزة، واختراع العجلة وأبجدية الكتابة في بلاد ما بين النهرين (العراق حالياً)، وقيام الإمبراطورية الأكادية أول كيان سياسي غير قومي "متعدد الثقافات" في العالم، ما أدى إلى ظهور أول حقبة دولية كبرى، يمكن تسميتها مجازاً "عولمة"، بتعبير عصرنا.

يرسم "كلاين" صورة ضافية لما يعتبره "عولمةً" من نوعٍ ما، شهدها القرن الخامس عشر قبل الميلاد، إبّان ازدهار العصر البرونزي المتأخر. يقول المؤلف: "ثمة دليل على مدى تدفق الاتصالات والتجارة والتأثيرات الدولية، في كل جهات عالم منطقة البحر المتوسط القديم، خلال الـ15 ق. م. ويمكننا أن نلخّص هذا القرن، بأنه فترة شهدت قيام الاتصالات الدولية على نحوٍ مستدام، من (منطقة بحر) إيجه إلى بلاد الرافدين. وكان هذا فقط بداية ما سيغدو "عصراً ذهبياً" للنزعة الدولية والعولمة، خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد".
ويضيف: "استضافت منطقة البحر المتوسط عالماً دوليّاً معقداً تفاعل فيه المينويون، والميسينيون، والحيثيون، والآشوريون، والبابليون، والميتانيون، والكنعانيون، والقبارصة، والمصريون، جميعاً بعضهم مع بعض، فشكّلوا نظاماً اتسم بطابع عالمي وعولّمي لم يُر مثيله إلّا نادراً في عصرنا الحالي".

تلا ذلك، صعود نوع فريد من "الأخوية العالمية" التي لا نظير لها، من قبل أو من بعد، حيث تبادل ملوك بابل وآشور ومصر وقبرص وكنعان وجزر كريت وميتاني (مملكة قديمة كان موقعها في سوريا حالياً)، الرُسل والهدايا، والرسائل المكتوبة باللغة الأكادية، اللغة الدبلوماسية الشائعة في ذلك الوقت، والتي كانت تُستخدم في العلاقات الدولية.

يقول المؤلف: "في هذه الرسائل، عادةً ما كان الملوك المعنيّون يشيرون إلى بعضهم البعض باعتبارهم أقارب، فيدعو بعضهم بعضاً "أخاً" أو "أبناً- ابناً"، على الرغم من أنهم لم يكونوا أقرباء بالفعل، مُنشئين بذلك شركات تجارية، باعتبار أنهم أعضاء في أخوية عالمية. وأشار علماء الأنثروبولوجيا إلى أن هذه الجهود لإنشاء علاقات عائلية تخيُّلية، تحدث في أغلب الأحيان في مجتمعات ما قبل الصناعة، بخاصة لحل مشكلة التجارة عندما لا يوجد صلات قرابة أو أسواق تحت إشراف الدول".
وقتها، كانت خريطة الشرق القديم في العصر البرونزي المتأخر، تضم حضارات مزدهرة، في كل من: مصر والشام والأناضول، وقبرص وتكريت واليونان. واستمر هذا الازدهار غير المسبوق في تاريخ البشرية على كوكب الأرض حوالي خمسة قرون، وذلك بين عامي 1700 و1200 ق. م.

وفجأة، كما يحدث في أفلام هوليوود التاريخية الأسطورية، حلت سنوات عجاف على العالم. وبعد حقبة طويلة من الازدهار في العلاقات بين أصقاع العالم القديم، الممتد عبر إفريقيا وآسيا وأوروبا، أصاب الدمار المدن الكبرى، وانفرطت عُرى "الأخوية العالمية" التي ضمنت عيش العالم في سلام، من دون وقوع أي حروب إقليمية. وسقطت معظم الحضارات باستثناء الحضارة الفرعونية، ما أدى إلى انقطاع في العلاقات الدبلوماسية والتجارية، وغابت أنظمة الكتابة، وحلّ الدمار في كل مكان.

ولكن كيف سقطت تلك "الأخوية العالمية" ودخل العالم عصر الظلام، وكيف حدث هذا الانهيار العظيم للحضارة؟

في معرض الإجابة عن هذا السؤال المصيري، بالنسبة لعالمنا اليوم، ينقل "كلاين" عن هيركيول بوارو، المحقق البلجيكي الذي أبدعته قريحة الكاتبة البوليسية الشهيرة أجاثا كريستي، قوله إننا سنحتاج إلى إعمال "خلايا عقلنا الرمادية الصغيرة"، حتى ننسج معاً الخيوط المشتة للأدلة في نهاية سردنا للوقائع، خلال مسعانا للإجابة على السؤال المتعلق بالسبب وراء الانهيار الفجائي لنظام دولي مستقر، بعد ازدهاره لقرون.

عندما سقطت الممالك

في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حوالي عام 1177 ق. م. أو بعده بقليل، ولفترة دامت 100 عام، تغيّرت خريطة حضارات العصر البرونزي المتأخر، وتحول عالم الشرق القديم رأساً على عقب. لقد وقع هذا العالم تحت غزو "شعوب البحر" من الهمج البرابرة.
ويوضح المؤلف أنه في غضون خمسين عاماً من 1225 ق. م. 1175 ق. م.، وقعت زلازل مدمرة في عدد من مدن اليونان والساحل الشرقي للبحر المتوسط. ويدل على ذلك ما اكتشفه الآثاريون من هياكل عظمية تحت أبواب محطمة، تشير إلى وقوع زلازل بالغة الشدة.

أسهمت تلك العوامل مجتمعة، فضلاً عن نشوب الثورات الداخلية، في سقوط الممالك تباعاً مثل قطع الدومينو. وخلال بضع سنين، لم يعد ثمة ذكر لحضارات المينويين والميسينيِّين، ولم يبق ظل للحيثيين ولا البابلييين، وأصبحت مدن جزر كريت وقبرص أثراً بعد عين.
وفي عام 1177 ق. م، غزت أرض مصر تلك الجماعات المسلحة المُغيرة، التي عُرفت في الأدبيات التاريخية الغربية باسم "شعوب البحر المهاجرة"، وتمكن جيش الفرعون الشهير "رمسيس الثاني" وأسطوله البحري من دحرهم. غير أن هذا النصر كان فادح الثمن، فقد أضعف مصر حتى إنها سرعان ما انجرفت هي نفسها في دوّامة الاضمحلال مؤقتاً، كآخر الحضارات العظيمة المتبقية في العصر البرونزي المتأخر.
لكن "شعوب البحر" نجحت في غزو حضارات أخرى غرب المتوسط، حيث جاء في رسالة من ملك "أوغاريت" إلى ملك قبرص: "سيدي الوالد، لقد وصلت الآن سفن الأعداء، وهم يطلقون المجانيق على مُدني، وقد ألحقوا أضراراً بأرضي. وأنت تعرف أن جنود مشاتي وعرباتي الحربية موجودة في خاتّيه، وكل سفني ترسو في موانئ أرض لوكّا. والجميع لم يصلوا بعد، وبالتالي فإن المملكة ستسقط في أيدي الأعداء. فهل لي أن أسألك يا والدي أن تهتم بمعالجة هذه المسألة. الآن هناك سبع من سفن العدو توقع بنا أضراراً فادحة. إذا جاءت سفن عدوّة أخرى سوف تنتهي مملكتي، وأرجو أن تخبرني عن هذه السفن حال مجيئها بطريقة ما؛ لأكون على اطلاع من ذلك".
وجاءت السفن التي تخوّف منها ملك "أوغاريت" بالفعل، ومعها نهاية مملكته، ففي رسالة أخرى كتب الرجل إلى نظيره ملك قبرص قائلاً: "عندما وصلت رسالتك، كان الجيش قد هُزم وأُذل. وأُحرق طعامنا على بيادر الحنطة، ودُمرت كروم العنب. لقد نُهبت مدينتنا تماماً ولم يعد بها شيء يُذكر"!

ويعرض "كلاين" صورة بانورامية أخَّاذة لإمبراطوريات العصر البرونزي المتأخر وشعوبه، موضحاً أنه "استناداً إلى الأدلة المتاحة حالياً، ربما يكون ذلك انهيار للأنظمة تسببت فيه سلسلة من الأحداث التي ارتبطت معاً عبر (تأثير مضاعف)، أثّر فيه كل عامل في العوامل الأخرى، مُضخماً بذلك آثارها مجتمعة. وربما كان بمقدور السكان أن يصمدوا أمام كارثة واحدة، كزلزال أو موجة جفاف، ولكن ليس بمقدورهم أن يصمدوا أمام الآثار المجتمعة للزلزال والجفاف والغزو حين تحدث كلها في تعاقب سريع".
ويوضح: "تبع ذلك تأثير تعاقبي، أدى فيه تفكك حضارة إلى سقوط الحضارات الأخرى. ونظراً للطبيعة العالمية لعالمهم، كان من شأن التأثير الواقع على طرق التجارة الدولية والاقتصادات، من انهيار في مجتمع واحد، أن يكون مدمراً بما يكفي لزوال مجتمعات أخرى".

"عاصفة" من الكوارث

يتحسّب "كلاين"، في فصل بعنون (هل حدثت "عاصفة مثالية" من الكوارث)؟ على إمكانية إيراد إجابة علمية محددة لسؤال "الانهيار العظيم"، قائلاً: "علينا أن نُقّر بأنه لا يوجد حالياً إجماع علمي بشأن سبب أو أسباب انهيار هذه المجتمعات المتداخلة المتعددة، منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف عام، إذ يتضمن الجناة الذين ألقى الباحثون باللائمة عليهم: هجمات من قِبل أعداء أجانب، وانتفاضات اجتماعية، وكوارث طبيعية، وانهيار أنظمة، وتغيّرات في أسلوب الحرب".
ولا يتفق العلماء على سبب واحد لهذا الانهيار العالمي، لذلك يرى "كلاين" أن الوصول إلى جواب أوحد لذلك السؤال قد يكون أمراً مستحيلاً، وفيما تتيحه لنا العلوم من أدوات للبحث، لن يكون لدينا جواب قاطع.
 

ويلفت المؤلف إلى أنه لو كان هناك "سر" لهذا الانهيار، فقد يكمن في حقيقة أن هذه الحضارات كانت مترابطة إلى حد كبير، لدرجة أن انهيار إحداها قد يكون سبباً لانهيارها كلها. أي أنها كانت أول تجربة "عولمة" في التاريخ، وربما تكون بمثابة مؤشر خطر، أو "ناقوس تحذير" لعالم العولمة المعاصر، من أنه قد يواجه ظروفاً مماثلة، في ظل النزاعات والحروب الإقليمية والتغيرّات المناخية، والحرائق، بالتزامن مع تفشٍ غير مسبوق لفيروس كورونا. فهل يلقى عالمنا نفس المصير؟

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

رانا ربيع

مراجعة شيقة وممتعة، وجادة في نفس الوقت، تحياتي للكاتب

2/7/2021 8:20:00 PM

1