التَّشكيلية فاطمة لوتاه

لوحات تحمل عبق الصَّحْراء وسِحْر الشَّرق

وفيق صفوت مختار


فنَّانة مُتجدِّدة لا يُرهقُها فُضول البحث ولا كثرة الاشتغال، تتنقَّل من دولةٍ لأخرى كما تتنقَّل من عملٍ لآخر بإبداعٍ وتميُّز وبحث، تجعل المُتلقي لأعمالها أمام عوالم متعدِّدة تسرد من خلالها الواقع المَعيش واللَّحظيّ وكأنَّها صورة لاقطة، لا تغفو عن ما يدور بفلكها أينما حلَّت وارْتَحلَتْ؛ وكأنّ طبيعة أهل الصَّحْراء وليدة تلك اللَّحظات في شُخُوصهم وعاداتهم وترحالهم وهنا، تقول: «أنا بِنْتُ الصحراء، بدويِّة، ترحالي يَعْني البَحْث عن نور القمر».
 

تَرى اللَّوْحة وعاءً، تَسْتنهض فيه حياة عميقة وكاملة، حياة لُحْمَتِهَا الخطُوط والأشكال، ونسيجُها الألوان والرُّموز، لكنَّها كمفهوم، ودلالة، وقيمة تعبيريَّة، تتجاوز مَحْدُوديَّة الوعاء. ومن هُنا، مع المفهُوم، والدّلالة، والقيمة التَّعبيريَّة، التي تتجاوز مَحْدُوديَّة الوعاء، تُصبح النَّوافذ مُشْرَعَة على دواخل مُبْدعها، وخزَّان ذاكرته البصريَّة المُحاطة بمجموعةٍ من الرَّادارات الحسَّاسة مفتوحة على الحياة، بكُلِّ حَرَاكِها، وشَغَبها، وتجلِّيات تجدُّدها، وبوساطة هذه الرَّادارات، يَزْخر الخَزَّان، وتتوهَّج الرُّوح الحَالِمة الباحثة عن أوْجُه الحياة الجميلة والشَّهيَّة.

إنَّها الفنَّانة التي قال عنها، «أنتوني باباليا» الناقد الفنِّيّ الكبير: «فاطمة لوتاه حالة فلسفيَّة وفنِّيَّة مُغايرة تَفْرض وضْعًا للتَّأمُّل؛ لأنَّها تًرُشُّ اللَّون في لوحاتها بمسافاتٍ واعيةٍ وبِخُطوطٍ جريئةٍ، تَحْمِل عُمْق رُؤى الصَّحْراء وسِحْر الشَّرْق».

وُلِدت «فاطمة لوتاه» في «دُبي» بدولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة عام 1954م. تقول عن طُفُولتها: «مُنذ طُفُولتي ولا أعْلم بالضَّبْط مَنْ سأكون، وماذا سأكون، كانت هذه الفكرة أكبر هواجسي، ومن إحدى أهمّ النِّقاط التي دفعتني وكبَّلَتْني في آنٍّ، فكنت أحاول أنْ أكون كُلّ شيءٍ، أنْ أكون طالبة نجيبة، أنْ أصبح أوَّل سباحة عربيَّة تفوز بميداليةٍ ذهبيَّةٍ، أنْ أخترع علاجًا لمرض السَّرطان، أو أن أدرس السِّياسة وأفهم ماذا يحدث في هذا العالم الذي يظلم الفُقراء والمساكين، وأنْ أشْعُر بالإنسانيَّة أكثر وأحاول أنْ أطعم أطفال إفريقيا، أو أنْ أقف في ذكرى انفجار قُنْبلة هيروشيما أبكي مع سِرْب الحَمَّام الأبيض الذي طَيَّرُوه فوق رُؤُوسنا، حُلْمًا بأمانٍ عربيٍّ يَضُمُّ العالم بأسره. مع جميع تلك المحاولات والرَّغبة في الاندماج في الصُّورة الرَّسميَّة لي ولوُجُودي في هذا العالم، أقف اليوم وأنا أضع حروفي على الورق، لأقول: لا أعرف بالضَّبط مَنْ سأكونُه، لا في المستقبل القريب ولا البعيد، ولكنَّ الطمُوح ما زال حيًّا في هيئةٍ أقرب لقلبي دائمًا».

