إذا كان لفظ (الانزياح) مشتقّاً في اللغة العربيّة من المصدر (زيح)، الذي يعني فعله (زاحَ) -ومطاوعه انزاح- ذهبَ وتباعدَ1؛ فإنَّ هذه المادّة المعجميّة تُمثّل المقابل الاصطلاحيّ لمصطلح (E'cart) الفرنسيّ الأصل2، العائد إلى الشاعر الفرنسي فاليري P.Valery (1871 - 1945)، والذي وظَّفَهُ بعد ذلكَ النّاقد الفرنسي جان كوهن J.Cohen في كتابه (بنية اللغة الشعريّة) الصادر عن دار فلاماريون 1966 في إطار نظريّة بنيويّة تُعدّ أكمل صياغة لسانيّة - بلاغيّة له3.
وقد حاول عبرها تطبيق منهج عملي - إحصائي على لغة الشعر، وذلك بغية التوصُّل إلى اكتشاف كنهها، والقبض، إذا كان ذلك ممكناً، على تلك المواصفات السحريّة التي تجعل من نصّ ما نصّاً شعرياً4.
ولعلّ لوثوقنا بالانزياح بوصفهِ مقابلاً اصطلاحيّاً مقبولاً أسباباً مُختلفة، منها ما هو مرتبط بالاستخدامات الموجودة في تراثنا القديم (البلاغي - النقدي)، ومنها ما هو مرتبط بالمصطلحات المتداولة في نقدنا العربي الحديث.
وفي هذا الإطار قام أحمد محمد ويس بعملية سبر واسعة لعدد كبير من الاستخدامات التراثيّة التي تحمل جانباً من مفهوم الانزياح، ومنها الانحراف والتحريف والاختراع والابتكار والتغيير والخروج واللحن5، لكنّنا نعتقد أن في تلك الاستخدامات الكثير ممّا يُؤخذ عليها، ويجعلنا ننأى بها عن هذا المصطلح؛ والقول بغير ذلك هو، في رأينا، من باب تحميل تراثنا -على عمقه وأهميته- ما لا يحتمل.
ومن هذهِ المآخذ أنَّ بعض تلك الاستخدامات هي صيغ لغويّة لا يمكن اعتمادها اصطلاحيّاً، ومن ذلك مثلاً استخدام ابن سينا لصيغة الفعل الماضي المبني للمجهول (حُرِّف) في وصف الانزياح، كما أنَّ عدداً منها يحمل في دلالاته حكم قيمة لا يمتّ إلى الفكر النّقدي بصلة، فضلاً عن كون أغلبها يُصنف في باب الاستخدام اللّغوي الشارح، من دون أن يرتقي إلى مستوى الاستخدام الاصطلاحيّ الذي يوصف آليّة معيّنة لحدوث مفهوم، والأهمُّ من ذلك كلّه أنّ جميع تلك الاستخدامات ليست ذات دلالات مفهوميّة قادرة على الإحاطة بهذا المصطلح؛ كأنْ يُختزَل مفهوم الانزياح بالغايات التزيينيّة مثلاً، أو يُوظَّف للدلالة على أحد الانزياحات الشّكلية، أو أحد الانزياحات المضمونيّة.
وإذا توقفنا عند أشهر تلكَ المُصطلحات في تراثنا، وأقربها إلى الانزياح؛ وهو مصطلح (العُدول)، فقد بدأ أحمد محمد ويس مناقشته لدلالات هذا المصطلح6 بالقول: "ربّما كان مصطلح (العُدول) هو أقوى المصطلحات القديمة تعبيراً عن مفهوم الانزياح"7، لكنَّهُ يُفضِّلَ عليه مصطلح الانزياح8. وهو ما يؤكّده في بحثٍ له بعنوان "الانزياح وتعدّد المصطلح"، مُشيراً إلى أن مصطلح العُدول قد ورد في تراثنا البلاغي في سياقات غير بلاغيّة أو فنيّة9، مُنهياً استعراضه لاستعمالات هذا المصطلح في التراث القديم بتحذير آخر يرى فيه أنَّ تلك الاستخدامات القديمة لا تخلو من بعض اللّبس10.
وعلى الرغم من استخدام بعض الباحثين لهذا المصطلح في النَّقد العربيّ الحديث11، غير أنَّنا نتبنّى من جهتنا موقف نعيم اليافي بخصوص هذهِ المسألة، حيث يقول: "ومن المعروف أنّ النقد العربيّ القديم استعمل مصطلح العدول...، وقد رغبنا عنه لأنَّه لا يحمل ما يحمل الانزياح من فضاء دلالي أبعد وأوسع، إلا إذا ضمَّناه دلالته، وحمَّلناه ما يحتمل وما لا يحتمل"12.
وفي استعراض بعض الاستخدامات الاصطلاحيّة التي تشير إلى مفهوم الانزياح في النّقد العربي الحديث، نجد أنفسنا في مواجهة مباشرة مع إشكاليّة الترجمة على ما تنطوي عليه من فوضى والتباس.
وأوّل ما نلاحظه في هذا السّياق أن المقابل الإنكليزي لمصطلح (E'cart) هو المصطلح (Deviation) الموجود أيضاً في اللغة الفرنسيّة. وبخصوص هذه المسألة يرى ويس في كتابه "الانزياح في منظور الدّراسات الأسلوبيّة" أنَّ "ما يغلب على هؤلاء الذين استعملوا الانزياح هو اعتمادهم ثقافة فرنسيّة: استقاءً أو ترجمةً، على حين مال إلى (الانحراف) في الغالب أولئك الذين غلبت عليهم المصادر الإنجليزيّة، فهذه لا تحتوي إلا كلمة Deviation، وهيَ كلمة تناسبها كلمة (الانحراف)، على حين أنّنا وجدنا E'cart يناسبها (الانزياح)، وهي كلمة فرنسيّة غير موجودة في الإنجليزيّة"13.
وعلى الرّغم من اختياره مصطلح (الانزياح) عندما يفاضل بين المصطلحين14، يعود ليقول: "ليس ثمَّة حرج في أن يكون عند النّقاد مصطلحان يتناوبان فيما بينهما مفهوماً ما. وهو ما يتأكَّد إذا ما كان هذا المفهوم يحمل في طيّاته إشكاليَّةً ما، من مثل مفهوم الانزياح"15. لكنّ المسألة لا تنتهي عند هذا الحد، فهو يحصي ما لا يقلّ عن أربعين مُصطلحاً مُستخدماً في النَّقد العربيّ الحديث16، تفيد مفهوم الانزياح، أو تتقاطع معه جزئيّاً أو كلّيّاً، مثل التَّجاوُز والمُخالَفة والانتهاك والتَّحريف والإزاحة والانكسار والمُفارَقة والاختلاف والتَّغريب وفجوة التَّوتُّر، ويعرضُ عدداً من تلكَ الاستخدامات، ويناقشُ بعضها أيضاً17.
وإذا كنّا نقدِّرُ له هذا الجهد، وتلكَ المناقشات، لكنّنا نأخذ عليه الهِنَة التي وقعَ فيها بمناقشتهِ لمُصطلحي (الانتهاك والخرق) بناءً على معايير أخلاقيّة أكثر منها نقديّة أو فنيّة، وذلكَ حين يُجرِي الرّأي الآتي عليهما قائلاً: "المبدع الحقّ لا يمكن أن يحقّق فنّه من وراء انتهاكه للمُحرَّم والمُقدَّس، لأنَّ مثل هذا يحرف الفن عن مجال الإمتاع إلى غاية الإيذاء بعينه. وليس ثمّة اتّفاق البتّة بين فنّ وإيذاء، فإن اختار الفنّان انتهاك المُحرَّم فهو بالضرورة قد اختار النّأي بنفسه عن الفنّ"18.
ولعلَّ ما يثير الدّهشة في سياق إحصائهِ تلكَ الاستخدامات الاصطلاحيّة، يكمنُ في وجود حوالي ثلاثة وعشرين استعمالاً أو ترجمة غير (الانزياح) لمصطلح (E'cart) نفسه19؛ ومع ذلكَ فهو يؤكّد أنّ أغلب الباحثين قد استقرّوا على ترجمته بالانزياح20.
وهكذا، فإنّنا إذ نوافق ويس على انتقاده للفوضى الاصطلاحيّة القائمة على السّاحة النَّقدية العربية من جهة أولى21، لكنَّنا نؤكّد من جهة ثانية اختيارنا مصطلح (الانزياح) لأسبابٍ يتقاطعُ أغلبها مع ما ذكرناه من قبل حول مآخذ الاستخدامات التراثيّة المقابلة لهذا المصطلح.
ومن هذهِ الأسباب أنَّ عدداً كبيراً من الاستخدامات الشائعة في النَّقد العربي الحديث تُحيل على أحكام قيمة، تتداخلُ أحياناً مع المعايير الأخلاقيّة، وهو الأمر الذي يُسقط الصِّفة الوصفيّة المُجرّدة التي ينبغي أن تُكوِّن قوام المصطلح، وهذا ما يؤكّده اليافي بقوله: "وقد آثرنا استخدام الانزياح Ecart ليسَ لأنَّهُ الأكثر شيوعاً ودوراناً على الألسنة، وإنّما لأنَّهُ بخلاف سواه يحمل دلالة توصيفيّة لا تمتُّ إلى القيمة، ولا سيما الأخلاقيّة منها بصلة"22.
كما أنّ عدداً كبيراً من تلكَ الاستعمالات يُمكِنُ تصنيفهُ في باب الاستخدامات اللُّغويّة الشارحة للمفهوم أو لجانب منه؛ أي من دون أن ترتقي إلى مستوى الاستخدام الاصطلاحي المضبوط. ونجدُ، فضلاً عن ذلكَ، أنَّ بعض تلكَ الاستخدامات يُشير إلى سياقات غير نقديّة؛ أو يتداخل مع حقول معرفيّة أخرى، كالطّب أو علم النّفس23. والأهمُّ من ذلكَ كلّه، هو أنَّ أغلب تلكَ الاستخدامات ليسَ ذا دلالات مفهوميّة قادرة على الإحاطة بهذا المصطلح.
ولمّا كانت الأسباب السّابقة تعضدُ اختيارنا لمصطلح الانزياح، وذلكَ على مبدأ أنَّ الضّد يُظهر حسنه الضّد؛ فإنّ هذا يدفعنا في المنحى نفسه إلى اختتام هذه القضيّة بالسَّبب الصَّوتي الذي ساقهُ ويس في سياق تفضيلهِ هذا المصطلح، إذ يقول: "إذا صحَّ أنّ جرس اللفظ يُمكِنُ أن يكون له تعلُّق بدلالته، فإنَّ تشكيلَ الانزياح الصّوتي وما فيه من مدّ، من شأنه أن يمنح الّلفظ بُعداً إيحائيّاً يتناسب مع ما يعنيه في أصل جذره اللُّغوي في التباعد والذّهاب. حقّاً إنَّ الانحراف والعُدول يتضمَّنُ كلّ واحد منهما مدّاً، بيد أنّه مدّ لا يتلاءم مع ما تعنيه الكلمة من معنىً. ثمّ إنَّ الفعل منهما يفتقرُ إلى ذلكَ المدّ الذي ينطوي عليه (انزاح). وهذا فعلٌ مطاوع ينطوي ضمناً على فعلٍ آخر وراءه جعلَ الشاعر أو الكاتب ينزاح، فهو إذن يستدعي بحثاً عن سبب لهذا الانزياح. وإذا كانَ الأمرُ نفسهُ موجوداً في الانحراف فليسَ موجوداً في (عدل) من العُدول"24.
الهوامش ◂ 1. يُنظّر: أبو الفضل جمال الدين بن مكرم بن منظور: لسان العرب (بيروت _ لبنان: دار صادر، ط ]د.ت[ ) مادة (زيح).┋2. يُنظر: عبد السلام المسدي: الأسلوب والأسلوبيّة (القاهرة _ مصر: دار سعاد الصبّاح، ط4، 1993) 100.┋3. ينظر: د. خالد سليكي: من النقد المعياري إلى التحليل الّلساني _ الشعريّة البنيويّة نموذجاً (مجلة: عالم الفكر _ الكويت _ مج 23ع1، يوليو/ سبتمبر، أكتوبر/ ديسمبر 1994) 394 _ 395، 397.┋4. هاشم صالح: بنية اللغة الشعرية (مجلة المعرفة: دمشق _ سورية، ع210 السنة 18، آب 1979) 161.┋5. يُنظر د. أحمد محمد ويس: الانزياح في التراث النقدي والبلاغي _ دراسة (دمشق _ سورية: منشورات اتحاد الكتّاب العرب، 2002) 35_50.┋6. يُنظر: المرجع نفسه، 37 _ 40.┋7. المرجع نفسه، 37.┋8. يُنظرُ: المرجع نفسه، 37.┋9. يُنظر: أحمد محمد ويس: الانزياح وتعدّد المصطلح (مجلة: عالم الفكر: الكويت، مج25 ع3، يناير _ مارس 1997) 64.┋10. يُنظر: المرجع نفسه، 64.┋11. يُنظر: المرجع نفسه، 63 _ 64.┋12. د. نعيم اليافي: أطياف الوجه الواحد _ في النظريّة والتطبيق _ دراسات نقديّة (دمشق _ سورية: منشورات اتّحاد كتّاب العرب، 1997) 91.┋13. د. أحمد محمد ويس: الانزياح في منظور الدراسات الأسلوبيّة (الرياض _ السعودية: مؤسّسة اليمامة الصحفية _ سلسلة كتاب الرياض الشهري، ط1، ابريل 1424هـ/ 2003 م) 64 _ 65.┋14. يُنظر: المرجع نفسه، 52.┋15. المرجع نفسه، 65.┋16. يُنظر: المرجع نفسه، 37 _ 40.┋17. يُنظر: المرجع نفسه، 40 _ 80.┋18. المرجع نفسه، 71.┋19. المرجع نفسه، 59 _ 62.┋20. المرجع نفسه، 62.┋21. المرجع نفسه، 65.┋22. د. نعيم اليافي، أطراف الوجه الواحد، 91.┋23. يُنظر: د. أحمد محمد ويس: الانزياح في مفهوم الدراسات الأسلوبيّة، 52 - 66.┋24. المرجع نفسه، 65.