حكايات شعبية من المنطقة الشرقية

قراءة في وعي البيئة والمكان

محمد عطية محمود


"تأتي أهمية مواد التراث الشعبي من قدرتها على تجسيد صورة صادقة للمجتمع وللبيئة التي نشأت فيها، ويشمل ذلك الإطار الاجتماعي والثقافي والتاريخي الذي تأتي ضمنه، وما يحتويه من معان كثيرة تجسد حياة الناس في هذا المجتمع، ولعل الجزء المهم من تاريخ الإمارات الثقافي هو ما يشتمل عليه تراثهم الأدبي الشعبي من موروث حكائي شفاهي".


تتنوع أشكال السرد الشفاهي المتوارث في تاريخ البشر لتعكس الانتماء المعرفي والقيمي للمكان/ البيئة الحاضنة بكل رموزها المادية والروحية، وبما يفرز هذا الوعي من التعامل مع مضامين ذات أبعاد إنسانية اجتماعية وعقيدية وتاريخية وتراثية، تحمل القيم الإنسانية الدالة على عدم توقف الحياة وتواصلها من خلال رموز وجودها الفاعلة والمؤثرة في المكان والزمان وعاداتهما وتقاليدهما الضاربة في الوعي، ومن ثم تعمل على إنشاء تراث معرفي غني ومرتبط بالعديد من العوامل والسمات التي تؤكد على ذلك الوجود من خلال أبعاد رمزية تتمثل الأسطورة والعادات الاجتماعية، إلى جوار عناصر الحكاية الخرافية التي يلجأ إليها الوعي الجمعي، من خلال الرواة الشعبيين لتجسيد محكيات مشوقة ومسلية فيها معطيات العظة والحكمة والمثال، لتشكل من جهة أخرى مرتبطة وعيًا إنسانيًا بالغ الحضور من خلال حضور الطبيعة المميزة للبيئة، والكائنات سواء كانت الموجودة أو الافتراضية التي يعزز صورها هذا التلاقح مع الوعي بالبيئة/ المكان ومفرداته وسلوكيات قاطنيه.

وإحياءً لهذا التراث الموغل في قدمه وفي قيمته الإنسانية بما يستقى منه من حكمة الأجداد، وقدرة الأسلاف على الحفاظ على هذه الهوية، والانتماء إلى البيئة برموزها ومكونها المعرفي، والاستفادة من دروسها وعظاتها.. يقارب ويسجل هذا الكتيب بالغ الثراء صوراً من تلك الحكايات التي تتنوع في قيمتها المضافة، لتعبر عن القنوات التي يصب فيها الموروث بحكاياته، ويتوجه بها إلى تكريس قيمة من قيم التعامل مع مفرداته كالأسطورة، والحكمة، والأمثال، والحكاية الوعظية، أو التي تعالج بعضاً من المشكلات الاجتماعية والأسرية، فضلا عن التمسك بهذه الروح المتعلقة بتراث الأجداد وقيمهم.

الخراريف

وتاريخ السرد الشفاهي في المجتمع الإماراتي مرتبط بذلك الوعي الثقافي بالمفردات التي تشكل الإطار العام شديد الخصوصية، بمكوناته وسمات وأنماط تعاطيه مع الواقع والخيال معًا، من خلال ما يسمى بالـ"خراريف"، ومفردها «خروفة»، وأصلها في اللغة كلمة خرافة، أو الحكايات الشعبية، وهي قصص خيالية كانت الجدّات تقوم بروايتها للأطفال، وهي في الغالب تدور عن شخصيات أسطورية، وفي عوالم يمتزج فيها الواقع مع الخيال.. وقد تتناص تلك الحكايات مع مثيلاتها في حكايات شعبية أخرى يضيف إليه الزمان أبعاداً أخرى مرتبطة براهنيته.. وهي -كما جاء في لسان العرب- "خرافة أو حديثة خرافة، وخرافة رجل من بني عذرة أو من جهينة، وقد اختطفه الجن ثم رجع إلى قومه وأخذ يحدثهم بأحاديث يعجب منها الناس، فكذبوه، فجرى على ألسنة الناس حديث خرافة".

واتساقًا مع ذلك الوعي الإنساني الذي قد يتشابك ويتشابه في معطياته التي تعطي زخمًا ووجودًا من خلال التباين واصطباغ الحكاية أو المروية الشفاهية، وارتباطها بالمجتمع ذاته ونشأته وصيرورته، وما يتراكم في الوعي والذهن والذاكرة الشفاهية المتناقلة والموروثة التي تمثل تاريخًا موازيًا، ولها عمق ميثولوجي يؤثر في التركيبة الاجتماعية والبعد الثقافي المرتبط بالتراث الشعبي المميز، وفي هذا الكتاب الذي بين يدينا يتبين إلى مدى يكون لتلك المرويات بالغ التأثير، فتعطي الحكايات الشعبية في المنطقة الشرقية هذا المردود القيمي والمميز لها مع تلاقحها الطبيعي واندماجها مع مثيلاتها من المجتمع الإماراتي ككل، ومجتمع الجزيرة العربية من حيث النسيج الإنساني والجغرافي، وإن كان لكل بيئة ما يميزها للتراث الإنساني الذي يستمد قوته واستمراريته وتداوله من خلال العنصر الشعبي أو البشري على نحو عريض والطبيعة التي تظاهر وجوده..

فمن هذا المنطلق تبدو العلاقة بين المجتمع وتراثه الحكائي الشفاهي وطيدة الصلة فيما تقدمه الخراريف/ الحكايات من تلك الصور والمعالجات للواقع، أو الحالة الذهنية التي تسيطر على عملية تعاطيها والاعتماد عليها في عدة مناح تراثية، ومرتبطة بقضايا الهوية الإنسانية والتراث الإنساني غير المادي، وهو ما يقر في الذهن الشعبي الإماراتي بمكوناته التي ربما انخرطت في تيارات حداثة الوجود والتعاطي مع تلك الحالة من المزاوجة أو المراوحة في التعايش مع كل ما هو جديد، مع الاحتفاظ بالهوية وما هو تراثي متجذر في الوعي في الذاكرة الجمعية في ذات الوقت.. وهو ما يؤكد على القيمة المضافة لتلك الخراريف التي تقدم وجبة ثقافية متنوعة فيها العديد من الاتجاهات التي تمثل المجتمع بكل طوائفه القديمة ومِهنه وتعالقاته مع الواقع المحيط، وسمات الأعمال التي تفرضها هذه البيئة على العنصر البشري المقيم والمرتحل على حد السواء فيما بين برٍ وبحر، وعادات وتقاليد أهلها من خلال تلك الممارسات الحياتية التي تفرضها هذه البيئة المزدوجة، فيما بين البحر والصحراء وتراث التعامل مع كل منهما.

العناوين الدالة

ومن هنا تأتي أهمية عناوين الحكايات/ الخراريف التي تجسد صورًا بالغة الحس بالواقع المرئي، أو غير المرئي/ المحسوس، أو ما وراء الواقع في حياة الإماراتيين بما تعكسه من تاريخ مشبع بالأسطورة، ومشبع بالوعي للتعايش مع تلك الكائنات، ودخوله في مضمار الحياة الاجتماعية شديدة الالتصاق بالواقع، والمرتبطة أيضاً بالواقع وتراثها، والطبيعة بكل رموزها من خلال القيمة المضافة التي تكسبها له، وإن كان من خلال الترفيه والتسلية، لكن الجانب النفسي والفلسفي والتربوي لا يمكن إغفاله في هذا المضمار.

وتنتمي كل مجموعة من تلك العناوين إلى اتجاه متمايز، لتعطي دلالة على عمق البُعد في هذا الموروث، فتبدو على سبيل المثال الحكايات الوعظية المرتبطة بالحيوان من خلال عناوين: "ذكاء الثعلب" [ص: 16] – "الراعية والنمر" [ص: 20] – "البنت والثعبان" [ص: 23].

كما تنتقل إلى الحياة الاجتماعية والعلاقات الزوجية في نماذج مثل: "النساء ثلاثة أصناف" [ص: 27] – "الزوجة الماكرة" [ص: 30] – "وعد زوجة" [ص: 43].

كما تنزع العناوين في جهة ثالثة إلى إحداث العلاقات مع الموروث من وجهة نظر أسطورية، تبدو في نماذج: "الجدة الساحرة" [ص: 46] – "ثوب الريش" [ص: 50] – "الشاة الإنسية" [ص: 62].

وغيرها من العناوين التي تشتبك مع السمات والعادات الخارقة في تلك البيئة المشبعة بالنماذج الإنسانية، التي ربما صارت مثاراً لضرب الأمثال والنوادر مثل "النعال والبيدار" [ص: 33 – "ذكاء خارق" [ص: 35] – "صعل الصعول" [ص: 38] – "عجوز أدحيدح" [ص: 55] –"البنت المجبورة" [ص: 58].

وبما تعكسه هذه المفردات المهمة لوظيفة العنوان كلافتة بارزة، توضح إلى حد بعيد مدى الاستجابة والشغف لسماع الحكاية من خلال إثرائه للمضمون، وارتباطه اللصيق به والذي يؤكد خصوصية البيئة التي تعيش فيها وهويتها، وترتبط بتلك التيمة الأنثروبولوجية، التي تسعى خلف تجسيد قيمة تراثية تظل ثابتة وقائمة، ومرتبطة بالوعي وموجودة في حيز الاشتباك مع الواقع لتصبغه بسمات وألوان التمايز المعرفي، وتعميقًا لمفهوم تلك الدلالات التي لها أثر بالغ في الدراسات الشعبية المرتبطة بالبيئة والوعي بالمكان، الذي يفرض وجوده هذه العلاقات الإنسانية التي تشتبك مع الواقع وما وراء الواقع في صورته الروحانية وعلاقته بها.

المرأة والطبيعة

ثمة عنصران رئيسان يتحكمان في إيقاع الحكايات، وتستمد منهما هذا الزخم الوجودي في الحياة/ البيئة القديمة وهما المرأة من جهة، وحرفة الرعي، والزراعة في بعض الأحيان من جهة أخرى؛ نظراً لتلك الطبيعة الصحراوية اللافتة، والتي تستأثر فيها المرأة –كعنصر لافت- بكل النماذج المطروحة سواء كانت فتاة أو زوجة أو عجوزاً، فتعتمد الحكايات على وجودها وتلتف حولها كل المرويات، فهي بالأصل نبع الحياة؛ فتبرز القيمة الإنسانية للتسامح والإحسان من خلال هذا النموذج الذي يجمع بين الإنسان (متمثلا في المرأة راعية الغنم)، والحيوان المفترس (متمثلا في النمر الجريح، وكعنصر من عناصر الطبيعة المواجهة)، في أجواء تهيئها الحكاية الخرافية المتخيلة، لتكون مسرحاً يلتقيان فيه من أجل الخروج بتلك الحكمة أو القيمة المضافة، التي تهدف إليها الحكاية كهدف تعليمي/ أخلاقي/ قيمي ينبغي الوصول إليه في التعامل مع الكائنات التي تتشارك الحياة مع الإنسان، وما يعكس أهمية دور الأنثى/ المرأة في المجتمع الذي لم يكن قد فارق بداوته، وكأساس له، وهي من السمات التي يؤكد عليها التراث في احتفائه بالجانب النسوي في قيام المجتمع في أبسط صوره، ومواكبة لما تكتسبه في الزمن الراهن، وهو ما انعكس أيضاً من خلال ما استعرضناه هنا من عناوين.

"كان يا ما كان في قديم الزمان راعية غنم ذهبت لترعى أغنامها في (السيوح) البعيدة كعادتها كل صباح، وفي المساء عند غروب الشمس تعود هذه الراعية إلى منزلها كل يوم إلا في ذلك اليوم حدث شيء لم يكن في الحسبان.. فقد تلبّدت السماء بالغيوم الثقيلة الداكنة، و(نقع) الرعد، و(لظ البرق)، وسقط المطر بغزارة".

تبدو هنا البيئة في ظل هذه الطبيعة المغايرة مجسدة لصورة من صور التعامل مع لحظات قد تكون نادرة، تحمل السمات الصحراوية للمكان الذي تحتفي الحكاية المروية بها، وتضعها على محفة الدهشة بتلك العبارات والمفردات التي تعبر عن البيئة وتقلباتها وصورها المتعددة وطبيعتها التي تعقد المزيد من العلاقات المبهمة، كما تعطي مساحة لغوية مغايرة تميزها وينطق بها الحال ما يعكس ثقافة التعامل مع اللغة التي تميز هذا الموروث، وترسم هذا الجو المهيئ للحكاية، والذي يضع لها ظروف حدوثها في حال مغاير لتلك البيئة، ما يهيئ الإثارة والتشويق للحكاية التي تكتمل بظهور النمر/ العنصر المكمل للحكاية التي تربط الإنسان بالحيوان في علاقة ودٍّ وانسجامٍ من بعد عداوة واستنفار.

"فقد كان الحيوان يُعاني من آلام في رجله اليمنى، واقترب منها ووضع رجله اليمنى على ركبتها.. فكادت تصرخ وترمي به داخل النار.. لكنها رأته هادئًا والدم يسيل من قدمه.. وهذا الحيوان كان نمرًا مفترسًا.. فلما نظرت إلى رجله رأتها في حال يرثى لها.. فقد كانت متورمة والدم والصديد يسيلان منها.. وكان السبب شوكة منغرزة في قدمه، فأخذت الراعية تحمي رجل النمر حتى يخف الورم ويتوقف الدم والصديد عن السيلان...".

وهكذا تعقد الحكاية العلاقة الطارئة للراعية مع النمر، في سياق حكائي درامي متسلسل يتشابه مع الدراما القصصية المعتادة، ويتناص إلى حد بعيد مع التراث الحكائي الإنساني، لكن مع تلك القفزات الزمنية التي تتعهدها الحكاية؛ كي تنجز الحكمة والمثال والقيمة المضافة لتلك العلاقة الافتراضية أو الخروفة الخيالية التي يفرزها الوعي، انطلاقاً من قيمة باطنة يريد تجسيدها وهي قيمة العلاقة بين الكائنات، وكإيثار لمقام المرأة في ذلك المجتمع الذي تضطلع فيه بتلك الأعمال التي تتساوى فيها مع الرجال، ولا تقل قيمة وهو ما تكرسه نهاية الحكاية التي تستنطق فيها الحيوان كشريك في هذا الوجود، مع تحول العلاقة من خطر داهم يتهدد وجود الإنسان إلى تراحم وعطف ومودة وعمل الخير، بعدما استطاعت أن تغلب قيمة الخير وتروضه بها:

"ودخل النمر الكهف بعد أن غادرته الراعية فوجد التيس مربوطًا داخل الكهف.. فقام بفك الرباط، وقال له اذهب وراء راعيتك.. وانطلق التيس ليلحق براعيته.. فلما رأت الراعية التيس فرحت فرحًا شديدًا، وقالت: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان.. ومنذ ذلك اليوم صار النمر يحترم المرأة ولا يحرك ساكنًا تجاهها، بعكس الرجل؛ فإنه إذا اشتم رائحته ولو من بعيد، ينقض عليه ويفترسه".

لتتفق كل المرويات في كونها تلتمس القيمة الإنسانية في كل التعاملات التي تحكم وجود العنصر البشري، لتصنع تاريخه وتراثه الذي لا يستطيع الانفصال عنه، والتي ربما خرجت من حيز اللامعقول، وارتادت الخيال كما ارتادت عالم الحيوان وعالم الغيبيات، إلى جانب الأسطورة الذاتية والشخصية التي للبيئة التأثير الأعظم في الالتباس بهواجسها، وما تفرزه هذه العلاقات الثنائية مع الكائنات التي تتشارك معه الوجود، وتصنع هذه الحكايات المروية بشغف لتحقيق غايتها من التواصل مع الماضي واستمرار روح الحكاية في جسد الحاضر والمستقبل، إحياء لتلك النزعة من الأصالة والارتباط القيمي بالتراث، واستمراراً للوعي بالمكان.

 


حكايات شعبية من المنطقة الشرقية – جمع وإعداد: منيرة عبد الله الحميدي – مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها