التّمايُز .. وإعادة الهيكلة في العلوم الاجتماعية

د. حمو موسوت

يُعدُّ التمايز/ التفاضل واحد من المفاهيم الأساسية في منظومة المصطلحات السوسيولوجية. فهو يشير إلى سيرورة مفترضة تُقسَّم فيها المهمات التي كانت تبدو مفردة، أو يقوم بها فرد/ جماعة مفردة، بحيث تبدو متعددة، ويؤديها أكثر من طرف فاعل واحد. إنه مفهوم تشكُّلي يمكن، من حيث تطبيقه في أي مجال من مجالات النشاط. إنه السيرورة التي تؤول في آخر المطاف إلى تقسيم العمل.
 

ولقد رأى بعض المحللين حسب "إيمانويل فالرشتاين"، أن إحدى السمات البارزة في العالم الحديث هي مدى ما فيه من تمايز. ويقال إن تقسيم العمل، بحكم التعريف، أكثر كفاءة، وإنه يؤدي إلى تعاظم الإنتاجية الجمعية. ومن الواضح أنه كلما ازداد التمايز، ازداد التخصص في الأدوار التي يؤديها الفاعلون، واتسع بالتالي الفضاء المُتاح لانتشار النزعة الفردانية، الأمر الذي يفضي في التحليل الأخير (على الصعيد العالمي) إلى تغاير أوسع بين العناصر والخواص.

من جهة أخرى، رأى آخرون أننا، في العالم الحديث، نخرج من طور المجتمع المحلي إلى طور المجتمع، وأننا بالتالي نتحدث على نحو متزايد بلغة مفاهيمية واحدة مشتركة، وأننا بناء على ذلك نعمل وفق منظومة واحدة من القيم العقلانية المفترضة، وأن كل شيء يتوجّه إلى مزيد من الاندماج، وسيفضي ذلك (على الصعيد العالمي) إلى انسجام أوسع بين العناصر والخواص.

من هنا؛ يرى إيمانويل أن لدينا سيرورتين، كلتاهما جوهريتان، وتتحرك الواحدة منها مباشرة باتجاه معاكس للأخرى. ولا تتضح تماماً من هذه التأكيدات طبيعة القيمة الجوهرية التي سنحددها للتغاير والانسجام، وأيهما سنفضل، ولا أي هدف، ولماذا؟ وليس من الواضح أن أيا من التغاير والانسجام أكثر كفاءة من الآخر، نظراً إلى أن هذه الصفة سمة أصيلة في الاثنين. كما أننا نتوافق على الدليل الإمبيريقي حول الاتجاه الذي نتحرك نحوه. وقد حاجج محللون كثُر بأن عالمنا الحديث يتسم بالتقارب المتزايد (أي، ضمنياً، بالتناغم)، بينما يصر آخرون على أنه يتسم بالاستقطاب المتزايد (أي، ضمنياً، بالصراع العميق).

وفي غمرة هذا الجدال، يؤكد كل من الجانبين أن الانسجام سيكون أفضل، غير أن أحد الطرفين يرى أن ذلك هو ما يحدث الآن، بينما لا يراه الطرف الآخر كذلك. وعلى كل حال، يرى العديد من المحللين أن الأفراد غدوا أكثر حرية وتحرراً من الضبط الاجتماعي مما كانوا عليه في أي وقت مضى، بينما يرى آخرون أن السيطرة الاجتماعية لم تكن أكثر شدة مما هي عليه الآن (سواء بالصيغة التي وصفها جورج أورويل في روايته 1948، أو هربرت ماركوزه في مقالته التسامح القمعي). وفي هذا الجدال، يبدو أن الطرفين يؤكدان أن التغاير، وليس الانسجام، سيكون هو الأفضل، غير أن أحد الطرفين، يرى أن ذلك هو ما يحدث الآن، بينما لا يراه الطرف الآخر كذلك.

وعندما نتحول إلى تحليل بُنى المعرفة، نشهد وضعاً لا يختلف كثيراً عن تحليل الاقتصاد السياسي للنسق العالمي. ونجد تأكيدات على وجود تغاير أوسع، فالمعرفة تتوزع اليوم على تخصصات دراسية متعددة، ولكل من هذه التخصصات قائمة تطول يوماً بعد يومٍ من مجالات الاهتمام؛ أي ما يسمى الاختصاصات. غير أن بنى المعرفة تتجاوز، على ما يبدو، العديد من الاختلافات في ما يتعلق بالمكان والزمان. ومن الخصائص المحدّدة لبنى المعرفة الحديثة صفة البروز، بل الهيمنة التي اكتسبها الزعم القائل بوجود معرفة كلية شاملة، وهو الزعم الذي لا يقر بتنويع نظري محتمَل في ما يكوّن الحقيقة والصواب. وهنا أيضاً، لا نشهد إجماعاً حول ما إذا كان الانسجام أو التغير هو النتيجة المفضلة. والواقع أن حدة ما يُسمى حروب العلم، وحروب الثقافة المعاصرة، تمثل شهادة واضحة على عمق الانقسام في أوساط العلماء والباحثين حول هذا التقويم.

فلنلقِ الآن نظرة على الجمعية الدولية لعلم الاجتماع. إنها بحد ذاتها حصيلة لصيرورة تغاير امتدت عدة قرون. وعندما كتب مكيافللي أو سبينوزا، أو حتى مونتسكيو مؤلفاتهم؛ فإنهم لم يسمّوا أنفسهم علماء اجتماع؛ بل لم يكن ثمة مفهوم لوصف "علم الاجتماع" آنذاك. يضاف إلى ذلك أنه لم يكن هناك تمييز واضح بين فئات واسعة مثل الفلاسفة والعلماء. وأول الأمر كان هذا التصنيف، وهو أساسي في النظام الجامعي خلال القرنين الماضيين، ابتكاراً قام على أساس التضاد الذي أشار إليه رينيه ديكارت بين البشر والطبيعة، الذي لم يتبلور بصورة كاملة إلا في أواخر القرن الثامن عشر.

أما الفئات المفهومية الإضافية في العلوم الاجتماعية بوصفها مجالاً دراسياً ثالثاً، يقع بين العلم والفلسفة أو باستخدام المصطلحات الجامعية، بين كلية العلوم الطبيعية، وما يسمى في بعض اللغات كلية الإنسانيات، فقد نشأت في القرن التاسع عشر. ولم تنشأ أقسام جامعية مستقلة تميز بين مختلف العلوم الاجتماعية إلا بين ثمانينيات القرن التاسع عشر وعام 1945. وشاعت موجة المأسسة هذه بصورة كاملة في بقاع عديدة في العالم في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

يذكر هنا إيمانويل أن اجتماعات علماء الاجتماع شأنها شأن اجتماعات الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، وحتى فترة متأخرة من خمسينيات القرن المنصرم كانت مجرد تجمعات موحدة فكرياً، تضم عدداً قليلاً من الباحثين الدارسين.

لقد أسست الجمعية أول الأمر، من أجل تعزيز أنشطتها، لجنة بحثية شاملة متعددة الأغراض، ثم أقامت عدة لجان بتسميات محددة. ولدينا الآن خمسون لجنة بحثية، والعديد من طلبات الانضمام التي ما زالت قيد النظر. وتكررت الحكاية في أغلب الجمعيات الوطنية المرتبطة بنا، وفي الجمعيات الكبيرة على الأقل. وهناك أكثر من سبب للاعتقاد بأن الضغوط المطالبة بإقامة هذه البنى المتخصصة قد تتواصل، بل تتسارع، ولن أتفاجأ –يضيف إيمانويل- على الإطلاق إذا شهدت بنى اللجان البحثية، أو التجمعات التخصصية هذه بدورها مزيداً من التشعب والتفرع. فهل يمثل ذلك دليلاً على تقسيم سليم وصحي للعمل أم على تضخم سرطاني؟ لقد تعلّمنا من علم الأحياء أن الخط الفاصل بينهما رفيع، وأن الباحثين في المجال الطبي لا يستطيعون حتى الآن أن يقدموا تفسيراً دقيقاً للعوامل التي تؤدي إلى تحول أحد النوعين إلى النوع الآخر. فهل نستطيع نحن الآن أن نفسر ذلك؟

هناك مشكلة أخرى؛ فإذا كانت هذه التجمعات الفرعية، بعد تقسيم المقسوم، انعزالية متقوقِعة، فقد نعيش في أجواء يمكن اتّهامها بأنها معاقة ومحجّمة فكرياً، ولكنها ستكون على الأقل قابلة للحياة تنظيمياً، ولكن الأمر ليس كذلك على ما يبدو على الإطلاق. فكل ما ازداد التشعب والانقسام، ازدادت نزعة الهيمنة لدى كل واحدة من الوحدات الفرعية.

وقد كان علماء الاقتصاد، ذات يوم يحتلون ركناً خاصاً بهم، وعلماء الاجتماع ركناً آخر/ والمؤرخون ركناً ثالثاً. وكانت كل فئة من هؤلاء ترى أنها تكوّن تخصصاً مستقلاً ومختلفاً كل الاختلاف، يُعنى بدراسة موضوعات متميزة واضحة المعالم وبمناهج بحثية خاصة. غير أن علماء الاقتصاد يسعون اليوم إلى دراسة الكيفية التي تعمل بها الأسرة، ويحاول علماء الاجتماع تفسير التحولات التاريخية، ويشرح المؤرخون استراتيجيات المشروعات التجارية.

يوضح لنا إيمانويل: سأقوم هنا باختبار بسيط: خذوا، على سبيل المثال، عناوين الأوراق البحثية المسجلة في البرامج الخاصة بستة من المؤتمرات المتخصصة في العلوم الاجتماعية التي تقيمها منظمات دولية مختلفة. ثم اخلطوا العناوين واطلبوا مجموعة من العلماء الاجتماعيين أن يحددوا في أي مؤتمر قُدمت هذه الأوراق. ومع أنني لم أقم بهذه العملية بنفسي؛ فإنني أتوقع أن الإجابات الصحيحة لن تتجاوز 50 بالمائة، وسنشهد بالتالي تداخلاً مدهشاً بين الموضوعات، وهي الظاهرة التي أعيدت تسميتها بوصفها "تداخل الاختصاصات". فهل تدل هذه الحالة على الكفاءة أم على القصور؟ أعتقد أن إدارة الاختبار نفسه باستخدام الأوراق المقدمة إلى لجان البحوث في مؤتمرات الجمعية الدولية لعلم الاجتماع ستبين صعوبة مماثلة في تحديد اللجنة التي قُدمت لها هذه الأوراق، وربما لن تكون بالقدر الذي شهدناه في الاختبار الأول عند محاولة تحديد ما يسمّى "التخصص". ومع ذلك، فمن الواضح أنه ستكون ثمّة عناوين قُدمت إلى ستّ لجان بحثية متخلفة، بل ربما إلى ضعفي هذا العدد.

ترى ما مصدر هذا الانسجام في نطاق التغاير؟ يمكن إرجاع ذلك إلى سبب بنيوي بسيط هو الحجم. لقد تضاعفت أعداد الباحثين في العالم إلى درجة هائلة خلال القرون الخمسة المنصرمة، وهندسياً، خلال الخمسين سنة الماضية. وأفضى ذلك بدوره إلى ظاهرتين تنظيميتين. الأولى أنه ما زال على كل باحث أو باحثة أن يثبت أصالته. وعلى الباحث أو الباحثة أن يجد لنفسه موضعاً أو مقاربة، أو ركناً أو زاوية ما. ويبدو أنه لم يبق من هذه الزوايا ما يكفي للجميع. وبالتالي، فقد غدت السرقة والانتحال، على نطاق واسع، هما استراتيجية البقاء على قيد الحياة الفكرية. غير أن أحداً لن يعترف بالسرقة أو النحْل؛ لأن ذلك سيدل على افتقاره للأصالة. ولذلك يصرّ كل واحد على أن تنويعاته الإضافية مختلفة بصورة ملموسة عما أضافه أي شخص آخر.

ومن ناحية ثانية، مع تزايد عدد الباحثين، تتعاظم أحجام اجتماعاتهم بحيث تصعب إدارتها، ويضيق المجال للتبادل الفكري فيها. ومن ثم يبدأ البحث عن جماعات أصغر حجماً. ويمكن تحقيق ذلك بدوره بأسلوبين، الأول هو الانتقاء النخبوي، أما الثاني فهو التفرغ الديمقراطي. وما زال الأسلوبان يُطبقان حتى الآن. وقد ارتأت اللجان البحثية في الجمعية الدولية لعلم الاجتماع أن تتبنى الأسلوب الثاني، ولكنها مع تزايد أعدادها قد تكتشف أن في أوساطها تياراتٍ وضغوطاً تدعو إلى الانتقاء النخبوي، وقد يتمخض ذلك عن نشوء جماعات نُخبوية أصغر خارج اللجان البحثية.

هكذا يتضح جلياً؛ أن العلوم الاجتماعية ليست حقلاً معرفياً بسيطاً، بل هي حقل صعب للغاية، ولا يقتصر الأمر على المناهج وحسب، أو التداخل مع الحقول المعرفية الأخرى، بل يشمل هذا كله، وبالدرجة الأولى قضية الهيكلة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها