مرايا السلم النفسي في رواية" المتشابهون" لأحمد طايل

أحمد الشيخاوي


اعتاد الروائي المصري أحمد طايل، أن يطالعنا، بين الفينة والأخرى، بعمل روائي جديد، بما يجسّد رؤيته للذات العربية المكابدة لجملة من الإكراهات والتحديات، فالأوطان العربية، من منطلق مشروعه السردي، تكاد تتساوى في هذا، وإن وجد ما يدشن أضرب التفاضل بينها من مناحي الثروات والطابع الجغرافي إلخ... ثم النظرة إلى الآخر باعتباره مكملا للذات الساردة وامتداداً لها، وأخيراً النظرة إلى العالم ورصد تاريخانية تحولاته وتقلباته، بل وزيغه عمّا قد يصون كرامة وهوية ووجود الكائن.
 

من هنا فالكتابة الروائية لدى أحمد طايل، تجيء على الدوام، منتصرة للكائن المهمش، محتفية بطبقة البؤساء، وهو واقع مأزوم في دوامة البحث الدؤوب عن الحلول، يحاصره هذا الروائي العميق، بخطابه البسيط الذي يشمخ تدريجياً، ويتمنّع على لغة الأقنعة التي يتقيد بها كثيرون، وبدل أن يتم استهداف الشريحة الأكبر من القراء، وفق ما يلامس همومهم، ويتقاطع مع نقاط تطلعاتهم، نلفيهم منفّرين بإبداعاتهم العاجية، التي تعجز عن الإتيان بنظير هذا الزخم من الاسقاطات الذي يجود بها، مثل مشروع الروائي المصري أحمد طايل، المحقق لتمرد خفيض على حياة البؤس، وفيه بالطبع، ما يمكِّن للوعي والذائقة العربيتين من التمرد والتحرر والتحليق بعيداً، بما تتشاكل له ملامح المستقبل العربي المختلف والمفتقد، أقلّه في عوالم رمزية موازية، وفق ما تفتي به أبجديات مشروع روائي متدفّق، كالذي نواكبه لروائي عربي رصين، منذ زمن.

حسب الرواية التي بين أيدينا، والتي تحمل عتبة "المتشابهون"، الصادرة حديثاً، نستشف منظومة من آليات السرد العربي الحديث المنصبة على هموم العربي المحاصر بأوبئة مجتمعية لا حصر لها، فتأتي بصمة السارد من باب التشخيص، وتسخير الشخصيات وتطويعها لهذا الغرض الذي يُجري الأحداث على تنوّعها، ويضخها في شريان واحد، آلا وهو تفجير فلسفة التصالح مع الذات، والاعتقاد الدائم بالأمل، من أجل التغلب على عقبات الحياة المتناسلة كالفطر.

إن العدو الأول في كتابات طايل، هو الروح الانهزامية المدمرة والقاتلة.

بحكم جميع أبطاله؛ إنما يقاومون هذه الروح، محاولين التغلب عليها، بما ينتج النظرة التفاؤلية ويعززها ويغذيها في الكائن، بغية بلوغ المراد وتحقيق الأفضل حياتياً.

تصدح بمثل هذه المكاشفات، شخصية نموذجية أسندت لها أدوار البطولة، في سائر روايات طايل الساحرة بواقعيتها، وعلى غرار شخصية "رضوان" ههنا في هذه العمل السردي قيد المناولة.

نقتبس له التالي، إذ يقول:
"وعادت إلى إطلاق رنات ضحكاتها، أتى من الحمام حليق الذقن، مشذب الشعر المتبقي، باسماً مردفاً بالحديث:
- دعي لنا بعض الأمور الخاصة بنا، ليس كل شيء يقال.

لم ينتظر الإجابة. أسرع إلى ارتداء ملابسه في عجالة، اقترب منها، شدّها إليه، احتواها داخل صدره، مال عليها، تناول شفتيها بنهم، طالت القبلة، حتى إن الدموع طفرت من عينيها، بل انهمرت بغزارة، ارتجفا سويا، أرادت الخروج من هذه الحالة، تبسمت بسمة خرجت عنوة:
- ما ذا بك؟ هل تشعر بشيء لا نعرفه؟ الله يجعله خيرا بأمر الله.
- عبرت عما شعرت به دون أي اصطناع، ولعل الرسالة قد وصلت. للأسف نحن كثيراً ما نتجاهل أموراً نحن بأشد الحاجة إليها. أتركك قبل أن أجد أني عدت شاباً مجنوناً، مفتوناً، وآخذك من يدك، نهرول ونذهب إلى مكان خال من كل الناس، سلام عندما أعود، ربما تجدين (رضوان) بلا أغلفة خارجية، وكوني مستعدة للعشاء بالخارج الليلة وعلى النيل.

رفعت أهدابها، واتسعت حدقة العينين، صاحت به قبل الإسراع بالخروج وإغلاق الباب خلف رضوان:
- ماذا هناك؟ ما أراه وما أسمعه غريب علي، مع فرحتي إلا أني قلقة، طمئني أرجوك.
- والله والله لا شيء، تقدرين أن تقولي لحظة تمرد على اعتياد عشناه طويلا، كان شريكاً دائماً لنا، ألا يحق لنا أحياناً أن نتمرد، وأن نصفق الباب في وجه الاعتياد، آسف لأننا عشنا الملل والسأم كثيراً، صحيح تمرد متأخر كثيراً، ولكن ربما نستطيع الحياة بشكل مغاير.

مد كفه، مربتاً على وجنتيها، أعطاها ظهره منصرفاً، مشيراً إليها بالتحية الباسمة"[الرواية، ص: 7-8].

الميل يبدأ بخطوة كما يُقال، والإنسان مطالب بمجابهة التحديات مهما تعملقت، عوض الاستكانة والخنوع اللذيْن يؤديان بصاحبهما إلى الامّحاء، ويخنقانه بالنهاية.

ولعل السلم النفسي من أبرز المكتسبات التي يُراهن عليها طايل في سردياته، بعدّه البؤرة التي تتحقق لها المعادلات الإنسانية الصعبة، والتي قد يجني الكائن ثمارها، على نحو ما، وتبعاً لمنسوب معين، إن عاجلا أو آجلاً.

إن منعطف التمرد الذي يبثه المقطع أعلاه، على الرغم من تقدم بطل الرواية في السن، وانكتابة لذاكرة يغريها الاسترجاع، تجربة استعادة شريط حياته المهنية المبكر، وتدرجه في المراتب الحياتية، ولو أن ذلك إنما جاء على حساب العلاقة الحميمة والانتماء العاطفي الذي يختزله كل ما يرتبط بشريكة الحياة، بيد أنه انقلاب غير محكوم بالاشتراطات الزمكانية.

التمرد ثمرة الروح المتفائلة، يحرر الكائن من لعنة الانغماس في رواسب الماضي، كما يحرضه على استثمار الآني وعيشه بالمعنى البسيط المتاح حرفياً، مثلما أنه يورّد صفحات المستقبل فيجود انتهاء بأساليب تربية الذهنية على الاستشراف.

السلبية والتشاؤم يغلقان ذهنية الاستشراف، بينما نقيضه المنبنية عليه معمارية نظير هذه الرواية، يزكّي هواجس التمرد ويذكيها، حدّ وضع السرد فوق الحياة البائسة والهوية المشوشة.

كما نجتزئ له أيضاً، القول الموالي:
"تباعدت بكم المسافات والأزمان، كل منكم أخذ طريقاً مغايراً للآخر، ولكننا نرى أنكم لم تفترقوا مطلقاً.

يتبادلون النظرات المليئة بريقاً من الفرح، يبتسمون في لحظة واحدة، يبادر أحدهم بالإجابة:
قد تتباعد بنا الحياة، وتأخذ كل منا إلى مسار مغاير، إلى عمل مختلف، إلى حياة مختلفة، ولكن بيننا جميعاً ما يناديك، التشابه، كل إنسان له ما يشبهه، وليس المقصود تشابه الملامح والقسمات ولون البشرة، التشابه هنا هو تشابه الأفكار، تشابه الأرواح والرؤى، التشابه في تحليل المشاهد والمواقف، هناك فهم مشترك بيننا، التشابه متوارث عبر الأجيال، لو راجعتم سيرة الآباء والأجداد ستجدون أن لكل منهم أصفياؤه، والأصفياء يحملون تشابهاً مع الآخرين، حتى لو تباعدوا أعواماً طويلة، فهاهي عودتنا، وذا كان تقاربنا، لذا كان ارتباطنا الروحي والفكري والإنساني، علينا إن كنا نريد الحياة الهادئة والمتصالحة مع الذات أن نبحث دائماً وبلا كلل عمن يشبهنا"[الرواية؛ ص: 147].

يقول المثل الشهير: "الطيور على أشكالها تقع"، لذا فإن سردية التصالح مع الحياة، هذه، بتيمة مرايا السلم النفسي، ومثلما صهرت في شخصيات جميع من تم تحريكهم في هذا الفضاء السردي المنتصر للطبقة الهشة من مجتمع مصري ما هو إلاّ صورة مصغرة لما يكابده عالم عربي شاسع وممتد بالكامل، وقد تفننت في مسرحة فصول الواقعية السحرية.. قلتُ هي سردية تصالح تنطلق من هذه النهاية المفتوحة؛ أي من القفلة الروائية، راسمة دروتها الحلزونية في شق آفاق الديباجة السير ذاتية، كما عوّدنا عليها مشروع طايل الروائي.

فالرواية وإن دلّت من خلال عتبتها "المتشابهون"، على ما يمنح الانطباع، بل ويرسخه في عقلية المتلقي، أن المقصود هو الدوال التي تعكس التشابه الفيزيولوجي، إلا أن تأويلها، يجعلنا نسبر عوالم ما يستفز بفلسفة المشترك بسائر ما يرعى طوباوية معطيات الشخصية الإنسانية المسكونة بروح التحدي والتعايش ومهادنة زوابع وصروف الحياة، وعياً بواقع تهميش الكائن العربي وتعميق أزمته.

إنه التشابه الفكري والروحي والإنساني، تماماً كما صرّحت به الرواية.

من هنا، تلكم الجدلية ما بين الإرادة والمصير، باعتبار الخلفية السردية في مشروع أحمد طايل، تراهن على مواقف الإنسان العدمي المقهور والمغلوب على أمره، في جوهر ما يمتلكه من قدرة على تقويم مصيره، بيده، دون تدخل العناصر الخارجية، وليس يتم له ذلك، من دون شك، بسوى الروح الحالمة، وعدم حرق المراحل في ترتيب أولويات الحياة، من أجل تحقيق السلم النفسي المرغوب، والعيش في بحبوحته، بمنتهى التصالح مع الذات والآخر والعالم، وبوعي كبير أيضاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها