"دمنهور".. مدينة الأعشاب والعطارة

أحمد اللاوندي


بدأتُ وأنا في العاشرة من عمري، خلال فترة الإجازة المدرسية التي كانت تقريبًا ثلاثة أشهر؛ أعمل مع خالي، ذلك العطار المعروف في قريتنا والقرى المجاورة. وأذكر أننا كنا نذهب للأسواق، حيث نبيع أنواعًا كثيرة من العطارة؛ تلك المهنة التي ترجع إلى 2600 سنة قبل الميلاد. وفي الحقيقة وبدون أدنى مبالغة؛ كان خالي ماهرًا وبارعًا في معرفة جميع أسمائها، ومتفوقًا في المزج بين أنواعها، واستخلاص النتائج الدقيقة التي تنال إعجاب الزبائن وتحقق لهم مرادهم وغايتهم.


ومن مدينة دمنهور؛ كان خالي يبتاع العطارة، فهي على رأس المدن المصرية ترويجًا لها، كما بها تجار كثيرون، يقصدهم الناس من كل حدب وصوب من أجل الشراء منهم والتعامل معهم في هذا الشأن. إنني الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات؛ أجدني لا أنسى على الإطلاق سوق العطارة الكبير، الذي كان يعج بالزائرين، أيضًا؛ الدكاكين القديمة، وروائح الأعشاب والتركيبات، وتكدس عربات النقل، وحركة العمال والبضائع؛ لا تزال حية في ذاكرتي وحاضرة في مخيلتي.

ومن المعروف أن دمنهور، هي مدينة مصرية وعاصمة لمحافظة البحيرة. تقع في وسط غرب دلتا النيل، ويحدها شمالا البحر الأبيض المتوسط، وشرقًا فرع رشيد وغربًا محافظتيِ الإسكندرية ومطروح، وجنوبًا محافظة الجيزة. يبلغ عدد سكانها حوالي 700 ألف نسمة، وتبعد عن الإسكندرية بمقدار 70 كيلو مترًا، وتلقب بالعديد من الأسماء، مثل: مدينة النور، ومدينة النصر، ومدينة البحيرة.

في العصر البطلمي كان اسمها "هرموبوليس بارفا"، أي "مدينة هرمس الصغرى"، وفي بعض الكتب التاريخية عرفت باسم "دي من حور"، ويعني مدينة الإله حور أو حورس، على اعتبار أنها كانت مركزًا لعبادته، وعرفت بأسماء أخرى من بينها: "أبوللنوبوليس" نسبة إلى المعبود اليوناني أبولو، ثم أطلقوا عليها اسم "تل بلامون"، لكن المصريين أعادوا إليها اسمها المصري القديم ونطقوها "تمنهور"، وبعد الفتح الإسلامي حرِّفت بالعربية إلى اسمها الحالي "دمنهور". واشتهرت المدينة في عهد الفراعنة بكثرة المعابد، كما تعتبر أول مدينة صكت بها العملة.

بدمنهور مَرَّ معظم الفلاسفة والمؤرخين الإغريق، وتتلمذوا على أيدي كهنتها عندما كانت المعابد بمثابة الجامعات الأولى التي استقى منها هؤلاء الإغريق العلوم والطب والفلسفة. ولقد حظيت دمنهور منذ أقدم العصور بزيارات الرحالة والبحارة والمؤرخين والفلاسفة والسلاطين والملوك والرؤساء. فوطئت أرضها أقدام هيرودوت واسطرابون وهيلانة والدة الإمبراطور الروماني قسطنطين، والإسكندر الأكبر، وعمرو بن العاص وقايتباي والغوري، والناصر صلاح الدين الأيوبي ونابليون؛ وغيرهم.

ومدينة دمنهور من أقدم مدن العالم. وأول عاصمة دولة في التاريخ (عاصمة دولة الفراعنة بالوجه البحري)، ثم ضمها مينا بعدما وحد القطرين منذ 3 آلاف سنة وجعل العاصمة منف. وأيام الإغريق والرومان كانت المدينة الثانية بعد العاصمة الإسكندرية.

وأثناء الحملة الفرنسية على مصر (1798م- 1801م) وقعت في دمنهور عدة معارك ضارية بين المصريين والفرنسيين، وفي معظمها تكبد الفرنسيون خسائر فادحة على أيدي أبناء المدينة.

ثمة مواقع عديدة ذات قيمة تراثية وتاريخية وحضارية وثقافية وسياحية في دمنهور، ومن بين تلك المواقع التي حظيتُ بشرف زيارتها كثيرًا فيما بعد، بحكم عملي داخل المدينة: "مسجد التوبة".. إنه من أشهر وأقدم المساجد المصرية، وثاني مسجد في إفريقيا، حيث أقامه عمرو بن العاص عام (21 هجرية- 642 ميلادية) مع بدء الفتح الإسلامي. ويتميز بطرازه المعماري البديع وزخارفه الإسلامية الرائعة، ولقد رأيت في منتصفه نجفة كبيرة، ربما يصل وزنها إلى طن من النحاس الخالص.

في زوايا المسجد وأركانه؛ أعمدة تجذب الانتباه، فهي من الرخام النادر الأصيل. ويضم المسجد منبرًا أثريّا، أهداه وجيه أباظة أول محافظ للبحيرة، مختوم عليه شعار الجمهورية العربية المتحدة. كما أن المسجد كان بمثابة البوابة الرئيسة لدخول الإسلام الإسكندرية وشمال إفريقيا، ولعل الزائر له يلاحظ أنه يقع في وسط المدينة بالضبط بجوار محطة القطار التي تم تطويرها مؤخرًا.

فضلا عن مسجد الحبشي، الذي يعتبر تحفة معمارية في بنائه وزخرفته، ومن المعروف تاريخياً أن السلطان فؤاد هو من تفضل بوضع حجر أساسه عند زيارته لدمنهور عام (1920م)، بعد ذلك؛ قام بإنشائه كاملا حسين باشا الحبشي تنفيذاً لوصية والده محمود باشا الحبشي.

كذلك؛ من ينسى "مقهى المسيري".. هذا المقهى الذي أسسه الأديب القهوجي عبد المعطي المسيري في ثلاثينيات القرن الماضي، وبالتحديد في شارع الأميرة فوقية (23 يوليو حاليا)، ولعل الشيء الذي كان يميز مقهى المسيري عن غيره في تلك الآونة، أنه كان أول مقهى يقوم عليه مصري، حيث إن غالبية المقاهي كانت أوروبية ويونانية، وحسب المصادر، لقَّب النقاد والمقربون المسيري بلقب (الأديب القهوجي) نظرًا لأنه لم يلجأ لأحد، فعلّم نفسه القراءة والكتابة، من خلال متابعته للمجلات والصحف والدوريات أثناء عمله داخل المقهى.

إن كثيرين من عمالقة الشعر والأدب والصحافة زاروا مقهى المسيري، وجلسوا بين جنباته، واستلهموا من رواده العديد من شخصيات قصصهم ورواياتهم، مثل: أحمد محرم وعلي الجارم وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وزكي مبارك، ونجيب محفوظ ومحمود أمين العالم، ومصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد ولويس عوض، ومحمد مندور وأمين يوسف غراب ومحمد عبد الحليم عبد الله وهدى شعراوي وإسماعيل الحبروك، وخيري شلبي وأحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور وعلي الراعي وزكريا الحجاوي، ورجب البنا وفتحي سعيد وياسين الفيل ومحسن الخياط ويوسف القعيد والراحل العظيم يحيى حقي الذي قال في شهادة له عن المقهى: "ذلك المثقف أو الأديب الذي يفكر في زيارة دمنهور، مدينة التاريخ القديم والتجار الشطار لكي يتعرف إلى صور الحياة وعادات الناس هناك، لا بد من أن يجلس على رصيف مقهى المسيري الذي يمثل ظاهرة مهمة عند أبناء المدينة المثقفين والأدباء والزجالين". ولقد زار المقهى الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام (1957م).

بالمدينة توجد جامعة دمنهور وتضم عدة كليات منها: الطب والصيدلة والهندسة والآداب والتربية والتجارة والشريعة والقانون والدراسات الإسلامية والزراعة والفنون الجميلة. كما بها قصر للثقافة، والذي تم إنشاؤه منذ بضع سنوات، ويعد مقصدًا وملاذاً للشعراء والأدباء والكتاب، حيث تقام فيه الأمسيات والندوات ومعارض الكتب.

في دمنهور يوجد استاد دمنهور، وتصل سعته إلى 16 ألف مشجع، وبالمدينة؛ نادي ألعاب دمنهور، وهو نادي شعبي كبير، تأسس عام (1961م)، وقد صعد عدة مرات للدوري الممتاز كان آخرها عام (2013م) بقيادة الكابتن أحمد عاشور.

وتوجد بالمدينة "دار أوبرا دمنهور".. إنها أوبرا تاريخية وعريقة، تتجسد من خلالها خصائص فن العمارة المصرية في بداية العقد الرابع من القرن الماضي، وقد تم تشييدها في عهد الملك فؤاد الأول في الثامن من نوفمبر عام (1930م)، تحت مسمى (سينما وتياترو فاروق)، ثم تغير الاسم عام (1952م) من (سينما فاروق) إلى (سينما البلدية)، ولقد ظل الأمر على تلك الحال حتى عام (1977م) عندما تغير الاسم إلى (سينما النصر). ودار أوبرا دمنهور هي أحد ثلاثة مسارح للأوبرا بمصر، بعد دار الأوبرا المصرية في القاهرة، ومسرح سيد درويش في الإسكندرية.

أيضًا؛ من المنشآت والمعالم التاريخية في دمنهور: المكتبة العامة ذات المساحة الشاسعة والقاعات الفخمة، والمستشفى العام، والمعهد الطبي القومي، ومبنى المدرسة الثانوية العسكرية التي بُنيت في عهد الملك فؤاد، وهي تحفة معمارية تبهر وتدهش كل من رآها، وكم ظللتُ أحدِّقُ إليها معجبًا بها وبتخطيطها الجذاب من الجهة المقابلة لها، حيث عملي الآن بشركة كهرباء البحيرة.

ولعل القادم إلى مدينة دمنهور لا ينسى أن يمر بـ"سوق سوريا".. إنه سوق تجاري ضخم لبيع الملابس والحقائب الجلدية السورية وغيرها، لكن السورية فيه؛ تستحوذ على النسبة الأكبر.

من أعلام مدينة دمنهور؛ د. أحمد زويل، العالم المصري الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام (1999م)، وفي الأساس هو من مواليد المدينة، ثم انتقل في سن الرابعة إلى مدينة دسوق. البابا كيرلس السادس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الـ 116. البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الـ 118. د. عبد الوهاب المسيري، المفكر الشهير الذي ولد في عام (1938م) وتوفي في عام (2008م). عبد المنعم الصاوي، الوزير الأسبق لوزارتي الثقافة والإعلام والرئيس الأسبق لمركز مطبوعات اليونسكو. المترجم السيد إمام (1945م- 2023م)، والد الروائي المعروف طارق إمام، ويعد أحد رموز الترجمة وحركة التنوير المعاصرين في مصر والعالم العربي، حيث ترجم عشرات الكتب النقدية في النظرية الأدبية، كما له مئات المقالات والدراسات المنشورة في أماكنها المتخصصة المعتبرة، وتم تكريمه في إبريل عام (2021م) بالمجلس الأعلى للثقافة ضمن مبادرة الشارقة للتكريم الثقافي التي أطلقها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة لتكريم رموز الثقافة العربية. الشاعر صلاح اللقاني، وهو من أهم شعراء مصر والوطن العربي، وأحد التجارب الشعرية المتميزة في جيل السبعينيات المصري، ولد في أكتوبر عام (1945م)، وصدرت له مجموعة كبيرة من الدواوين الشعرية.

في دمنهور يوجد حلواني الصردي وحلواني شال وحلواني بابيش، وهي أشهر ثلاثة أماكن تبيع الحلويات على اختلاف أشكالها. ولعل ابُن النشار هو الأول في دمنهور، حيث النكهة الغنية والرائحة القوية، والمحل يعمل على مدار الساعة.

ويعتبر (قصر الهداية) هو أشهر مطاعم المدينة، كما أن محلات إدكو ورشيد هي الأولى في بيع وطهي الأسماك. أما محلات الجزارة الشهيرة بالمدينة فهي: جزارة النحراوي وجزارة ختعن، لكن الحاج مسعد رومية يعتبر أقدم الجزارين في دمنهور، حيث يقصده أهالي القرى والمراكز المجاورة على مدار العام وخلال موسم عيد الأضحى المبارك، وبالرغم من كبر سنه وعدم قدرته على العمل داخل المحل، إلا أنه يحرص على التواجد بشكل دائم بين العاملين، حيث يقوم بتوجيههم والإشراف على عمليات التربية داخل المزرعة.

من المأكولات الشهيرة في دمنهور: "العيش باللحم"، حيث يتم إعداده وتسويته في أفران خاصة، ومن أشهر تلك الأفران في المدينة فرن (السوسي) المتواجد بالقرب من المحكمة الابتدائية، أيضاً؛ خلطة "الحِبَاش" وهي عبارة عن مجموعة من التوابل المطحونة، تضاف إليها الطماطم المضروبة والطحينة وزيت الزيتون والزيت الحار، ويتناولها أهالي دمنهور مع الخبز والجبنة القديمة والخس والبصل والطعمية.

توجد عدة محمصات معروفة في دمنهور، يقصدها الأهالي وزوَّار المدينة باستمرار، من أجل شراء اللب والحمص والسوداني والمكسرات وهي: محمصة أزأز، ومحمصة طأطأ، ومحمصة عرابي، ومحمصة ندا، ومحمصة قطب.

بالمدينة العديد من الميادين الحيوية والمهمة منها: ميدان النافورة وميدان الساعة، وميدان جلال قريطم، وميدان إفلاقة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها