أبو تَمّام وعروبة اليوم:
ما أصدقَ السّيف إن لم ينضهِ الكذبُ
وأكذب السيف إن لم يصدقِ الغضبُ
بِيضُ الصفائحِ أهدى حين تحملها
أيدٍ إذا غلبتْ يعلو بها الغَلبُ
وأقبح النصر نصر الأقوياء بلا
فهم سوى فهم كم باعوا وكم كسبوا
أدهى من الجهلِ علمٌ يطمئن إلى
أنصافِ ناسٍ طغوا بالعلم واغتصبوا
بهذه الأبيات افتتح الشاعر اليمني الكبير "عبد الله البردوني" هذه القصيدة "أبو تمام وعروبة اليوم"، والتي جاءت في خمسين بيتاً، يُعارض بها قصيدة الشاعر العباسي أبي تمام:
السَّيفُ أصْدقُ إنباءً من الكتب ... في حَدِّهِ الحَدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
ألقاها في ملتقى الشعر بالموصل بمناسبة مرور ألف سنة على وفاة أبي تمَّام، عام 1971، فكانت أشبه بحجر ألقي في وجه كبار شعراء العربية، قبل أن تُلقى في بحيرة الشعر، فلفت الانتباه لشاعر عربي كبير.
لم يكن أحد من شعراء العربية ضيوف ذاك الملتقى أو الجمهور يتصور أن هذا الشاعر الكفيف بشعره الأجعد، وآثار الجدري التي تكسو وجهه.. بسيط الثياب، يمكن أن يقول شيئاً يطاول ما قاله نجوم الشعر العربي.. لم يعره الحاضرون الاهتمام أول الأمر، ولكنه فاجأ الجميع ما إن بدأ يقرأ قصيدته، وظل التصفيق يتوالى إعجاباً وتقديراً، وأصبح نجم الملتقى.
ومن هذا اليوم أصبح للبردوني حضور عربي كشاعر كبير، وكانت هذه القصيدة هي بوابة العبور إلى عالم الشهرة، وبداية انتشاره على المستوى العربي، حيث انهالت بعدها دعوات المشاركة في المحافل الثقافية والأدبية العربية بل والدولية، حيث زار روسيا، واستضافه معهد العالم العربي في باريس، وزار الولايات المتحدة الأمريكية بدعوة من الطلبة العرب وألقى محاضرات في خمس ولايات بجامعات إنديانا، وجورج تاون، وجامعات أمريكية أخرى.
عن هذه الواقعة قال الشاعر الراحل في أحد حواراته الصحفية: "لم يكن اسمي ضمن المشاركين في المهرجان، فذهبت إحدى الموظفات في وزارة الإعلام والثقافة العراقية -يقصد الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة- إلى المختص بدعوة الشعراء المشاركين، وقالت له لماذا لا يوجد شاعر من اليمن؟ فقال لها إنه لا يعرف أحداً، فقالت له ضع اسم عبدالله البردوني، فهو خير من يمثل اليمن.
وضعوا اسمي، وتواصلوا معي وقبلتُ الدعوة، وذهبت إلى العراق.. كان هناك الجواهري والبياتي، ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي، وشعراء كُثر قرأوا قصائدهم، وجاء دوري، وأثناء سيري إلى المنصة لقراءة القصيدة سمعتُ الناس يتهامسون: ماذا سيقول هذا بعد كل أولئك؟
بدأت الكراسي تتحرك وبدأ البعض يخرجون، وأنا بدأت أقرأ قصيدتي، ولحسن الحظ كان هناك مايكروفونات وسماعات إلى الشارع، ولما سمعوا وهم في الشارع عادوا، وسمعتُ ضجيج الكراسي ثانيةً، ثم خيَّم على القاعة سكون المقابر.
كنت أقرأ وهم يصفقون بحرارة، ويستمر التصفيق لدقيقة كاملة.
بعد أن انتهيتُ من إلقاء قصيدتي، وكان هناك كبار الشعراء، جاءني رجلٌ وصافحني بيد دافئة، وقال لي: نعتذر يا أستاذ عبدالله لأننا قرأنا قصائدنا في وجودك.. فقلت له: ولماذا تعتذر؟ قال لي: لأنك قلت كل ما نريد أن نقوله ولم نقدر.. فسألته: من أنت؟ قال: أنا نَزار.. فقلت له: قل: نِزَار وليس نَزار؛ لأن النَّزر هو الشيء القليل.. فضحك نِزار ثم قال: اليوم عرفتُ اسمي".
✧ السِّمات الأسلوبية ✧
يقول الناقد اليمني د. عبد الحميد الحسامي: "للبردوني عدداً من السمات الأسلوبية التي ميزته عن غيره، ومنها اللغة الشعرية التي تمكّن من انتزاعها من البيئة المحلية اليمنية، وإدراجها في سياق النص الشعري الفصيح، وتخصيب نصه بالرموز الإنسانية التي تمنح النص ثراءً دلالياً وتوسع أفقه الثقافي، واشتغال نصه الشعري على أسلوب المفارقة، الأمر الذي منحه طاقة جديدة، وفتح أمام المتلقي مفاجآت من شأنها أن تكسر أفق التلقي، واستلهام المعطيات السردية في النص، والشغف بالتجريب الذي لا ينبت عن الأفق الرؤيوي للشاعر".
كما امتاز البردوني بأسلوبه الفكاهي والسخري، واستخدمه لنقد الأوضاع السياسية والاجتماعية والأدبية، وللتعبير عن معاناته ومعاناة شعبه، وهي مهارة خاصة وملكة نادرة فيه اختلف بها وتميز عن الشعراء والأدباء الآخرين. يقول الشاعر والناقد السوري د. وليد مشوح: "اعتمد شعره "عكازة" يتلمس بها طريق الحياة، وسخريته "مذبة" يذب بها ظلامتين.. ظلامة الذات، وظلامة الآخر".
من أنت؟ ماذا تساوي
وكل ما فيك خاوي
تحس جلدك ثلجا
مطينا وهو كاوي
تئن، تخفي ضجيجاً
أنت الصدى وهو عاوي
فقد البردوني بصره وهو في الخامسة من عمره بعد إصابته بالجدري.. يقول البردوني: "وقد كان العمى مأتماً صاخباً في بيوت الأسرة؛ لأن ريفه يعتد بالرجل السليم من العاهات، فرجاله رجال نزاع وخصام فيما بينهم، فكل قبيلة محتاجة إلى رجل القراع والصراع الذي يقود الغارة ويصد المغير".
تلقى البردوني المبادئ الأولية للتعليم في "كُتَّاب" قريته "البردون"، ولما بلغ الثامنة أو التاسعة من عمره انتقل إلى مدينة ذمار، حيث أكمل تعليم القرآن الكريم حفظاً وتجويداً في المدرسة الشمسية، ودرس علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والبديع. قضى في هذه المدرسة عشر سنوات عانى فيها من صنوف المشاكل والمصاعب، ومكاره العيش ومتاعب الدرس الكثير. وفي هذه الفترة بدأ البردوني ينظم الشعر وهو في الثانية عشرة من عمره، ثم بعد ذلك أكمل دراسته في "المدرسة العلمية" دار العلوم في صنعاء، ودرس فيها علوم اللغة (النحو) والبلاغة والفقه (الأحاديث)، والكلام (أصول الدين)، والتاريخ.. وتخرج فيها عام 1953، ولنبوغه اللغوي والشعري عُيّن مدرساً للآداب العربيّة في المدرسة ذاتها.
كان للبردوني شَغفٌ كبيرٌ بقراءة الكتب اعتماداً على السماع، وجمعت هذه القراءات المتنوعة بين القديم والجديد، وبين السياسة والتاريخ والأدب وما إلى ذلك. وقد وهبه الله موهبةً فائقة في الحفظ والذكاء، فتشكلت ثقافته من قراءته للدواوين القديمة ودواوين بعض الشعراء المعاصرين. وكما تأثر بالمتنبي وأبي تمام والمعري.. تأثر بالشعراء المعاصرين أيضاً، أمثال إيليا أبي ماضي، وأبي القاسم الشابي، وعلي محمود طه.
يقول صديقه الأديب والشاعر اليمني د. عبد العزيز المقالح: "كنا نقرأ الكتاب الواحد عشرات المرات، ونقرأ الديوان الواحد عشرات المرات أيضاً، ومن تلك القراءات تكونت حصيلته عن المعارف التي تجلت أولا في شعره وثانياً في كتاباته النثرية".
لم يكن سعيه للعلم والمعرفة مجرد محاولة للهروب من الواقع، بل كان تحدياً للواقع وبحثاً عن إثبات الذات والوجود. فحول معاناته إلى نجاحات، ليصل رغم كل شيء إلى ما لم يتمكن ملايين المبصرين في بلاده من الوصول إليه.
أصدر البردوني خلال مسيرته الأدبية عديد الدواوين، منها: "من أرض بلقيس، في طريق الفجر، مدينة الغد، لعيني أم بلقيس، السفر إلى الأيام الخضر، وجوه دخانية في مرايا الليل، زمان بلا نوعية، ترجمة رملية لأعراس الغبار، كائنات الشوق الآخر، رواغ المصابيح، جواب العصور، رجعة الحكيم بن زائد". وله ثمان دراسات نقدية "رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه، قضايا يمنية، فنون الأدب الشعبي في اليمن، الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية، من أول قصيدة إلى آخر طلقة: دراسة في شعر الزبيري وحياته، أشتات، اليمن الجمهوري".
تُرجمت بعض أعماله إلى اللغات العالمية، منها كتابه "الثقافة الشعبية"، وديوان "مدينة الغد"، وكتاب "اليمن الجمهوري"، وكتاب "الخاص والمشترك في ثقافة الجزيرة والخليج". واختاره منتدى المراكز الثقافية الأجنبية في باريس شاعر القرن العشرين، كما أصدرت الأمم المتحدة سنة 1982 عملة فضية عليها صورته كمعوق تجاوز العجز.
يا حياتي، وما معنى حياتي
وما معنى وجودي فيها لأشقي وأُظلم
رب رحماك فالمتاه طويل
والدجى في الطريق حيران أبكم
قد أتيت الحياة بالرغم مني
وسأمضي عنها إلى القبر مرغم
أنا فيها مسافرٌ زاديَ الأحلا
م والشعر والخيال المجسم
وشرابي وهمي، وآهي أغاريـ
دي، ونوري عمى الظلام المطلسم
لم أجد ما أريد حتى الخطايا
أحرامٌ علي حتى جهنم
كل شيء أرومه لم أنله
ليتني لم أُرد، ولا كنت أفهم
أنا أحيا مع الحياة ولكن
عمري ميت الأماني محطم
✧ جائزة "سلطان العويس الثقافية" ✧
في عام 1993 حصل البردوني على جائزة "سلطان العويس الثقافية" في الشعر، وجاء في قرار لجنة التحكيم: "قررت اللجنة منح جائزة الشعر للشاعر "عبد الله البردوني" بوصفه علامة في الشعر العمودي الحديث، حيث قدم القصيدة العربية بوجه جديد وبروح عصرية، وآلف بين الإيقاع العريق والتحديث اللغوي، فجمع بذلك بين مزايا العمودية ومكتسبات الحداثة، فهو رمز لهذا النوع من الإنجاز الشعري المعاصر.
كما أن إنتاج عبد الله البردوني وفير في مجموعاته المتنوعة، في امتداده الزمني المتواصل إبداعاً وانتشاراً، وهذا يكسبه حضوراً جماهيرياً عريضاً، إضافة إلى أنه فتح أبواباً في مجالات التذوق الشعري وتوسيع قاعدة الشعر والتفاعل معه، وهو بهذا أهل للجائزة، ويرمز لغاياتها وأهدافها".
لم يكن البردونى واحداً من أبرز الشعراء العرب في القرن العشرين فقط، بل كان أيضاً باحثًا اجتماعيًا وناقدًا.. ساهم في تشكيل الوعي الثقافي في مجتمعه. كتب القصيدة العمودية في زمن كان الشعر العمودي يتوارى أمام قصيدة التفعيلة، فأثبت أن الشعر العمودي قادر على استيعاب كل ما هو حديث، وقادر على التعبير عن قضايا المجتمع المعاصر.. مع الحفاظ على الشكل الخليلي الذي ظل وفيًا له دون سائر شعراء العربية الذين جايلوه، مما جعله يتميز ويتألق في المشهد الأدبي العربي، ويصبح صوتًا فريدًا ومؤثرًا.. من خلال قصائده التي تعكس جوانب الحياة المختلفة، بما فيها الأمل والمعاناة:
شوطنا فوق احتمال الاحتمال
فوق صبر الصبر لكن لا انخذال
نغتلي نبكي.. على من سقطوا
إنما نمضي لإتمام المجال
دمنا يهمي على أوتارنا
ونغني للأماني بانفعال
مُرةٌ أحزاننا لكنها يا عذاب
الصبر أحزان الرجال
نبلع الأحجار ندمي إنما
نتحدى نحتذي وجه المحال