درويش

محمد نجار الفارسي


{1}
 

يتقدم الصفوف المتوازية.. يُفسح له.. من منهم لا يريد ضمه لصفه.. يتلوى.. يتقافز.. يثير العجب.. أنى لهذا العظم المتراكب المرونة والقوة؟!!.. لا يدع محافل الأعراس إلا لجلل.. حين يغيب يقولون (فقدنا ملح المديح).. علامة من علامات الأعراس هو.. يلحفون في دعوته.. يروحون ويغدون إليه.. حريصون على مجيئه.. لغيابه ترى الصفوف فاترة.. لا نشاط فيها.. به تدب الحياة فيها.. يلهب حماسهم.. لدب أقدامهم على الأرض وقع رتيب.. يتناسق وأنغام الغاب.. عفار التراب يسد الأفق.. يحجب رؤية مصابيح الكهرباء المتناثرة بخجل على جانبي الشارع.. زفيرهم يتخطى نجعين.. ربما ثلاثة.. يُسمع بوضوح.. هل يفقد الحكي اتزانه لو وصفت الزفير؟ إنه يحاكى تماماً صوت ذكر البط.. غير أنه يخرج من حناجرهم مموسقاً.. متقطعاً.. يُمد حيناً.. المد والتقطيع رهن إشارات منه كتصفيقتين أو طرفة عين.. يدركون ما يقصده.

لصوت الغاب وجد يُرعِش جسده الضئيل.. تتماهى به روحه.. يرتقيان.. يسدل جفنيه.. رأسه يطوف فيعانق الاتجاهات الأربعة.. تتهدل عمامته.. تسقط.. يدهسها.. يسحبها الغلمان من تحت قدميه.. يكاد يهوي على الأرض.. آخران بجانبيه يرفعانه من عضديه فيما يترنحون على أنغام الغاب.. يغيب.. يخر.

{2}

 

من الإجهاد لا يستطيع المضي على قدميه.. يحملوه.. يُرقدوه أمام البيت.. تلفحه شمس الضحى.. ينهض بمشقة.. ينظر إلى بابه الموصد.. لا يقترب منه.. أقسم من قبل ألا يدخله بدونها.. ينصرف وفي نفسه حسرة.. منذ متى لم يطأه؟.. لم يحص عدداً.. يتلهف قدوم الليل.. الليل والغاب ينسيانه الحنظل المحشور في حلقه.

{3}

قالت له مرات من قبل: (أنت طيب.. خارج الزمان).. لا يروقها فعله.. فمن ذا الذى يمنح غير منتظرٍ الوفاءَ؟.. يبسط يديه بسخاء.. يحسن الظن بالدهماء.. تستوقفه براءة الأطفال فى الطرقات فيقعد يشاركهم لهوهم.. هل يعقل إلقاء غدائك لكلب، وتمكث بقية يومك بلا طعام.. وهل تُصفع على خدك وتعرض لصافعك خدك الآخر.. أنى له بتعاليم يسوع ؟!!.. أكثر من ذلك يدرك مبعث السمو النفسي.. أدرك النيرفانا!!
يستغربه الناس من حوله.. لا يأبه.. سواها أرقته.. لم يفلح فى ترغيبها لمسلكه.. ضاقت به.. فارقته.

{4}

سنون ولت وموقنٌ بإيابها.. يتعجبون لأمره
- تزوجت منذ سنوات!!!
يشخص ببصره بعيداً
- شب ولدها!!!
يبتسم
- شاب شعرك.
تزحف أصابعه تحت الطاقية الشبيكة.. يدلك فروة رأسه.. لا يصدق ابْيِضاضَ شعره.. تجمد إحساسه بالزمن منذ هجرها.. يضحك ويشير نحوهم بسبابته
- تزوجت هاهاهاها.. ولدها هاهاهاها.. ابيض شعرى هاهاهاها.
فجأة يصمت.. بكمّ جلبابه يمسح الماء الدافق من عينيه وأنفه.. يغالب احتباس صوته.. يؤكد
- ستعود.

{5}

مساءً يراها ماثلة أمامه.. يندس في الصفوف المتوازية.. تزداد حيويته.. يريق كامل طاقته.. لا يستكين إلا بأفولها.. يسقط.. شفتاه ترتجف باسمها..

 ز ي ن ب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها