"عيلة اتعمل لها بلوك"

كوميديا ترصد تحوّلات الأسرة المصرية في المائة عام الأخيرة

إبراهيم الحسيني


ما الذي تتوقع أن تشاهده وأنت في طريقك إلى مسرح محمد صبحي، والذي يقدم حالياً عرضه الجديد "عيلة اتعمل لها بلوك"، من إخراجه وبطولته بمدينة سنبل للفنون على بعد أكثر من 20 كيلومتراً، بعد خروجك من بوابات القاهرة في الطريق إلى الإسكندرية، بالتأكيد ستتوقع مشاهدة عرض كوميدي خالص، لكن صبحي يفاجئك هذه المرة بعرض درامي اجتماعي من إخراجه ومن تأليف مصطفى شهيب، حيث يتتبّع العرض تاريخ إحدى الأسر المصرية طوال 100 عام. عرض يمزج بين الموسيقى والغناء والتمثيل من ناحية، وبين التراجيديا والكوميديا من ناحية أخرى، ستضحك كثيراً وستبكي كثيراً، ستعايش تحولات أسرة مصرية منذ عام 1927 حتى اللحظة الحاضرة، ما الذي تغيّر فيها، وكيف طرأ هذا التغيّر؟ وستخرج في نهاية الأمر بمتعة مضمونة تحمل توقيع محمد صبحي.
 

منذ دخولك لمسرح مدينة سنبل للفنون والتي أسسها صبحي منذ سنوات بعيدة، وأسماها باسم واحدة من أشهر شخصياته الدرامية التي قدمها للشاشة الصغيرة، شخصية "سنبل" في مسلسل "رحلة المليون"، الذي عرضه التليفزيون المصري في عام 1984، منذ اللحظة الأولى يمكنك أن تتعرف بسهولة على حالة الانضباط التي يتميز بها كل العاملين، بداية من قطع التذاكر، ومروراً بالدخول وترك الموبايلات في أمانات المسرح، وقبل السابعة والنصف ميعاد افتتاح العرض المسرحي تنطلق الدقات استعداداً للحظة البدء، وفي الميعاد المحدد تماماً يبدأ العرض.

 

عدالة المشاهدة

يعتمد مسرح سنبل تقاليد مسرحية أخرى تتجاوز هذه الإجراءات، أهمها عمل بروفات وتدريبات للممثلين قبل كل ليلة عرض، واجتماعات لجميع الفريق بعد العرض، وهو ما يفسره صبحي بـ"عدالة المشاهدة"؛ أي الحفاظ على العرض في أحسن صورة وصل إليها الفريق من دون زيادة أو نقصان، وبالتالي تظل الوجبة الفنية التي تصل للجمهور في كل ليلة عرض واحدة لا تغيير فيها، وبالتالي يتساوى جميع المتفرجين في استمتاعهم بالعرض، وتلك هي التركيبة الخاصة بمسرح صبحي، والممتدة معه منذ بداياته وحتى الآن، قد نتفق معها وقد يختلف معها، لكنها على أية حال تمثل وجهته المسرحية الخاصة به.

حكاية أسرة مصرية

في عرضه الجديد "عيلة اتعمل لها بلوك" يتم تتبع رحلة عائلة مصرية تنتمي للطبقة المتوسطة، وهي الطبقة الحاملة للقيم والأخلاقيات داخل المجتمع، والتي تنظر للفن والثقافة والتعليم على أنها مفردات للترقي الاجتماعي، لذا فهي تحافظ على وضعيتها وتماسكها من خلال حفاظها على تلك الصفات، يتخيّل العرض أن تلك العائلة وصلت في مسيرتها لعام 2127؛ أي بعد ما يزيد عن المائة عام من الآن، فالعرض يبدأ عبر متتالية من المشاهد السينمائية صممها وأخرجها شادي الحكيم، نتعرّف خلالها سريعاً على طبيعة المجتمع المستقبلي المنضبط والذي يقدر قيمة الوقت والعمل، ثم نتطرق لسؤال عن أصل هذه الأسرة وكيف كانت في البدء، ليعود بنا العرض وعبر تقنية الاسترجاع المسرحي إلى بدايات هذه الأسرة في عام 1927، أثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر، حيث نتعرف على عائلة مكونة من خمسة أفراد، أب موظف حكومي، وأبناء في مراحل تعليمية مختلفة، المنزل يحتوي على مكتبة وبيانو وجرامفون وخادمة، وعلى الحائط صورة الزعيم الوطني المنحاز للشعب ضد الإنجليز، الزعيم سعد زغلول، الحياة مستقرة وهادئة والتعاون والأخلاقيات الحميدة تسود بين الجميع، منحنا العرض مثلا على ذلك من خلال مبلغ مالي بسيط كانت الأخت الصغرى قد ادخرته لنفسها، لكن عندما احتاجت أختها لهذا المبلغ منحته لها عن طيب خاطر، ثم تمنحه هذه الأخت لأخيها لاحتياجه للمبلغ كي يشتري به الكتب الدراسية، إلى أن يصل مبلغ الخمسين قرشاً من خلال الأب الذي سُرقت منه محفظته على يد أحد جنود الاحتلال الإنجليزي، ومن خلال الأب يصل المبلغ لخال الأولاد كي يجري به أحد معارفه عملية جراحية.

من خلال المفارقة الكوميدية التي تعتمدها هذه القصة البسيطة نتعرف على أخلاقيات التكافل والتعاون، وإيثار الغير التي كانت أحد السمات الأخلاقية في مصر الملكية، لينتهي هذا الاستعراض العائلي بموت سعد زغلول والذي يمثل شرخاً في تماسك الأسرة المصرية آنذاك ويلقي بها في غياهب الحزن، ثم يمزج العرض كما حدث في بدايته بين المشهد المسرحي الحي ونظيره السينمائي عبر شاشة عرض يقدم من خلالها تصويراً نادراً لجنازة سعد زغلول، مبيناً حزن الناس العميق على هذا الزعيم الوطني.

تحولات في مسيرة الأسرة

ننتقل بعد ذلك مباشرة لأحوال نفس الأسرة في زمن الستينيات عقب الانفصال المصري بين مصر وسوريا لنتعرف على الأبناء، وماذا فعلت بهم الأيام في زمن المد القومي العربي والروح القومية والمبادئ الاشتراكية، ما زالت الأسرة متماسكة أخلاقياً وفكرياً وقادرة على الترقي المجتمعي بأفكارها ومساندتها للروح العروبية، واهتمامها المتزايد بالثقافة والفنون، وبالرغم من ذلك يرصد العرض حالة القلق والتوتر التي تسود لدى الناس على مصير المجتمع المصري في هذه اللحظة الزمنية من تاريخ مصر، ثم ينهي العرض هذه اللوحة الدرامية بموت الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مستعرضاً عبر شاشة السينما لقطات نادرة للحشود الهادرة التي شاركت في جنازته ورافقته في طريقه لمثواه الأخير.

قفزة زمنية جديدة ينقلها إلينا العرض لنتعرف على مصر في حقبة بداية الثمانينيات، راصداً بعض التغييرات التي لحقت بالمجتمع المصري فيما بعد حرب أكتوبر 1973، والنصر الذي حققته الجيوش العربية على الكيان الصهيوني، ومن ثم بداية خروج رحلات العمل إلى الخليج العربي، وعودتهم برءوس أموال أقاموا بها العديد من المشاريع الاستهلاكية، وصولا إلى لحظة اغتيال الرئيس أنور السادات على يد مجموعة من الإسلاميين المتطرفين الذين أخرجهم السادات من السجون ليواجه بهم المد اليساري الذي وصل لذروته في النصف الثاني من السبعينيات.

لقد رصد العرض هنا من خلال جيل الأحفاد مجموعة من المتغيرات التي لحقت بالأسر المصرية في هذا الزمن، وأهمها التوجه ناحية الاستهلاك بسبب تفشي قيم السوق الحر، وزخم الانفتاح وتأخر الدور الثقافي والفني، مما أدى بالأسرة لبيع مكتبتها بما تحتوي عليه من كتب قيمة، لم يعد للثقافة ذلك الدور الذي كان قبل وبعد ثورة يوليو 1952.

ويصل بنا العرض عبر مراحله المتعاقبة إلى المرحلة الراهنة والتي اختلف فيها شكل التركيبة السكانية، وتضاعفت أعداد المصريين بها من 14 مليون نسمة في عام 1927 إلى ما يزيد عن 110 مليون نسمة في اللحظة الراهنة، وهو ما أدى بالثقافة والتعليم والأخلاقيات العامة إلى حالة من التدهور لدى الكثيرين، يتزامن مع تلك الشيخوخة الأخلاقية شيخوخة عائل الأسرة الجديد، وأيضاً شيخوخة المنزل الذي يضم الأسرة والذي أوشك بسبب سلوكيات الأحفاد إلي الانهيار، لكن العرض ينتهي والبيت لم ينهار بعد برغم تصاعد حالة الاستهلاك والانحياز للمصالح الصغيرة، البيت يتداعى لكن ما زال البعض من داخله يقاوم، وهو ما يعني بارقة أمل في العودة لتماسك أخلاقي جديد وعصري للأسرة المصرية.

فانتازيا التغيّر المجتمعي

يجمع العرض بأسلوبه الفنتازي بين مجموعات من حكايات الأسرة المصرية على مدار المائة عام الأخيرة، راصداً بوعي مجموعة من التغيرات التي لحقت بها على مر هذه السنوات أولها: تغير شكل العادات المصرية الأصيلة، والتي مثّل لها العرض بتفصيلة صغيرة على مدار لوحاته المتتابعة من خلال طبق طعام كان الجيران يتبادلونه فيما بينهم؛ كي يهدي كل منهم جاره بعض الأطعمة التي يطهوها في منزله، ثم يعود الطبق لصاحبه وهو ممتلئ بطعام الجيران، بدأت هذه العادة تتقلص تدريجياً حتّى إن أسرة الأحفاد لم تعد تعيد الأطباق لمرسلها.

وثانيها تحرّك مفردات اللغة الدارجة في التعامل اليومي من التماسك والاحترام المتبادل إلى اللغة السوقية المبتذلة وبنوع من التدرّج غير ملحوظ، وثالثها التخلي التدريجي عن العادات الأصيلة التي كانت موجودة لدي غالبية الأسر المصرية قديماً، والتي كانت تتجلى في التمسك بالتعليم والثقافة، وحب الفنون إلى عادات استهلاك التكنولوجيا وملاحقة تطوراتها الخادعة من دون فهم ولا وعي بخطورة ذلك.

أداءات متنوعة

هذا التدرّج من قمة الرقي إلى قمة الاستهلاك والقيم المتغيرة، يرى العرض أن التعليم والثقافة هما أساس فيه، ويرسخ لضرورة الاهتمام بهما لعودة الأمور لنصابها مرة أخرى، هناك إشارات أخرى لأشياء وتفصيلات كثيرة مر عليها العرض سريعاً ليصل بنا لتحوله الأخير، واكب هذا التغير المجتمعي للأسرة تغير -أيضاً- في شكل الأثاث والملابس اعتمده مهندس الديكور محمد الغرباوي، فبدأ بالأثاث الكلاسيكي في الثلاثينيات مروراً بالصالون المذهّب في الستينيات والمودرن في الثمانينيات، تغيرت أيضاً صور الحائط من سعد زغلول لجمال عبد الناصر، وصولا إلى الجدران العارية من أية صور.. تغيرت الملابس من الواسع للضيق وصولا لبنطلونات الجينز الممزقة، وأيضاً تبدلت الأجهزة داخل المنزل بداية من الجرامفون، وأغاني المطربة المصرية الشهيرة في الثلاثينيات فتحية أحمد، مروراً بجهاز التليفزيون والتليفون، ومن بعدهما جهاز الفيديو في السبعينيات والثمانينيات... وصولا لأجهزة الموبايل وطغيان السوشيال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الراهن.

نحن في مجمل الأمر أمام عرض مسرحي يوثّق لشكل وبنية الأسرة المصرية والتحولات التي طرأت عليها خلال المائة عام الأخيرة، حيث يظهر "محمد صبحي" بالعرض وفي مرحلته العمرية الجديدة بكامل لياقته البدنية والحركية، مجسداً عدة شخصيات درامية تتفاوت في أعمارها، وتتراوح ما بين الخمسين للسبعين مستخدماً باروكات الشعر المستعار وعبر ملابس معبرة عن الفترات الزمنية، وقد شارك صبحي بطولة العرض الفنانة وفاء صادق، والتي ظهرت بقدرة عالية على التعبير عن السيّدة المصرية في الكثير من حالاتها، سواء ربة المنزل، السيدة العاملة، السيدة العائدة من الخليج، الابنة المسرفة، الابنة المحبة والمخلصة لوالدها.. وفي كل مرة كانت تتحول بطريقة أدائية وجسدية وشكلية مقنعة للشخصية الجديدة، صاحب ذلك تنوّع صوتها ما بين درجات الخنوع والقوة حسب طبيعة كل شخصية، وقد ضم العرض مجموعة من الطاقات التمثيلية الجيدة من خريجي ورشة استوديو الممثل ومدربيها من مثل: كمال عطية بأدائه السلس وصناعته الآسرة للكوميديا، مصطفى يوسف بصدقه في أداء عدد من الأدوار لكل منها ملمحها الخاص.

والملفت للنظر أن العرض بنى حالة الكوميديا في معظمها على كوميديا الموقف في المقام الأول يليها وبنسبة أقل كوميديا الكلمة، أما كوميديا الحركة فقد كان محمد صبحي نفسه أكثر المتميزين بها، وقد شارك جميع الممثلين في صناعة المواقف الكوميدية داخل العرض بخفة ظل عالية ومن أهمهم: محمد يوسف، محمد سعيد، رحاب حسين، داليا حسن، منة طارق، محمد شوقي طنطاوي، محمود أبو هيبة، ليلى فوزي، إنجيلكا أيمن، مايكل وليم، لمياء عرابي، حلمي جلال الدين، داليا نبيل، محمد عبد المعطي، نبيل هاني، ولعل مفاجأة العرض قد تمثلت في جزئه الأخير بظهور الطفل عبد الرحمن محمود والطفلة مريم شريف، وذلك لما يتمتعان به من حضور كبير وقدرة على الإضحاك، وإضفاء روح من المرح والبهجة على كوميديا العرض.

ولأننا داخل العرض نعتمد زمناً درامياً يمتد لمائة عام كان على الموسيقى والأغنيات مواكبة النقلات الزمنية وإبراز ملامح كل منها، ففي المشهد الأول كانت الألحان لشريف حمدان والكلمات لعبد الله حسن مناسبة لإيقاع هذا الزمن، وقد عبرت الألحان والكلمات عن روح تلك الفترة من خلال مجموعة من الإشارات الموسيقية والغنائية المناسبة لزمن الثلاثينيات من خلال ظهور المطربة فتحية أحمد والمطرب محمد عبد الوهاب، اللذان قدما دويتو غنائي يستلهم مفرداته من روح العصر، كتلك التي كان يكتبها الشاعر محمد يونس القاضي الذي كتب كلمات النشيد الوطني المصري "بلادي بلادي" آنداك، والذي أشار له العرض من خلال حيلة درامية بسيطة، فقد جعله أحد سكان الدور الأرضي في العمارة التي تمتلكها الأسرة المصرية التي يعتمدها العرض كشريحة معبرة، اختبر عبرها تحوّلات المجتمع المصري عبر العقود العشرة الأخيرة، ومنحنا نبذة قصيرة عن حياته وأغانيه.

ولقد واكبت الكلمات والألحان المعاني والأفكار السائدة في كل عصر تناوله العرض، وسارت على هذا النهج وصولا للصراع القائم حالياً ما بين الأغنية الراقية ذات المعاني المعبرة، وما بين أغاني المهرجانات، وقد عبر واحد من أجمل المشاهد بالعرض عن ذلك الصراع بإقامة دويتو غنائي بين زوجة وزوجها، هو يغني أغنية مهرجانات مبتذلة بينما هي ترد عليها بغناء تطريبي لقصيدة شعرية ذات معان رفيعة، وفي النهاية لا منهزم ولا منتصر في هذا الصراع، فقط يضع العرض سؤالا كبيراً أمام مشاهديه، مَن الذي خرّب ذوق الشباب ليصل بهم الحال لأن تعجبهم أغنية كهذه الأغنية المبتذلة التي يغنيها الزوج بلا لحن حقيقي ولا كلمات ذات معني؟! ذلك ما يرصد العرض أسبابه على شكل منمنمات صغيرة سياسية واجتماعية واقتصاديه، يضعها أمامنا ولا يجيب عنها صراحة.

إننا باختصار أمام قصة عائلة مصرية تم تتبعها ورصد تحولاتها كشريحة مصرية دالة خلال المائة عام الأخيرة التي تغيّرت خلالها عادات وتقاليد المجتمع، وبنيت داخلها عادات وتقاليد أخرى ليست على ذات القدر من الأهمية، عائلة لم تستطع مع مرور الوقت التشبث بقيمها الأصيلة بسبب الظروف المجتمعية المتحركة والمتغيرة، لقد تم عمل "بلوك" كما يقرر العرض على أجمل ما فيها حتى كادت أن تفقد هويتها، ويمكننا إجمالا أن نقول: إن أفق التوقع لعروض محمد صبحي في العشر سنوات الأخيرة من مثل: غزل البنات، خيبتنا، نجوم عز الضهر... وأخيراً "عيلة اتعمل لها بلوك" هي عروض في مجملها تهتم برصد تغيّر التركيبة الاجتماعية داخل مصر، لذا فهي تحلل وضعية التعليم والثقافة والأحوال الاقتصادية، وتهتم بتقديم خطاب أخلاقي للجماهير قد نختلف معه أو نتفق، لكن لا يمكن إنكار أهميته وسط تأزمات اللحظة الراهنة بكل متغيراتها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها