عناصر القصيدة.. بين التأثير والتقصير!

شعرية الشكل عند نـازك الملائكة "نموذجاً"

د. عبيد لبروزيين

ترتبط الشعرية عند نازك الملائكة بحداثة الشكل الشعري، ففي ديوانها الصادر سنة 1949م بعنوان "شظايا ورماد" دعت إلى شكل شعري جديد، ثائرة على قواعد الشعر الكلاسيكية، أي مقومات الشعر العمودي، وسعت إلى تحرير الشكل وفك قيوده ليساير حركة الإبداع، ومنح الشاعر مساحة أكبر للتعبير عن عواطفه وانفعالاته، وهكذا أخذ شكل الشعر الحر، أو شعر التفعيلة، يتخذ أبعاداً جديدةً في التأسيس للشعرية العربية الحديثة، ومنه كانت تسمية النقاد لشعرية نازك الملائكة بشعرية الشكل.

لقد أدركت نازك الملائكة، بتمرسها على الكتابة الشعرية، وإحساسها المرهف، ترهل وعقم الشكل القديم، الذي كبّل حرية التعبير لدى الشعراء، مما جعلهم يعيدون نفس الصور الشعرية بنفس الأساليب المبتذلة لكثرة تناولها في القصائد، وذلك للالتزام بقواعد الخليل، لذلك سعت إلى تطوير الشكل الشعري العربي في كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، من خلال تبني الشكل الجديد، والإيمان بقدرته على ضخ دماء جديدة في الشعر العربي، وهو ما يتجلى في حوارها مع أبي نزار:
"أبو نزار: من يقرؤها؟ [قصيدة الشعر الحر] أنا والعراقيون الذين اعتادوا رصانة المتنبي وجزالة البحتري؟ إنك لن تستطيعي الخروج على الذوق العربي، فأنت واحدة، والأمة ملايين.
نازك: قولوا ما شئتم، أقسم لكم أني أشعر اليوم بأني منحت الشعر العربي شيئاً ذا قيمة"1.

إنه حوار يعكس إيماناً قوياً بالشكل الشعري الجديد، وقد شكّل هذا التمرد على الشعرية العربية القديمة، من قبل نازك الملائكة، خطراً عروضياً كبيراً، كانت نتائجه تأسيس شعرية حداثية، تقوم على تجاوز الشكل القديم (نظام الشطرين) إلى شكل شعري جديد ثائر على القيود الشعرية القديمة كالوزن والقافية (الشعر الحر)، ولعل هذه الثورة جاءت بعد أن تقوقع الشكل القديم على نفسه، وفقد جدته واستنفد طاقاته التعبيرية، ولم يستطع أن يجاري تدفق المعاني والدفقات الشعورية المسترسلة في العصر الحديث. وقد ساندها من النقاد محمد النويهي الذي يرى أن "ليس هذا لأننا ممن يعدون كل جديد أفضل من القديم، ولكن الشكل القديم عندنا قد بلغ به الحال إلى حد يجعل أي جديد أفضل منه"2.

وكان أن رد هذا الناقد، أيضاً، حداثة الشكل الشعري، إلى نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، حيث يرى أن أول من ابتكره نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في آواخر سنة 1948، وتبعهما عبد الوهاب البياتي في سنة 1950، ثم تتابع عليه شعراء عديدون ينمونه ويستكشفون إمكانياته من أشهرهم: خليل حاوي، وخليل الخوري، وصلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي، وفدوى طوقان ونزار قباني، نقول: هذا الشكل بمجرد جدته يسمح بنسمة من الهواء المتجدد أن يدخل شعرنا وتحركه بعد أن أغلقت عليه الأبواب، وسدت دونه المنافذ عشرات من الأجيال"3.

لقد رأت نازك الملائكة في الشكل القديم سجناً يجب التخلص منه، فجاءت تصوراتها ثورة جادة في بناء شعرية الشكل للشعر العربي، وهي تقول: "فنحن عموماً أسرى تسيرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية، وما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة وفرقعة الألفاظ الميتة"4، وبهذا المعنى، بلغ عمود الشعر نهايته، باستنفاذ الأغراض المطروقة، وتكرار الصور الشعرية الميتة، لذلك، كان ضرورياً أن يتخلص الشعر العربي من هذه القيود، بابتكار شكل جديد يستطيع نقله من الجمود إلى الحركة، واكتشاف آفاق جديدة في التعبير عن الإنسان الحديث والمعاصر.

ويمكن أن نجمل ما جاءت به نازك الملائكة بعد أن نسبت لنفسها أول قصيدة في الشعر الحر، وهي قصيدة "الكوليرا" التي كتبتها يوم 27-10-1947م إلى:
هيكل القصيدة: تدرس القصيدة العربية على أساس بنائها، لا على أساس موضوعها، وانتهت إلى وجود ثلاثة أنواع من الهياكل أطلقت عليها: الهيكل المسطح، والهيكل الهرمي، والهيكل الذهني.
التكرار: الاهتمام بالتكرار في الشعر العربي الحديث، تكرار الحروف والكلمة والعبارة والمقطع.

وبالرغم من أن شعرية نازك الملائكة تسمى بشعرية الشكل، إلا أنها تربط بين المحتوى والهيكل، كما أنه لا يصلح لكل المواضيع، وذلك لأن "مؤدى القول في الشعر الحر أنه ينبغي ألا يطغى على شعرنا المعاصر كل الطغيان؛ لأن أوزانه لا تصلح للموضوعات كلها بسبب القيود التي تفرضها وحدة التفعيلة، وانعدام الوقفات وقابلية التدفق الموسيقية"5.
ولهذا، فمن الحيف أن نسم شعرية نازك الملائكة بشعرية الشكل؛ لأنها شددت على العلاقة بين المحتوى والهيكل في بعض المواضع، وترى أن الإنسان العربي يتجه إلى "تحكيم المضمون في الشكل، وهذا ما نراه من ميل العصر إلى الإنشاء والبناء، وهو ميل عام يستوعب مختلف مظاهر حياتنا. إن الشكل والمضمون يعتبران في أبحاث الفلسفة الحديثة وجهين لجوهر واحد لا يمكن فصل جزئيه إلا بتهديمه أولاً"6، وهذا يعني أن شعريتها توافق بين الشكل والمضمون، وإن أولت الأول أهمية كبرى مقارنة مع الثاني، وجاءت بما لم يجئ به غيرها، فوسمت شعريتها بشعرية الشكل.

هكذا تكون نظرية نازك الملائكة قد حاولت الوصل بين المحتوى والشكل بشكل جدلي، فالأول من أسباب تطوير الثاني، أي أن نظام القصيدة القديمة لم يعد يسعف الشاعر الحديث في التعبير عن ذاته وأفكاره، ومنه فـ"إن الشاعر الحديث يرفض أن يقسم عباراته تقسيماً يراعي نظام الشطر؛ وإنما يريد أن يمنح السطوة المتحكمة للمعاني التي يعبر عنها"7، وهذا ما أدى –حسب نازك الملائكة- إلى ظهور الشكل الجديد، وبالتالي فالمضمون والمعاني من مبررات الدعوة إلى شكل جديد في الشعر العربي الحديث.

إن ما جاءت به نازك الملائكة يتمثل في تجاوز نظام الشطرين إلى أسلوب الشطر الواحد، أو السطر الشعري الذي يعتمد تفعيلة غير ثابتة العدد في القصيدة الشعرية، ويكون لها ضرب واحد لا يتغير، وتمثل لذلك بالأرجوزة في الأدب العربي.

لقد عوض شعر التفعيلة أو الشعر الحر البنية العمودية التقليدية القائمة على وحدتي الوزن والقافية، فأصبح الشعر يقوم على أسلوب التداعي الحر المرتبط بالدفقات الشعورية، وبذلك يكون الشاعر حراً في اختيار عدد التفعيلات حسب المعاني والدلالات والمضمون المعبر عنه، ومن ثم فإن "تفريعات هذا القانون البسيط أنه يمكن نظم الشعر الحر بتكرار أية تفعيلة مكررة في الشطر العربي المعروف، سواء أكان البحر صافياً مثل المتقارب، أو ممزوجاً مثل السريع"8.

ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن نازك الملائكة تفضل البحور الصافية على الممزوجة، حيث ترى أن الأولى أيسر في استعمالها، وأقدر على تجسيد الحرية التي يدعو إليها شعر التفعيلة من تكسير قيود عمود الشعر، حيث "إن نظم الشعر الحر بالبحور الصافية، أيسر على الشاعر من نظمه بالبحور الممزوجة؛ لأن وحدة التفعيلة هناك تتضمن حرية أكبر، وموسيقى أيسر فضلاً عن أنها لا تتعب الشاعر في الالتفات إلى تفعيلة معينة لا بد من مجيئها منفردة في خاتمة كل سطر"9.

ولم تستغن نازك الملائكة عن القواعد العروضية الخليلية، بل حاولت أن تؤكد على قانون العروض العربي من خلال دراستها للشعر العربي الحديث، واعتبرته امتداداً لتطوره، حيث أكدت على وحدة الضرب كقانون جار في القصيدة العربية الحديثة، كما تحدثت عن البحور الشعرية المستعملة في الشعر الحر قائلة: "أما البحور الأخرى التي لم نتعرض لها، كالطويل والمديد والبسيط والمنسرح، فهي لا تصلح للشعر الحر على الإطلاق؛ لأنها ذات تفعيلات منوعة لا تكرار فيها؛ وإنما يصح الشعر الحر في البحور التي كان التكرار قياسياً في تفعيلاتها كلها أو بعضها"10، كما ترفض استعمال خمس تفاعيل وتسع تفاعيل في الشطر الشعري لما فيها من قبح وعسر فهم، وتعتبرها من عيوب شعر التفعيلة.

لقد منحت نازك الملائكة الشكل قيمة كبيرة في شعريتها، وحرية الشعر مقيدة بها، لذا فهي ترفض ما يسمى قصيدة النثر رفضاً قاطعاً، بل واعتبرتها إساءة للشعر العربي، لذلك نجدها تقول: "ومن كل ما سبق نرى أن نشوء حركة الشعر الحر في عصر الترجمة عن الشعر الأوربي قد أساء إليها، وجعل القراء العارفين لا يميزون بينه، وبين النثر الذي يترجم به الشعر الأوربي، وجاءت الإساءة الثانية من (الدعوة إلى قصيدة النثر) كما يسمونها"11.

أما موقف نازك الملائكة من القافية، فهي ترى "أن القافية ركن مهم في موسيقية الشعر الحر؛ لأنها تحدث رنيناً وتثير في النفس أصداء وأنغاماً، وهي، فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر، والشعر الحر أحوج ما يكون إلى الفواصل خاصة بعد أن أغرقوه بالنثرية الباردة"12.

وتتوصل نازك الملائكة إلى العناصر الرئيسة للقصيدة، وهي:
الموضوع: وهو المادة الخام التي تقدمها القصيدة.
◂ الهيكل: وهو الأسلوب الذي يختاره الشاعر لعرض الموضوع.
◂ التفاصيل: وهي الأساليب التعبيرية التي يملأ بها الشاعر الفجوات في أضلع الهيكل.
◂ الوزن: وهو الشكل الموسيقي الذي يختاره الشاعر لعرض الهيكل13.

ورغم أن نازك الملائكة قد تحدثت عن علاقة الموضوع بالشكل في بناء القصيدة إلا أنها تعتبر "الموضوع، من وجهة نظر الفن، أتفه عناصر القصيدة؛ لأنه في ذاته قاصر عن أن يصنع قصيدة، مهما تناول من شؤون الحياة"14، وتفضل الشكل الذي تعتقد أنه "أهم عناصر القصيدة وأكثرها تأثيراً فيها"15.


الهوامش: 1. نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، م س، ص: 13.  / 2. محمد النويهي، قضية الشعر الجديد، دار الفكر، 1971، ص: 99. / 3. نفسه، ص: 99.  / 4. نازك الملائكة، مقدمة ديوان شظايا ورماد، م س، ص: 8. / 5. نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، م س، ص: 24.  / 6. نفسه، ص: 47.  / 7. نفسه، ص: 48.  / 8. نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص: 64.  / 9. نفسه، ص: 64.  / 10. نفسه، ص: 68-69.  / 11. نفسه، ص: 134.  / 12. نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، م س، ص: 165.  / 13. نفسه، ص: 202.  / 14. نفسه، ص: 203.  / 15. نفسه، ص: 203.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها