قديماً قال حكيمُ الشعر العربي، أبو الطيب المتنبي عن الكتب:
أعَّزُ مكانٍ في الدُّنا سَرجُ سابحٍ .. وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
لقد أدت مظاهر ثورة المعلومات، ووسائل الاتصال في العصر الحديث؛ إلى تراجع دور القراءة -وخاصة قراءة الكتب الورقية- وتتناول الكاتبة الإنجليزية (جيسيكا جونسون) في هذا المقال، الجوانب المختلفة لمتعة القراءة وجاذبيتها، والتأثيرات النفسية والوجدانية للقراءة، ودورها في إثراء الوعي والوجدان، وتعيد التذكير بمتعة قراءة الكتب الورقية، وأهميتها في تعميق الفهم للأفكار. كما تقدم عدة نصائح لتكوين الصداقة مع الكتب، وتحقيق المتعة والاستفادة القصوى من قراءتها.
القراءة في عصر الثورة الرقمية، بين مزاياها وعيوبها:
لقد جعلت الوسائط الرقمية منا جميعاً قراءً سريعين. ومع ذلك، فعندما تغمر نفسكَ في كتابٍ ورقيٍ جيد؛ يمكن أن يجعلك ذلك أكثر صحة، وأكثر سعادة. في ديسمبر من عام 2014، حدد كبار الأكاديميين في الولايات المتحدة طريقة جديدة للقراءة "طريقة غير خطية"؛ وهي طريقة مختلفة، عن الطريقة المعتادة التي نقرأ بها. فعندما ننغمس في قراءة كتاب، فإننا نحفز المسارات العصبية للدماغ، من خلال دمج تخيلات القصة التي أمامنا، مع ذكرياتنا وتجاربنا. ومع ذلك، فنظراً لأن أدمغتنا أصبحت أكثر اعتياداً على نظام القراءة السريعة عبر الإنترنت، والمعتمدة على "القراءة التمريرية" بين الصفحات، والوسائط التفاعلية، والنصوص المرتبطة تشعبياً؛ فقد بدأنا في التعود على التصفح السريع، والقفز بين الأسطر، والبحث عن اختصارات نتيجة لذلك؛ وهو ما يجعلنا أقل ميلاً للوصول إلى الصفحة الأخيرة في الكتاب. وتشير الأدلة، إلى أننا نفتقد بعض الفوائد الصحية الخطيرة للقراءة، من خلال المصادر الأساسية؛ أي الكتب الورقية.
الفوائد الصحية الجمة للقراءة الورقية:
في عام 2009، وجد باحثون في جامعة (ساسكس) البريطانية؛ أن القراءة الورقية، يمكن أن تقلل مستويات التوتر بمقدار الثلثين، عن القراءة الرقمية. وبعد ست دقائق فقط من القراءة الصامتة، في كتابٍ ورقي، وجد الباحثون أن معدل ضربات القلب لدى الأشخاص الذين يقرؤون بهذا الشكل، يكون أبطأ، وأنهم يحملون قدراً أقل من التوتر في عضلاتهم. واستنتج عالم النفس العصبي المعرفي، الدكتور (ديفيد لويس)، أن "غرق القارئ بين صفحات الكتاب، هو أقصى درجات الاسترخاء". ويوافقه في الرأى الدكتور (جيمس هاريس)، والذي يعمل في المؤسسة البريطانية للصحة العقلية؛ حيث يقول: "من المهم أن تمنح نفسك قدراً من الراحة والاسترخاء، من خلال الاستمتاع بقراءة كتاب. إن قراءة كتاب جيد، بمثابة طريقة رائعة، لتخصيص بعض الوقت لنفسك، للابتعاد مؤقتاً عن مشتتات ومخاوف الحياة الحديثة".
الكتب الورقية.. وعلاقتها الحميمية بقرائها:
في مجتمعنا الذي يعاني من الأخبار المشوهة، وساعات العمل المرهقة، والأجهزة الإلكترونية الصاخبة؛ هل يمكن أن تكون القراءة هي البلسم الشافي لأرواحنا التي أرهقتها التكنولوجيا؟ هناك علاقة حميمية ما، تنشأ بيننا وبين الكتب الورقية؛ فهي -بحكم طريقة صنعها- تكون قابلة للمس، والنقر عليها برفق ومحبة، وإمساكها وتقليب صفحاتها؛ وحتى الكتب العتيقة، ذات الأغلفة القديمة البالية، تكون لها جاذبية خاصة. والكتب تنتقل بين الأصدقاء والمحبين، ولا يعود إلا القليل منها!
وتشير أرقام توزيع الكتب الورقية، إلى مؤشرات إيجابية جداً، على عودة مكانة الكتاب الورقي. كما أن مبيعات الكتب المطبوعة للأطفال آخذة في الارتفاع.
القراءة كعلاج نفسي:
تستخدم القراءة في بعض الأحيان، كوسيلة لتحقيق الصحة العقلية. وتؤكد مثلاً (ميجان رودلسدن)، التي تعمل في المؤسسة البريطانية للصحة العقلية؛ إلى أنه عندما تزايدت حالات القلق لديها، قبل بضع سنوات؛ بدأت في استخدام شغفها بالقراءة كعلاج نفسي؛ وهو ما مكَّنها من الهروب من الأفكار السلبية المتصاعدة، من خلال العوالم الساحرة للمؤلفين، ستيفن كينج، وكيت أتكينسون، وجي كيه رولينج. وتقول (ميجان): "عند قراءة (هاري بوتر) مثلاً، من المستحيل أن يكون عقلك في أي مكان آخر غير مدرسة (هوجوارتس)، لإعداد السحرة الشباب. أنغمس في أحداث الرواية بالكامل؛ وبهذه الطريقة، ينتعش وعيي الذهني، وأستعيد هدوئي وصفائي الذهني".
على مائدة القراءة المنزلية:
فلنحاول جميعاً تنمية مكتباتنا المنزلية الخاصة، وتجربة متعة القراءة بمفردنا، أو في ظل الهدوء اللطيف للعائلة والأصدقاء؟ وللحصول على مواد قراءة ملهمة، يمكننا أن نختار الكتب التي تناسب قراءتها الأجواء المختلفة؛ فمثلاً تبدو مجموعة من القصص الخيالية المعاصرة، مناسبة للقراءة، عند الاستلقاء بجوار حمام السباحة. ولكن ماذا عن التعمق في بعض الكلاسيكيات المفعمة بأجواء الشتاء؟ تبدو مجموعة من القصص الخيالية المعاصرة، مناسبة عند الاستلقاء بجوار حمام السباحة؛ ولكن ماذا عن التعمق في بعض الكلاسيكيات المليئة بأجواء الشتاء؟ فعندما نقرأ مثلاً الروايات الجيدة الحبكة، للأديب الإنجليزي الخالد (تشارلز ديكنز)؛ فسوف تنقلنا بسرعة إلى روح عيد الميلاد، في حين أن المختارات الشتوية المغلفة بالقماش، من القصص الخيالية المصورة، والمندرجة ضمن سلسلة (The Folio Society)؛ تعتبر من العناوين التي ستعتز بها، وتواجه صعوبة في السماح بإقراضها؛ فهي مليئة بالقصائد والمقتطفات الأدبية.
القراءة الواعية:
إن الأسلوب الواعي للقراءة يتطلب منا أن نترك انشغالاتنا الذهنية. وباختيارنا الاستلقاء على مقعدنا الوثير المفضل، والبدء في قراءة رواية مثيرة للاهتمام، فإننا لا نكون خاملين، أو غير مكترثين بما نقرأ؛ وبدلاً من ذلك، فإننا نختار أن نكون حاضرين ذهنياً وقت القراءة، ومنغمسين في المشهد الأدبي الموازي لحياتنا، من خلال عيون بطل الرواية، أو المؤلف، أو حتى كاتب الطبخ المفضل لدينا.
ووفقاً للطبيب النفسي الاستشاري، والروائي البريطاني، الدكتور (تادي تومسون)؛ فإن القراءة الواعية تتطلب أيضاً قدراً من الإلتزام بالقراءة، ووضعها في جدول أعمالك. ويقول (د. تومسون): "يخطط الناس لقضاء إجازاتهم، أو الاستمتاع بعطلاتهم أمام شاشة التلفاز، أوقضاء أمسياتهم الصاخبة؛ ولكن من الغريب ألا يخطط أحد للقراءة؛ فيجب أن نخطط لما نريد قراءته، فسيساعد ذلك في تهيئة عقولنا لاستقبال المعلومات التي سنقرؤها، وسنرى أن القراءة ليست عملاً روتينياً. سيكون نشاط القراءة أكثر متعة، وسينعكس علينا إيجابياً من خلال بعض الأشياء، مثل زيادة التركيز، وزيادة وتحسين محصولنا، والمزيد من رهافة الإحساس؛ وهذا على سبيل المثال لا الحصر. اقرأ شيئاً في اليوم، حتى ولو نصف ساعة تقضيها في سريرك مع كتاب، قبل النوم، أو استثمر الوقت الطويل الذي تقضيه في رحلاتك بالسيارة أو الحافلة، في القراءة، أو حتى تصَّفح كتاباً.
نصائح من أجل القراءة الواعية:
يقترح عاشق الكتب والأكاديمي مارتين إيفانز طرقًا للتركيز في القراءة:
◅ قم بتحويل هاتفك إلى الوضع الصامت، أو اتركه في غرفة مختلفة.
◅ لا تتعجل في تشكيل أفكارك، قبل أن تصل إلى نهاية الجملة.
◅ للمساعدة على تذكر ما قرأته، شارك في النقاش المستمر حول ما قرأته؛ وتعتبر نوادي الكتاب رائعة بالنسبة لهذا الغرض.
◅ اقرأ في وجود قاموس، وقلم رصاص في متناول اليد، وابحث عن الكلمات التي لست متأكداً منها، ثم ضع خطاً تحت الجمل التي تلفت انتباهك.
◅ إذا لم يكن الكتاب مناسباً لميولك، خذ قسطاً من الراحة، ثم عُدْ للقراءة مرة أخرى.
◅ قم بالتبديل بين أنواع الكتب قدر الإمكان، وحافظ على تنوع مواد القراءة الخاصة بك.
◅ اسمح لنفسك بساعة أو ساعتين، لتهيمَ بين رفوف مكتبة جيدة.
المصدر ◂ مجلة The Simple Things - عدد نوفمبر2017.