عاشَ الشِّعر العربيُّ فتراتٍ ذهبيّةً في عصوره القديمة، بلغَ فيها ذروة المجد، ووصلَ قمة النّضج الفني، ولأسبابٍ مختلفةٍ هوى في قعْرِ سحيقٍ، ودخل نفَقاً مُظلماً وسرداباً مُعتِماً فيما سُمِّيَ حضارياً بعصر الانحطاط، فتراجع تراجعاً مهولاً؛ حيث بارتْ سلْعَتُه، وكسدَت سوقُه، وصار مجرّد ملهاةٍ وتزْجيةِ وقتٍ، ولعل ذلك عائدٌ إلى تركيز شعراء تلك الفترة على الشّكل دون المعنى، واهتمامِهم بألوان البديع، والتّلاعب اللّفظي، وتفاهة الأغراض، وغثاثة النظم، وبرودة المعاني، وهكذا كان شعرهم صورةً لعَصرٍ كثُرَ فيه الولعُ بالتكلّفِ والولهُ بالتَّصنّع، فكاد تبعاً لذلك يلفظُ أنفاسه الأخيرة لولا ظهور حركةٍ شعريَّةٍ أفرزتها حركة النّهضة، أخذت على عاتقها مهَمَّة ضخِّ دماء الحياة في أوصال الشّعر المتجَمِّدة، ووُسِمت هذه الحركة بـ"إحياء النموذج"، تمثَّل دورُها في انتشال الشعر من مستنقع الرّداءة وإخراجه من بوتقة الغثاثة، لينطلق -كما كان في عصور ازدهاره- في سماوات النُّضخ الفنيِّ.
ولعل أبرزَ من مثَّلَ هذا التيار: أحمد شوقي، وناصيف اليازجي، وحافظ إبراهيم، ومعروف الرّصافي، ولا ننسى محمود سامي البارودي الذي يعد-وبحقٍّ- رأسَ هذه الحركة ورائدَها وحَامل لوائها، نظراً لإسهامه الفعَّالِ في إعادة النّضارة والرُّواء إلى الشّعر، من خلال ما أبدعه في مختلف الأغراض، وقد لُقِّبَ بصاحب السيف والقلم، وعرِفَ باحتذائه فحول الشعراء كالمتنبي وامرئ القيس، وأبي فراس الحمداني وعنترة ومسلِم بن الوليد، وهكذا وجدنا شِعره يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ شعر الفُحول من الطَّبقة الأُولى. فإلى أيّ حدٍّ مثَّلت القصيدة -قيْد الدراسةِ- شعرَ إحياء النَّموذج شكلاً ومضموناً؟

استهلّ الشاعر قصيدته بمقدِّمةٍ عاطفيّة يصف فيها تقلُّب أحواله ونفسيتِه بعد أن وخَطَ الشَّيب فودَيْه وغزا مفرقَيْه، ونجد في ثنايا كلامه حَنينا إلى ماضٍ أفَل، ورضا نابعا من الأعماق بما خطّه القضاء وكتبه القدر، مُنتقلا بِحسنِ تخلّصٍ إلى وصْف فرسِه الأسطوريّ الخارِق للعادة، ولم ينسَ الافتخار بشجاعته وفروسيّته في ساحة الوغى، وبعد أن يُشْبع غُرورهُ الافتخاريَّ يتّجه صوب وصف رحلةِ الصَّيد التي قام بها رُفْقةَ صَحبِه، ذاكراً ما حصّلوه من لذّات، ليختمَ قصيدته بأبياتٍ في الحكمة تشكل زُبدة تجربته وحنكته في الحياة، صائغاً إياها في قالَبِ أمرٍ مفيد للنصح والإرشاد.
-يظهر جليّاً أنّ الشاعر يحتذي بالقدماء سواء في تعدّدِ المضامين أو طبيعتها، ما يعني أنّه حافظَ ولم يجدِّد. دون أن يعني ذلك غياباً لبصمته الإبداعيّة.
وإذا نزلنا بساحة المعجم، وجدنا الشَّاعر يوظف حقولاً دلاليَّةً كثيرة ناتجة عن تعدُّد الأغراض، تتفاوت طولاً وقصراً، حضوراً وغياباً، إفراداً وتركيباً، امتِداداً وانحساراً، أوّلها الحقل الدّال على العاطفة الذي تندرج تحته الألفاظ والعبارات التّالية: "ردّ الصبا بعد شيب اللِّمّة الغزل، وللمحبة قبلي سنة سلفت، الغزل، الصّبا"، وثانيها الحقل الدّال على الفخر، ومما ينضوي تحته: "أسير أمام القوم ضاحية، الجو بالباترات البيضِ مشتعل، أمضي به الهول مقداما، ترى الرِّجال وقوفا بعد فتكته.."، وثالث هذه الحقول الحقلُ الدال على الوصف، وينطوي تحته: "زرق حوافره، خضر جحافله، كأنه شعلة، سارية هطلاء دانية.."، أما رابعُها فحقل الحكمة الذي تشكّله الألفاظ والعبارات التّالية: "أيام الفتى دول، قضاء خطه الأزل، فاتبع هواك..."، ومن خلال جرد الحقول الدَّلالية يتبيَّن أن حقل الفخر والفروسيّة كان له قصَب السَّبق والقدح المعلى؛ لأنَّ غرض القصيدة الرئيسيّ يتمحور حول الفخر، وفيما يخص العلاقة بين الحقول فهي قائمة على التَّكامل والتَّرابط العضويّ الشّيء الذي حقّق الوحدة العُضويّة.
-اتَّسمت ألفاظ القصيدة بجرسِها العالي ونفَسها التقليديّ، حيث إنَّها تشبه إلى حدٍّ بعيد لغة القدماء من الفحول، الأمر الذي يؤكد تأثُّرَ شاعرنا بمن سلَف من شعراء العربيّةِ.
وإذا عرَّجنا ناحية الجانب الإيقاعيّ ألفينا الشَّاعر يبني قصيدته بناءً عمودياً تقليدياً، قائماً على نظامِ الشطرين المتناظرين والقافية المطّردة والرويّ الموحّد، راكِباً بحر البسيط:
ردْدَ صْصِبا بعْدَ شَيْبِ لْلِمْمَةِ لْــغزَلو \\\ وراح بلْجدْدِ ما يأْتي به لــهزلو
-0-0 —0\-0—0\-0-0—0\---0 "" --0- -0\ -0—0\-0-0--0\---0
مستفعلن\ فاعلن\ مستفعلن\ فعلـن "" متَفعلن\ فاعلـن\ مستفعلــن\ فاعلن
والملاحظ أنّ التفعيلات تعرضت للخَبْنِ، خاصة في العروض والضّرب مما أثْمَرَ ظاهرة التّقفية؛ فالعَرُوض (غَزَلُو) شابهت الضرب (هَزَلُو) صوتيا في حرف القافية، وهو ما أحدث جرْساً موسيقيًّا رائقاً تطرَبُ له الآذان وتهتزُّ له النُّفوس ويستدرج المتلقي ليمضيَ في قراءةِ القصيدة، ولا شك أنَّ اختيار بحر البسيط لم يأتِ صدفةً، بل لما يوفّره من مِساحة مكانيَّة وزمانية، وامتداد صوتيّ، وطول نفَسٍ شعريٍّ يساعد الشَّاعر على التَّعبير بأريحيةٍ عن شجاعته وفروسيَّته، وفيما يخصُّ القافيةَ فقد جاءت مُطلقة مضمومة ومطّردةً في كل القصيدة (-0---0) مما أسهم في خلق تناغمٍ بديع وانسجام رائق ناتجٍ عن وقوع الحركات والسّكنات في الموق نفسه زمانيًّا ومكانيّا، كما جاءت القافيةُ تارة كلمةً (مُشْتَعِلُو) وأكثر من كلمة تارة أخرى (هِلْهَزَلُو)، مؤدّيةً وظيفة صوتيّة تمثّلت في وقْعها النّغميِّ الذي تُحدِثُه فتطرَبُ له الأذن، ووظيفةً نفسيّة تجسَّدت فيما تبعثُه في النَّفس من راحةٍ واطمئنان ناتج عن تَكرار نفس الصَّوامت والصَّوائت نهايةَ كل بيت، ووظيفة معنويّة تتمثّلُ في بناء المعنى وإتمامه بحيث لو حُذِفت وقعَ الخلل والبترُ، وعُموماً جاءت القافية متمكِّنة في مكانها يستدعيها المعنى بحقِّه واللَّفظ بقسطه، وهي بذلك تتويجٌ لمسارِ البيت الإيقاعيّ، أمَّا الرويّ فقد جاء لاما مضمومةً في كل القصيدة (لُ) وهو ضمٌّ يتماشى مع جوّ الفخر ويعكس معنويات الشّاعر المرتفعة، والواضحُ أن تَكرار حرف الرّوي البارز أسهم بدوره في إغناء نهايات الأبيات وجعل النَّفس تنتظر جرْسهُ والأذن تتشوّفُ وقْعهُ، حيث أدَّى وظيفيتين: صوتيّة ونفسيّة.
وإذا انتقلنا ناحية الإيقاع الداخلي، ألفيْنا الشاعر يوظَّف التَّوازي في البيت التّاسع:
زُرْقٌ\ حوافرُه\ سُودٌ نواظرُه خُضْرٌ \جحافلُه\ في خلقه ميَلُ
إذ وازَى و(وازنَ) مكانيا وزمنيا بين:
- " خُضْرٌ" و"زُرْقٌ"
وبين:
- "حوافِرُهُ" و"جحافِلُه"
الأمرُ الذي خَلَق جرْسا موسيقيا مطربا مُعجبا، يعكس حماسة الشاعر واندفاعه النّفسيّ وإعجابهُ الشّديدَ بفرسهِ الأسطوريّ، وهو توازٍ نحويّ، أحاديّ، أفقيّ، نسبيّ غير تامّ، ولعل عدم إتمامه عائدٌ إلى الرّغبةِ في الحفاظ على وحدة القافية والرويّ.
إضافة إلى التّوازي نجد التَّكرار بأنواعه المختلفة؛ كتَكرار صائِتِ "الضّمة وواو المدّ"، وتَكرار بعض الحروف مثل (اللاّم والسّين)، إضافة إلى تَكرار ألفاظ مثل "الكف، زانت، العمل"، كما نجد التَّكرار الصَّرفي في البيت التّاسع: "فُعْلٌ فواعِله×3" الذي خلقَ ما يُعرَف بالتّرصيع، وقد أغنى هذا التّكرار الجانب الصّوتيّ لما نتج عنه من تَردادٍ لنفس الأصوات والصِّيَغ، وهو ما أغنى النّص داخلياً وأعطاه تنوُّعاً إيقاعياً جعله أكثر فاعليةً وتأثيراً.
-نلاحظ من تحليلنا للبنية الإيقاعيَّة للقصيدة أنّ شاعرنا متأثِّر حدَّ النُّخاع بالأقدمين ويحذُو حذْوهم ويقعُ حافرهُ على حافرِهم، ويتجلَّى ذلك في اعتماده بحراً من بحور الخليل، وقافية مطّردة ورويًّا موحَّدا، إضافة إلى ظاهرتيْ التّوازي والتّصريع، وهي ظواهر إيقاعية حَفلت بها القصيدة القديمة، ونخلُص من هذا كلّه إلى أنَّ الشَّاعر حافظَ على البنية الإيقاعية التراثية.
وتعدُّ الصُّور الشِّعرية روحَ الشِّعر وأُسَّهُ وعموده الفِقريَّ، إذ تزيد الكلام بهاءً ومائيةً، والدلالةَ عمقا، والإيحاء امتدادا، لهذا حرص شاعرُنا على توظيفها التّوظيفَ الذي يخدُم الدلالة، حيث نجد الاستعارة في قوله "قضاء خطَّه الأزلُ"، إذ شبّه الأزل بإنسان (أو قلمٍ) يكتب ويخُطّ، فحذَف المستعار منه (الإنسان) ورمَز إليه بالقَرينة "خطّه" على سبيل الاستعارة المكنية نظراً لحذف المستعار منه والتَّبعية لوقوعها في الفعل، ولا يخْفى على المُتلقي ما أدّته هذه الاستعارة من وظيفة تزيينيةٍ تمثَّلت في إضفاء الرَّونق والبهاء والمائية، ووظيفة تعبيريَّة تصويريَّة كشفت عن مرارة الشاعر ورضاه بما خطَّته يدُ الأقدار، وتشخيص القدر وتصويره في شكل إنسان يتحرك ويتنفس ويخطّ ويكتُب، ونجد استعارة أخرى في قوله أيضاً "يصحبُني ماضي الغِرار"، إذ شبه "ماضي الغِرار" وهو السَّيف القاطع بالصّاحب والصّديق الوفيّ، وهي استعارة مكنية حُذف فيها المستعار منه وتبعية وقعت في الفعل، عبَّرت عن حجم الاتّحاد والألفة والإخلاصِ بين الشاعر وسيفه الذي يجدُه معه كلَّما اشتد الأمر واستفحل الوهلُ وحميَ الوطيسُ، ونقفُ على استعارة أخرى في قوله "والجوّ بالباتراتِ البِيضِ مشْتعلُ" مسندا الاشتعال لجو المعركة وهو إنَّما يكون للنّار دلالة على كونِها حامية الوطيس، تصيبُ بلهيبها كل من يقترب منها ويرمي بنفسه فيها، وهي استعارة مكنيَّة حذف فيها المستعار منه، ولم يكتفِ الشاعر بالاستعارة بل وظف أيضاً الكناية في قوله "لم يعلق به بلَلُ"، والبَلَلُ كناية عن الدم، وفي قوله " وأطلعتني على أسرارها الكلل (ثياب تلبسها النساء)" كناية عن النّساء، وذلك لارتباط الكِلل بهنَّ وهي كناية عن موصوف.
وتكمن جمالية الكناية في المراوغة الدلالية وتقديم المعنى بطريقة فيها مناورة وخداع واستفزاز للمتلقي الذي يكون مضطرا إلى البحث عن اللفظ المقصود، إضافة إلى التكثيف والإيجاز، كما نجد المجاز المرسل في قوله "تنمو السوامُّ بها (السَّحب)" وعلاقته السَّببية،، فالسّوامُّ لا تنْمو بالسَّحاب بل بِمطرٍ يصيب الأرض فتُنبِتُ نباتاً ترعاه المواشي فتنمو به، وهكذا ذَكَر السَّبب (السَّحاب) وأراد المسَبَّب (النبات)، ونجد مجازاً مرسلاً آخرَ في قوله" إن أنزل بهم نزلوا" وعلاقته المحلية، إذ الأصل "أنزِل بأرضهم أو دارهم" لكن عبر بالحالِّ (الرفاق) وأراد المحلَّ ( الأرض)، وتكمن جمالية المجاز المرسل في إيجازه وتكثيفه للمعنى وتأديته بطريقة فيها الكثير من المخاتلَة والمراوغة الدلالية، التي يصير معها المتلقي باحثاً عن المعنى المراد من خلال الربط المنطقي بين قرائن الأحوال واستنطاق السياق حتى يظفر – في رحلة جمالية محفوفة بالمخاطر- بالصيد الجماليِّ المرجوِّ، ونجد أيضا التَّشبيه حاضرا بقوّةٍ ومُدليا بدلوه في قوله: "يمرُّ بالهام مرَّ البرق في عجَلٍ"، حيثُ شبَّه مرور السيف بالرؤوس قاطعاً إياها بمرور البرق، ووجه الشبه هو السّرعة الفائقة الخاطفةُ، وقد أدّى حذف الأداة دوراً في بيان هذه السّرعة، وتكمن وظيفة هذا التشبيه في تصوير مشهد المعركة وقطْع الرؤوس، وكذا تبيان حجم اشتداد المعركة، وفتك الشّاعر بالأعداء بلا رحمةٍ ولا هوادةٍ، ولا يخفى على القارئ ما أدَّتْه هذه الصُّور مجتمعةً من وظيفة تزيينيَّة، حيث أضفت على القصيدة بهاء وجمالية مرجُوَّةً، وأخرى تعبيريّة تمثَّلت في إغناء دلالة القصيدة، وثالثة إمتاعية تمثّلت فيما أحدثته من لذّة نفسية، هذا إضافة إلى سِمَة المبالغة التي رافقت معظم الصّور .
-إنّ النّاظر في الصّور الشّعرية الموظّفة، يرى أنّها لا تخرج كثيراً عن الصّور التي عهدناها لدى القدماء، حيثُ اعتمد الشّاعر على الصور النَّمَطيَّة من استعارة، ومجازٍ مُرسل، وتشبيه، وكناية، وعليه فهي صُور مستقاةٌ من الذّاكرة الشِّعرية، بيد أنّ ارتباطها بتجربة الشاعر يعطيها تميُّزاً وفَرادةً، ويمنحها خصوصيَّة تبتعد بها عن التّقليد الممسوخ والاستنساخ الآليّ.
وإذا انتقلنا ناحيةَ الأساليب، وجدنا الغلبة للأسلوب الخبريّ ومن نماذجه: (ردّ الصبا نزرق حوافره، يَمَّمتها برفاق، لي في من مضى مثل..)، ويعود ذلك إلى طبيعة القصيدة وغرضها والهدف منها؛ فالشاعر إنَّما يعبّر عن حالته النّفسية المتقلِّبة، ويفتخرُ بشجاعته، ويصفُ فرسه ويحكي عن رحلة الصَّيد، وهي أمور لا تتمّ إلا بالأسلوب الخبريّ المبنيّ على السّرد والإخبار والوصف، أما الأسلوب الإنشائي فقد كان حضوره محتشماً باهتاً يفرضُهُ السياقُ؛ حيثُ أتى في صيغة الأمر (اتبع هواك، دع ما يستراب به)، الذي خرج عن معناه الحقيقيّ ليفيدَ النُّصح والإرشاد.
عملَ الشَّاعر في قصيدته على التَّعبير عن حالته النّفسيَّة والفخر بفرسه وفروسيَّتِه، معتمداً في ذلك على الغُلُوِّ والمبالغة، قاصداً إلى تقديمِ نفسه في صُورة الفارسِ الذي لا يُشَقُّ له غبارٌ والبطلِ الذي لا يُقهرُ في ساحة الوغى، والحكيم الذي حنّكته التَّجاربُ وعرَكَه الدّهرُ ويفيدُ النَّاس من تجاربه، ووظَّف لأجل ذلك معْجما متنوِّعا ولغة عليها سِيماءُ الجزالة وثوب الفخامة، وصوراً ارتقت بالنّص في مدارِج الشِّعرية، وإيقاعاً غنياً متنوِّعاً متناغماً، ومما سبق ذكره ونشرُه نخلُصُ إلى أنَّ الشَّاعرَ يحتذِي القدماء ويسيرُ على خُطاهم، سواء في بناء القصيدة أو اللُّغة أو الصُّور أو الأغراض، ومن الشّعراء الذين قلَّدهم في قصيدته نذكر: امرؤ القيس في وصف الفرس، وعمرو بن كلثوم في الفخر، والمتنبي في الحكمة. نصل ختاماً إلى إثبات صحة الفرضية وانتماء النص إلى شعر إحياء النموذج، وعموماً نجح الشاعر في تمثيل هذا الاتجاه، حيث استطاع بموهبته وحنكته أن يبعث النموذج الشعري القديم، ورغم المحاكاة حافظ على شخصيته الشعرية، فلم يكن مجرد صدى للقدماء.
ردّ الصّبا بعدَ شيبِ اللّمّةِ الغزلُ
وراحَ بالجدّ ما يأتي به الهزَلُ
وعادَ ما كان مِنْ صَبْرٍ إلى جزَعٍ
بعْدَ الإِباءِ؛ وأيَّامُ الْفَـــتَى دُوَلُ
فَلَوْ قدرْتُ على شَيْءٍ همَمْتُ بِهِ
في الحُبِّ، لكنْ قضاءٌ خطَّهُ الأَزَلُ
ولِلْمَحَبَّةِ قبْلي سُنَّةٌ سَلَفتْ
في الذَّاهبينَ، ولي في مَنْ مضى مثلُ
فإِنْ تكُنْ نازَعتْني النَّفْسُ باطِلَها
وأَطْلَعتْنِي على أسْرارِها الكِلَلُ
فقَدْ أسِيرُ أمام القَومِ ضاحيةً
والجوُّ بالباتِراتِ البِيضِ مُشْتَعِلُ
بكلِّ أشْقرَ قد زانَتْ قوائمَه
حُجُولُه غيرَ يُمنى زانها العَطَلُ
كأنَّه خاض نهْر الصُّبحِ فانتبَذَتْ
يُمْناه، وانْبثَّ في أعطافه الطَّفَلُ
زُرْقٌ حوافرُه، سودٌ نواظرُه
خُضْرٌ جحافِله ُ، في خَلْقه ميَلُ
أُمْضي به الهَوْلَ مِقداما ويصْحَبُني
ماضي الغِرَارِ إذا ما استفحَلَ الوَهَلُ
يمُر بالهَامِ مرَّ البرْقِ في عجلٍ
وقْت الضِّرابِ، ولم يعْلقْ بهِ بلَلُ
ترى الرِّجَال وقوفا بعد فتْكَتِه
بِهِمْ، يُظَنُّون أحياءً وقد قُتِلوا
كأنَّه شُعلةٌ في الكفِّ قائمةٌ
تهفُو بها الرِّيح أحيانا، وتعتدلُ
يفُلُّ ما بقيتْ في الكفِّ قبضتُه
كُلَّ الجديدِ، ولم يثْأَر به فَللُ
بل رُبَّ ساريةٍ هطلاءَ دانيةٍ
تَنْمو السَّوامُّ بها، والنَّبتُ يَكتهِلُ
يمَّمْتها برفاقٍ إن دعوتُ بهم
لبُّوا سِراعاً، وإن أنزِلْ بهِمْ نزَلُوا
فما مضت ساعةٌ، أو بعضُ ثانيةٍ
إلا وللصَّيْدِ في ساحَاتنا نُزُلُ
فكان يوما قضينا فيه لذَّتنا
كما اشتهيْنا، فلا غشٌّ، ولا دغَلُ
هذا هو العيْش، لا لغوُ الحديث، ولا
ما يَستغِير به ذو الإِفْكَةِ النَّمِلُ
فاتْبَعْ هواك، ودعْ ما يُستراب به
فأكثرُ الناس إن جَرَّبْتَهم هملُ
واعرِفْ مواضِع ما تأتيه من عملٍ
فليْس في كلِّ حينٍ يَحْسُن العملُ
فالرَّيثُ يُحْمدُ في بعض الأمورِ، كما
في بعض حالاتِه يُسْتحْسَن العجلُ
هذا هو الأدبُ المأثورُ فارْضَ به
علْماً لنفسك فالأخلاقُ تنتقلُ
ديوان محمود سامي البارودي، شرح علي عبد المقصود عبد الرحيم. دار الجيل بيروت ط 1،1995. ص: 430 وما بعدها بتصرف.