الفضاء وأبعاده الجمالية

في فيلم "الكيت كات"

د. محمد فاتي


يوحي لنا عنوان فيلم الكيت كات (إخراج داود عبد السيد سنة 1991) وبعض المقاطع الحوارية؛ أننا أمام فيلم تقوم دلالته الأساسية على الفضاء، ذلك أن الكيت كات اسم لحي شعبي بالقاهرة مجاور لحي شعبي آخر يسمى امبابة. ويلعب المكان في فيلم الكيت كات -شأنه شأن الرواية الأصل (مالك الحزين لإبراهيم أصلان)- دوراً مهماً في بناء الاستراتيجية السينمائية، فهو يعد (لوحده) شخصية محركة وفاعلة، وليس فقط مجرد خلفية جامدة للأحداث والشخصيات، فالمكان يكتسب أهمية كبيرة في فيلم عبد السيد هذا.

 

ملخص الفيلم

الشيخ حسني (محمود عبد العزيز) رجل أعمى ولكنه يرفض الاعتراف بذلك أو حتى التأقلم مع وضعه هذا، يعيش في حارة شعبية، ويعامل معاملة المبصر من طرف أبناء حيه؛ لأنه معتاد على أن يثور على أي أحد يذكره بحقيقته المرة، ولا يفوت أي فرصة لإقناع نفسه أنه مبصر، كما حدث له مع الشيخ عبيد، الرجل الأعمى الذي يلتقيه صدفة الشيخ حسني ويحاول أن يقنعه بأنه مبصر، ولكي يحاول أن ينسى حالته المريرة هذه.

يصبح مدمناً على المخدرات لدرجة تجعله يبيع منزل والده مقابل حصص يومية من الحشيش من تاجر المخدرات: الهرم (نجاح الموجي)، ولدى الشيخ حسني ابن في ريعان شبابه يدعى: يوسف (شريف منير) الذي كان كثير الأحلام والطموحات، وأهمها السفر إلى الخارج من أجل تحقيق الذات وبناء المستقبل، ولكن حلمه هذا يرتطم بصخرة الواقع المرير المتمثل في بيع والده لمنزل جده، وهو الأمل الوحيد لسفر يوسف، لأنه كان يريد أن يبيع والده المنزل من أجل أن يغطي بثمنه نفقات سفره ومعيشته بالخارج، ومن خلال هذه الأحداث ينقلنا الفيلم إلى محورين أساسيين.
الأول: الشيخ حسني وعلاقته بمن حوله، ونظرته لعجزه وحياته والأشخاص المحيطين به.
الثاني: يوسف وحلمه بالسفر إلى الخارج، ومحاولة إقناع والده بضرورة بيع منزل جده من أجل السفر، واصطدامه مع الأب بسبب بيع هذا الأخير المنزل مقابل المخدرات.


التحقق البصري للفضاء:

 إن (الكيت كات) كفيلم أو مالك الحزين كرواية يعدان بمثابة سيمفونية بصرية عن المكان وعن البشر داخل هذا المكان، داخل تلك الحارات الضيقة، والتي تُحاصر الحركة وتطبق على الأنفاس، وبالتالي يكتسب الديكور أهمية كبيرة أيضاً. ولم يكن اعتباطاً عندما أهدى عبد السيد فيلمه هذا لصديقه الفنان إنسي أبو سيف. فقد نجح فنان الديكور أبو سيف في إبداع هندسة المناظر وبناء ديكور يصل إلى أعلى درجات الإيهام بالتماثل مع الواقع، وذلك من خلال وعي كامل وإدراك حقيقي لطبيعة المكان.

لقد كانت لمسات أبو سيف واضحة بالذات في شقة الشيخ حسني وشقة فاطمة، حيث كان الديكور يجسد بشكل ملحوظ ما يسمى بالوظيفة الدرامية للديكور والإكسسوار، فالجدران تحاصر ساكنيها وتدفعهم إلى الهرب والفكاك منها. كذلك الحجرة الفقيرة المهجورة التي يلتقي فيها يوسف وفاطمة. فقد عبرت هذه الحجرة، بقطع الأثاث المهشم الذي يعلوه التراب، عبرت بشكل بليغ عن تلك الفوضى وذلك العجز الجنسي والوضع النفسي المحبط الذي يتملك يوسف، خصوصاً عندما تصورهما الكاميرا من أعلى بين ركام الأثاث المهمل في لقطة ذكية ومعبرة لتبدو الحجرة الضيقة كما لو أنها واسعة عليهما، وذلك من تأثير الحالة النفسية المتفائلة.

ومن الطبيعي تحت ظل ديكور كهذا أن يكون مدير التصوير الفنان محسن أحمد قد استفاد كثيراً من تلك المناظر وديكوراتها، بل وساعدته -أيضاً- على تجسيد الحالات النفسية للشخصيات عن طريق توزيع الإضاءة، واستخدام زوايا للتصوير ساهمت في نقل مشاعر وأحاسيس شخصياته إلى المتفرج، وبالتالي ليس من الغريب أننا استمتعنا بكادرات جمالية إبداعية معبرة وقوية، ارتقت بمستوى الفيلم الفني والدرامي.

وقد تحقق الفضاء بصرياً في الفيلم على صورتين:

أـ فضاء مرتبط بالشخصيات:
إذ لا تكون حركة الشخصيات إلا داخلها، حيت تتجسد وتترابط مع هذه الفضاءات، غير أن الاهتمام به كان في مرتبة ثانوية بالمقارنة بالشخصيات، فلا يؤطر الفضاء إلا بحجم الشخصية، ويلعب هذا النوع دوراً مهماً في التعبير عن أحاسيس الشخصيات وحالتها النفسية (الحجرة المهجورة التي كان يلتقي فيها يوسف بفاطمة)، كما يشكل صورة مرئية عن أوضاعها الاجتماعية (منزل الشيخ حسني - منزل الأسطى حسن العليل..)، والثقافية والفكرية (مكتبة يوسف النجار)، والاقتصادية (المحل التجاري للمعلم صبحي - المقهى..)، ليتبين أن وظيفة هذه الأمكنة جاءت تكميلية لعنصر الشخصيات، معبرة عن هواجسها وأحلامها وحالاتها ورؤيتها للواقع ولتحولاته المستجدة، ويُبرز لنا داود عبد السيد عبر هذه الأمكنة عُنف آليات الانفتاح، ويكشف عن النظام الداخلي له ليس فقط كظاهرة اقتصادية، وإنما يوغل أيضاً داخل البشر لنفهم آليات علاقتهم بهذا المجتمع بصورة تقترب من سريالية موضوعية يفرضها كابوس فوق صدور هذا المجتمع.

ب ـ فضاء مستقل:
لم يخلو من بعض المركبات الوصفية التي تتوقف فيها الأحداث ليتم الاهتمام بالفضاء باعتباره مكوناً أساسياً للفيلم، ويتمثل هذا الاهتمام في المشهد الأول الذي يشكل مدخلاً للحكي، وفيه نرى الحي وهو مغلف بالظلام، وهذه بطبيعة الحال صورة تحمل دلالات إيحائية وتعبيرية عن الوضع المزري الذي يعيشه سكان هذا الحي، الوضع المظلم بالمآسي والأحزان والفساد والفقر، لكن هذا الظلام سرعان ما سينقشع بظهور نور الدكان الذي ترافق مع اجتماع الشيخ حسني وأهل الحارة في مقام فني هزلي، يديره حسني بأوتار ونغمات عوده وحكاياه الساخرة التي تملأ الجو ضحكاً، وتخلق المتعة في نفسية مستمعيها. إذا كيف تم المزج بين هذين المشهدين المتناقضين؟ وما هي دلالة هذا الترابط المشهدي الذي يلتقي فيه النور بالظلام؟

الجواب بطبيعة الحال سيتشكل من خلال الرؤية الشمولية والتحليل العام لسياق الفيلم، ومن خلال استيعاب الرسالة التي يريد المخرج إيصالها لنا، والتي تتمثل -كما أشرنا سابقاً- في كون أن الوسيلة الوحيدة للتغلب على مآسي الحياة وأحزانها هي حب الحياة والاستمتاع بلحظاتها ومباهجها؛ أي ترك ظلامها بمعانقة نورها، وهذا ما جسده المخرج بفنية عالية في هذا المقطع الافتتاحي للفيلم.

كذلك يتمظهر هذا الفضاء (المستقل) في مشاهد أخرى تتضمن لقطات عامة سريعة لمجموعة من الأزقة ترتبط بتقنية الربط المتسلسل. وهي أزقة ترصد الأجواء الحميمية التي تجمع بين سكان الحارة، والتفاعل المستمر بينهم في إطار علاقات على الرغم من اختلاف توجهاتها، إلا أنها ترسم صورة لهذا الحي الشعبي، الذي تتلاقى فيه المتناقضات الاجتماعية والثقافية والفكرية والطبقية.. لتشكل لحمة متجانسة قوامها روح الانتماء والارتباط بالمكان.

التحقق السطحي للفضاء:

من خلال تنوع عناصر الفضاء وتوزيعها في الفيلم، وتبعاً لمجال حركات الشخصيات أو تواجدها يمكن أن نركبه في ثلاثة أصناف:
فضاء الداخل: تعددت الأمكنة الداخلية بتعدد محطات الحكي، ويمكن جردها في القائمة الآتية:
مرآب "(كراج) ـ بيت الشيخ حسني ـ بيت أسرة فاطمة ـ قاعة السينما ـ بيت الهرم ـ بيت الأسطى حسن ـ دكان فرارجي ـ محل الحلاقة ـ مركز الشرطة ـ السجن ـ البيت المهجور ـ بيت التأبين ـ الحانة".
فضاء الخارج: تنوعت الأمكنة في الخارج أيضاً كالآتي:
(ساحات الحي ـ الأزقة ـ الشاطئ ـ الضريح ـ خارج المقهى..)
فضاء العتبة: بين الداخل والخارج أمكنة رابطة وهي نوعان:
ــ الرابطة بين البيوت وبين الأزقة وتتمثل في الأبواب، وقد وظفت الأبواب بشكل ملفت للنظر بين الداخل وداخل الداخل (بيت فاطمة)، وبين الداخل والخارج.
ــ الرابطة بين الحي كداخل، وبين خارج الحي (الطريق السيارـ الشاطئ) باعتبارهما انفتاحاً على الأمكنة الخارجية.

هكذا يتبين أن الفضاء شكل عنصراً جمالياً تعبيرياً في الفيلم، حيث وظفه المخرج ليخلق انسجاماً وتلاحماً بين شخصياته وفضائها، هذا التلاحم الذي تحقق عبر تنوع الفضاءات، وعبر ارتباطها بالأجواء الداخلية والنفسية لسكان الحارة. فالفيلم هو سمفونية سحرية من الفضاءات الشعبية، التي ارتبط بها المجتمع المصري ارتباطاً عميقاً بروحه وكيانه ومشاعره. فرغم مآسيها وأمراضها الاجتماعية ورغم تفاوتاتها الطبقية وتهميشها الحضاري، تبقى الحارة الشعبية فضاء يشد الإنسان إليه، وتجعله متعلقاً بمعالمها ومواقعها، منجذباً لسلوك أناسها وعادات أفرادها، هائماً بتركيبتها الاجتماعية القائمة على التضامن والتآزر، الحب والتعاطف، البهجة والسعادة، الصدق والوفاء.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها