بقلب مدينة فاس المغربية، وغير بعيد عن ساحة باب أبي الجنود التاريخية، يمتد "جنان السبيل" على مساحة قاربت ثمانية هكتارات. المنتزه الذي أحدثه السلطان عبد الله العلوي خلال القرن 18، وخصصه للأمراء والأميرات، قبل أن يفتح في وجه العموم سنة 1917.
تحيط بالحديقة أسوار عالية، تناسب عراقة المدينة، وتحمي الفضاء الأخضر الذي يضم أكثر من ألف نوع من المغروسات والنباتات العطرية، والتي جعلت منه روضاً في غاية الجمال، زاده رونقاً القناطر الصغيرة التي أقيمت على وادي الجواهر الذي يعبره، والأحواض المائية التي جعلت مسبحاً لأصناف الأسماك وللطيور المائية كالإوز والبط.
إن زوار "جنان السبيل" كثر، ومن كل الفئات العمرية، ذلك أن المكان ملتقى العائلات الفاسية، وزوار المدينة من مغاربة وأجانب. حيث تستمر زياراتهم على مدار الأسبوع، ودون انقطاع، وتعظم خلال نهاية الأسبوع، وأيام العطل والأعياد الوطنية والدينية. "جنان السبيل" هو أيضاً ملتقى العشاق، وبه وحوله نظم الشعراء والزجالون الكثير من قصائد المدح والوصف، وتغنى به المطربون.
"جنان السبيل" فردوس فاس، بنباتات نادرة منها: "السكاس"، و"الكاميروس"، و"قصب الخيزران"، وأشجار الليمون والبرتقال والرمان، وأشجار النخيل والصنوبر السامق والأوكالبتوس. وهي الأشجار التي تحمي بظلالها الوارفة، الزهور والورود والأشجار الصغيرة، ذات الأصول الإفريقية والأوروبية والآسيوية.
بالحديقة سبعة أبواب ضخمة حديدية مزركشة؛ تمكن الساكنة من العبور بسهولة من المدينة القديمة إلى المدينة العصرية أو العكس، هذا الأمر كان سبباً في إطلاق اسم "السبيل" عليها؛ أي الممر أو الطريق.
"جنان السبيل" فضاء إيكولوجي صامد على مر السنوات، يحقق الهدوء للزوار لما يضمنه من مرافق موازية ومنها: مسجد نسجت جدرانه بقصب الخيزران، ومراحيض عمومية قلّما نجدها في الحدائق العمومية الأخرى. هذا الفضاء العريق يذكرنا بحدائق الأندلس المفقودة لنباتاته المتنوعة والتي لا نجدها إلا في الصين والهند.
لقد خضع المنتجع الطبيعي في عهد الملك محمد السادس لإصلاحات جذرية، أشرفت عليها مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة، واهتمت بترميم الأحواض المائية والممرات والنافورات والسقايات، فضلا عن إحداث نافورة وناعورة للزينة على أحد المجاري المائية.
وللحفاظ على رونق المنتزه؛ فقد أوكلت الحراسة والبستنة لعمال قارب عددهم الأربعين فرداً، بالإضافة لطاقم إداري ومساعديه. يرابطون الليل بالنهار للحفاظ على هذه البقعة الإيكولوجية، والرئة التي تتنفس بها مدينة فاس على مر العصور. ويزيدهم حماساً حرص السلطات المغربية على التوجه البيئي، وإيمانها بأن "جنان السبيل" يربط المدينة ومعه المغرب بالفردوس الأندلسي المفقود.
إن انفتاح مدينة فاس على التراث الفني والثقافي العالميين جعل الحديقة تحتضن مجموعة من التظاهرات الثقافية والفنية منها: حفلات الموسيقى الأندلسية، ومهرجان فن الملحون، ومهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة الذي يقام سنوياً. وأنشطة فنية أخرى متنوعة، هذه الأنشطة أعطت إشعاعاً للمدينة وللتظاهرات زاد من رونقها هذا الفضاء الطبيعي الخلاب.
حسب بعض المصادر التاريخية؛ فإن إنشاء "جنان السبيل" يعود إلى العصر المريني، وأن الحديقة كانت تسمى "بستان الأميرة آمنة المرينية" إلا أنها تعرضت للإهمال، إلى أن لاقت عناية واهتمام السلطان عبد الله بن إسماعيل، الذي حولها لحديقة خاصة بحاشيته ونسائه. أما في عهد السلطان مولاي الحسن فقد ارتبطت فاس الجديدة بالمدينة القديمة من خلال أسوار عالية مكسوة بالزجاج لأسباب أمنية، ولحماية حدائق بوجلود من أعين المتطفلين. كما تم ربط القصر بهذه الحدائق المغلقة عبر ممر تحت أرضي، وهو الممر الذي أفضى لاحقاً إلى قصر البطحاء. وفي عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب استحوذ المقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي على الحديقة والقصر، وفي نفس الحقبة وتحت إشراف أول رئيس للخدمات البلدية لفاس النقيب ميليير تقرر حجز حديقة بوجلود لإنشاء حديقة عامة على مساحة سبعة هكتارات ونصف عام 1917.
لقد ساهم "جنان السبيل" في الترويج لمدينة فاس على مر السنين، وعمل على الإشعاع المتواصل لهذه المدينة التي تعبق بالأريج التاريخي. وإن ساهم إيكولوجياً.. فاللمسة الحضارية والفنية الثقافية حاضرة بجنباته، والانفتاح المغربي بارز من خلال التلاقح بين مجموعة من الحضارات داخل هذا الفضاء الماتع، ومن خلال المغروسات والنباتات العالمية التي وجدت متنفسها ومنبتها بتربة مغربية متشبعة بروح التعايش.