وفي سنِّ الثَّالثة عشرة من عُمْرها عندما بدأت تكتشف مقدرتها على الرَّسم ليس على الورق وحده فحسب بل على الجُدرْان بواسطة ما تُخَلِّفُه النَّار مِنْ أصابع الرَّماد «الكَرْبُون» وكذلك على الرَّمل بالعصا، حيث اكتشفت أنَّ كُلَّ عمل تقوم به من هذا النَّوع يَجْعلها تَكْتشف شيئًا جديدًا. لقد استقرَّت على الرَّسم كفنّ اكتشفت موهبتها فيه، واتَّجهت إلى دراسته، وقد استطاعت في سبيل تأكيد موهبتها وحضورها كفنَّانةٍ أنْ تتجاوز الكثير مِنْ العقبات وتُذَلّلها.

في مُنْتصف السَّبعينيَّات مِنْ القرن المُنْصرم انتقلت إلى «بغداد» حيث انضمَّت لأعرق أكاديميَّة فُنُون في الشَّرق الأوسط، في فترة ازدهار ثقافيّ فنّي، واهتمام رسميّ وشعبيّ كبير، تتلمذت هُناك على أيدي الرُّوَّاد من الفنَّانين التَّشكيليِّين العِرَاقيِّين، فتلقَّت قواعد وأسس الرَّسم.

ثُمَّ انتقلت إلى «الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة» في عام 1979م، لتدخل تجربة مختلفة تمامًا، فتقول عنها: «في أمريكا عشت تجربة مختلفة، وهي أنْ تكون مبدعًا بطريقتك، لا أحد يُوجِّهك، تدخُّل باب التَّجريب، اكتشاف الخامة، وكُلّ ما تُحسّه، إلى أن يُصبح الفنّ حاجة روحية حقيقية». وقد تُوِّجت هذه المرحلة بنصيحة أحد الأكاديميِّين لها بأنْ تتابع مشوارها الفنّيّ في «إيطاليا».. بلد الفنّ.

لقد استطاعت الفنَّانة أنْ تفرض اسمها وحضورها هُناك وأنْ تصنع مكانة فنيَّة خاصَّة بها ومُغايرة لما هو سائد في ذلك الوقت، سواء من ناحية أسلوب أو تقنية العمل الفنيّ، أو عن طريقة العَرْض المُخْتلفة التي كانت تُميِّز أعمالها كما قال أحد النُّقَّاد في مجال الفُنُون التَّشكيليَّة: «إنَّها تَعْتَمد آليَّات عَرْض غير تقليديَّة وتُخالف ما هو سائد في اتِّباعها أحجام اللَّوْحَات العَاديَّة ولتغييرها حتَّى لطبيعة العَرْض».

لدى الفنَّانة مَرْسمان في «إيطاليا»، الأوَّل مُواجه لغابة ومشهد طبيعيّ جميل، أمَّا المَرْسم الثَّاني فقد أسَّسَتْه في بيتها في «فيرونا»، تلك المدينة التي تعرف بمدينة الحُبّ والجمال، والتي منحتها القُّدرة على أنْ تكون نفسها رغم صُعُوبات الرَّحيل والفراق. كما أنَّ لديها في مدينة «دُبي» مَرْسمين، الأوَّل كان صغيرًا، ثُمَّ بعد عودتها من «إيطاليا» منحها صاحب السُّموّ الشَّيخ «محمَّد بن راشد آل مكتوم»، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء وحاكم «دُبي»، مَرْسمًا في حيِّ «الفهيدي»، وانْتَقَتْه كبيرًا كي يتَّسع للوحاتها. تمضى الفنانة وقتًا طويلًا في مَرْسمها عندما تحضر لمعرضٍ، فهي ترى أنَّ إنجاز العمل يكون من خلال لحظة متكاملةٍ لا تُحبّ أنْ تقطعها، كما أنَّها تعمل على أكثر مِنْ لوحةٍ في الوقت عَيْنه.

مِنْ أبرز مراحلها الفنيَّة التي قدَّمتها للسَّاحة العربيَّة والمحليَّة كانت المرحلة التي امتدَّت من العام 1984م حتَّى العام 1991م، وهي مرحلة كان موضُوعها الأساس هو المَرْأة، فكان العمل الفنيّ مُعادلًا مَوْضُوعيًّا لأفكار ومشاعر تتعلَّق بهذه الثيْمَة التي ظلّت تتكرَّر إلى أن استنفدت تمامًا كما تقول، ليحدث بعد ذلك انقطاع عن الرَّسم دام لعشرة سنواتٍ متتاليةٍ. في هذه المرحلة تنقَّلت اللَّوحة بين الواقعيَّة والتجريديَّة التعبيريَّة وسواها من الاتجاهات الفنيَّة التي تُشير إلى فكرةٍ ما من خلال اللَّوحة أكثر ممَّا تُصرِّح بها، غير أنَّ الأبرز على المستوى التِّقنيّ هنا هو مُعالجة السَّطح التَّصويري والسَّلاسة التي كانت تقدُّم بها الفنَّانة أعمالها من خلال هذه الاتِّجاهات تبعًا لما تُريد أنْ تُوصله لمُتلقي عملها كالتعبير عن الغضب.

على الرَّغم مِنْ تَعدُّد الصِّياغات والأساليب والمضامين في أعمال الفنانَّة «فاطمة لوتاه»، فإنَّ وحدةً عامًّة تَجْمَعُها، تتبدَّى في أكثر مِنْ منحى وشكل، وتطال مُكوِّنات نُصُوصها البصريَّة كافة، بدءًا من الوسائل والوسائط والتَّكوينات، وانتهاءً بالمضامين والأطرُوحات الفكريَّة المُتمحْوِرة حول قضايا إنسانيَّة راهنة، مُرتبطة بحياة النَّاس ومَوْرُوثهم الشَّعبيّ في موطنها الأصليّ دولة الإمارات العربيَّة المُتَّحدة، وبالمَرْأة في العالم الثالث، وأحداث شَهِدها ويَشْهدُها عالمُنا العربيّ.

كمَّا لا بُدّ أنْ نذكُر أنَّ الفنانَّة تتبنَّى مِنْ خلال أعمالها الفنيَّة، قضايا الإنسانيَّة بشكلها الواسع والعام، فهي تُؤمن بأنَّ، العالم الذي نعيش على أرضه ما هُو إلَّا قرية صغيرة يجب أنْ يعيش فيها الكُلُّ سواسية بعيدًا عن التَّفرقة العُنْصريَّة بجميع أوجهها، لذلك نرى المعالجات الاجتماعيَّة والقوميَّة تأخذ حيِّزًا كبيرًا وبارزًا في تجربتها الفنيَّة، فكونها تعيش في الغُربة، في مدينة «فيرونا» الإيطاليَّة، وتَحْتَكّ بالمجتمع الأوروبِّيّ باستمرار، وجدت لزامًا عليها، أنَّ توضيح حقيقة ما يُشاع هُناك عن العرب، مِنْ خلال تبنِّي القضايا المُهمَّة، إضافة إلى تَجْويد تَجْربتها الفنِّيَّة لكي تُثبت لهم، أيّ المُجتمع الأوروبِّيّ، بإمكانيَّة وصول العديد من الخبرات العربيَّة إلى أعلى المُستويات العالميَّة إذا كان صادق التَّجربة ومثابرًا على البحث والتَّجريب .

مَزَجت الفنَّانة «فاطمة لوتاه» بين الرَّسم وفنّ الأداء، فكانت تَرْسُم أمام الجُمهور بعد أنْ تكون قد اختارت القضيَّة التي يتمَحْور حَوْلها ما سترسمه وهي تؤدِّي أمام الجُمْهور دَوْرها الحقيقيّ.

ويَنْبغي أنْ نذكُر أنَّ الفنَّانة قد استخدمت ـ إضافة إلى اللَّوحات كبيرة الحَجْم (8 أمتار) وطريقة عَرْضها ـ العديد مِنْ الخامات بدلًا من القُمَاش والورق، فقد استخدمت في أعمالها الأخيرة الخامات الشَّفّافة المصنُوعة من البُولسترين لتضعها سواء على شكل مُعلَّقات تُوضع على الجُدْران، ولكن ليس بالطَّريقة التَّقليديَّة، وإنما باستخدام الألوان الشَّفَّافة وبتسليط النّور الاصْطناعيّ (الكهربائيّ) سواء مِنْ الدَّاخل أو الخَارج لتَزْداد شفافيَّة تلك الألوان فتُظهر الحروفيَّة المُتغنية بالحَرْف العربيّ وأشكاله اللَّامُتناهية مُعبِّرة عن النّور الإلهيّ مِنْ خِلال آياتٍ تُعْطي هذا المَعْنى، كالله نُور السَّماوات والأرض، ونُور على نُور.. وهكذا، ليُصبح المُتَلقي جامعًا لجماليَّة العمل الفنِّيّ بُعدًا رُوحيًّا، إضافة إلى البُعد العاطفيّ الغنائيّ. وفي المجال نفسه، نراها قد عملت هذه الأعمال على شكل اسطوانيّ ووضعت النّور داخلها مع الكتابات الدينيَّة التي تظهر أحيانًا واضحة وأحيانًا أخرى مِنْ خلال النّور المُنبعث منها، وهذه الأعمال هي التي فازت بها في مُلتقى الخط في دورته الخامسة بمدينة الشَّارقة.

ودائمًا ما تُضْفي الفنَّانة شُرُوقًا مُتميِّزًا على سُطوح لَوْحاتها، فالأشكال والإيقاعات والمُفْردات المُتداخلة والمساحات اللَّونيَّة التَّجريديَّة والتَّعبيريَّة، وما تحمله الموضوعات من أفكارٍ مِنْ خلال التَّعامُل على ترويض المساحات وتكثيف إيقاعاتها اللَّونيَّة، فتتداخل فيما بينها ضِمْن مَرْكزيَّة الفِكْرة، لتحوّل كُلّ ما يجول برُوحها إلى فيضٍ مِنْ الألوان المُتداخلة والمُتجاورة، تَخْتزن نَكْهة مِنْ مِزاج شَرْقي يَشعّ بسُطوع لَوْني متأثرة في قوَّة حرارة الشَّمس، وفضاء البَحْر، فتُعطي معنىً حقيقيًّا لنتاجها الفنيّ.

في أعمالها كافةً، لا تُغادر «فاطمة لوتاه» الضِّفَاف الواسعة للواقعيَّة، ولا تَرْتاد بها عوالم تَهويميَّة غامضة، وإنَّما تَرْبطها بقُوَّةٍ وحميميَّةٍ بزمكانيَّة مُحدَّدة، وبموضوعاتٍ إنسانيَّةٍ شَفيفة، طَازجة، حَيويَّة، وجوْهريَّة، جعلت منها فنَّانة طامحة إلى تغيير الحياة والعالم، سيَّما بعد أنْ جَمَعت فيها ببراعةٍ، بين العمل والحُلم، ومزجت بين إرْهاصات الدَّاخل وشغب الخارج، في محاولةٍ منها لتجميد اللَّحظة الانفعاليَّة التي تَهُزّ كيانها، بعد أنْ تقُوم بإذابتها بالشَّأن العام، مدفوعة بشعارٍ، يقول: على الفنَّان أن يتحرَّر من التَّبعيَّة للواقع، ويتجاوزه إلى واقع آخر، يكون أكثر تطابقًا مع عقله ورُوحه وعاطفته ومِزاجه الخاصّ، ومع أحْلام وآمال وتطلُّعات النَّاس إلى الفوز بحياةٍ عادلةٍ، مُسْتقرة، وكريمة.

مِنْ أهمِّ معارضها نذكر، المَعْرض الذي أقيم بـ «فرنسا» عام 2002م، وفي عام 2006م، أقامت الفنَّانة معرضًا في غاليري «آرت تروا» الشهير في العاصمة الفرنسيَّة «باريس». وقد عكست اللَّوحات المعروضة التي سيطر عليها اللَّونان الأحمر والأصفر البُرْتُقاليّ حنينًا إلى وطنها خاصَّة إلى الصَّحْراء وتكوينات الرِّمال وأمواج البحر التي أبْدَعتها على سطح لوحاتها في تشكيلاتٍ فنيَّةٍ عَفْويَّةٍ مُتنوِّعةٍ. هذا.. وقد قال النَّاقد الفنيّ الفرنسيّ «جي بيشو»: «إنَّ أعمال الفنانَّة الإماراتيَّة فاطمة لوتاه تعكس جمال الرُّوح للمرأة العربيَّة مع لحظات للسَّعادة والحُزْن والغضب والألم، وهي في النهاية تُعْطينا رُؤْية حديثة للمرأة العربيَّة».

وفي عام 2009م أقامت الفنَّانة معرضًا في مدينة «دُبي»، بعنوان: «غَزْلٌ»، والذي افتتحه «إبراهيم بو ملحَّة»، مُستشار صاحب السُّموّ الشَّيخ «مُحمَّد بن راشد آل مكتوم» للشُّؤون الثقافيَّة والإنسانيَّة، والذي قال عن الفنانَّة «فاطمة لوتاه»: «إنَّها أكثر مِنْ فنَّانة، بل هي مُهندسة مِعْماريَّة تَعْرف أين تَضَع لوحتها، تارة على الأرض وتارة على الجِدار وتارة في الماء، وتارة محلقة في السَّماء أو مُنْطوية داخل دفتر ذهبيّ يعجّ بالألوان».

وقد تميَّزت لَوْحات هذا المعرض بانتماء الفنَّانة ووفائها لبيئتها مُسْتَوحِيَة ألوانها وأجْوَاءَها، لنجد السَّجاد والسَّدُو (هو أحد أنواع النَّسيج المُطرَّز البدويّ التَّقليديّ)، ولكن كألوان حارة تَسْبَح في فضاءات اللَّوحة مُندمجة مع كلمات الشِّعْر التي تذوب رقة لتتناغم مع نبضات الشَّاعر وصوته، فمن خلال التَّضادّ اللَّونيّ بين الأحمر بكُلِّ درجاته، تظهر ألوانها المتماهيَّة مع نَبْض الشَّاعر وكأنَّها عِنَاق عاطفيّ يمنح العمل إحساسًا حالمًا ينغمس في مُتناهيةٍ لَوْنيَّةٍ وسيمفونيَّةٍ غنائيَّةٍ تَصْدَح بكُلِّ القيم العاطفيَّة والوجدانيَّة.

وفي معرض «وطن»، عام 2013م الذي أقامته الفنَّانة «فاطمة لوتاه» في الجاليري الخاصّ بها في منطقة «الفهيدي» التُّراثيَّة بدولة «الإمارات العربيَّة» في البيت رقم (35)، استطاعت أنْ تُجسِّد عِشْقها لوطنها الأثير إلى قلبها، حيث تعمَّدت إظهار هذه العلاقة على مُسْتَويين، الأوَّل: مع البُورْتِريه والوُجُوه المحليَّة، والثاني: مع البيئة الصَّحْراويَّة مختارة الأحْصِنَة والجِمَال التي جسَّدتها في لقطاتٍ مُفعمةٍ بالحياة والحركة. وقد أبدعت الفنَّانة حينما تركت كُلّ لوحةٍ مِنْ لوحات المَعْرض تَرْوي حكايتها الخاصَّة، وبَوْحهَا المُنْفرد، لتتكوَّن في النِّهاية مَجْمُوعة مِنْ القصص اليوميَّة والحياتيَّة، لمُجْتمعها المحليِّ الإماراتيِّ.

أمَّا مجموعة لَوْحات «نساء» التي احتضنها هذا المعرض، فنجد أنَّ الواقعيَّة التَّعْبيريَّة المُخْتَزلة (التي تَجْنح فيها أحيانًا نحو التَّسْجيليَّة التَّزْيينيَّة) قد طَغَت على غالبيَّة اللَّوْحات، والمُعَالجة بمَقْطُوعاتٍ تكوينيَّة مُتباينة ومُبْتكرة، غاب منها أو كاد، البُعْد الثَّالث (المَنْظور)، فالخلفيَّات فيها إمَّا مساحات واسعة بلَوْنٍ واحدٍ، أو بقع لونيّة واسعة، تقوم بتثبيت شخوصها عليها، ضمن تكوينات مدروسة، جديدة، طريفة، مدهشة، ومتنوّعة، فقد تحتلّ هذه الشُّخُوص رُكنًا قصيًّا وصغيرًا مِنْ جَنَبات اللَّوْحَة، أو تستقرّ في وسطها. وهي إمَّا بلَوْنٍ واحدٍ، أو بلَوْنين وتَدَرُّجَاتهما، أو غارقةٍ بمهرجان مِنْ الألوان الحَارَّة والباردة، الغامقة والفاتحة. وهي مَفْصُولة عن الخَلْفيَّة، أو مَدْمُوجة فيها.

وفي عام 2014م أقامت الفنَّانة «فاطمة لوتاه» مَعْرضًا بعُنْوان: «اللقاء والتَّسامُح» بقاعة «ندوة الثَّقافة والعُلُوم» في «دُبي». في هذا المَعْرض خاضت الفنَّانة تجارب جديدة في الإبداع مُسْتَفيدة مِنْ تنوُّع استخدامات الحاسُوب (الكمبيوتر) اللَّامَحْدُودة. حيث قدَّمت (15) عملًا فنيًّا رائعًا في استخدام تقنيَّة «الدِّيجيتال». وهي تقنيَّة حديثة يَسْتخدمُها العديد من الفنَّانين المُعَاصرين اليوم بقصد التَّنفيذ الدَّقيق للفكرة الأصليَّة للعمل التَّشكيليّ. إضافة إلى تقديمها العديد مِنْ اللَّوحات الزَّيتيَّة أيضًا.

وفي عام 2016م أقامت الفنَّانة «فاطمة لوتاه» معرضاً في ندوة الثَّقافة والعُلُوم في «دُبي»، بعُنْوان: «حضن من النُّور»، افتتحه الشَّيخ «نهيان بن مبارك آل نهيان» وزير الثَّقافة وتنمية المعرفة، وقد حضر الافتتاح «سلطان صقر السّويدي» رئيس مجلس إدارة الندوة.

تضمَّن المعرض (24) عملًا فنيًّا و(3) مُجسَّمات، والمَعْرض يُكْمل المسيرة التَّأمُّليَّة للفنَّانة، التي تَمْزج بين التَّشكيل والرُّوحانيَّات لتخرج أعمالها بهالةٍ مِنْ النُّور، وتتأسَّس على رُؤْية تصوُّفيَّة للحياة، تسعى من خلالها إلى السُّمُوِّ بالرُّوح في مَدَارج الإيمان، وتمثيل ذلك السمُوّ في صيغ تَشْكيليَّة تَجْريديَّة مِنْ الألْوَان التي تَنْتَظم في إيقاع يُعْطي ملامح حُرُوفٍ مُجرَّدةٍ، وسوف يكتشف المُتأمِّل لتلك الإيقاعات التَّمْثيليَّة الخطيَّة ظلال نُصُوص لكبار الصُّوفيِّين، خاصَّة «رابعة العدويَّة» (717 - 796م)، التي أفردت لها الفنَّانة عملين مُجسَّمين مِنْ مادَّةٍ بلاستيكيَّةٍ طَلَتْها بالأحْمَر والأزْرَق وأعطتها شكل رقّ جلديّ، وكتبت فيها أبياتًا مُتداخلة مِنْ أشعارها الصُّوفيَّة.

وفي لَوْحات هذا المَعْرض يُمكننا أنْ نرى ظِلال الحُرُوف طافية على سطح بُقع ضوئيَّة، وقد انسجمت مِنْ حَوْلها الألوان، وقد اختارت الفنَّانة أنْ تجعل ألوان كُلّ لَوْحة مُنْسجمة بين الألوان الفاتحة والغامقة، فحين تجعل أساس لوحة ما اللَّون الأصْفَر فإنَّها تُنظم معه الألوان الفاتحة، فيبدو الجوّ العامّ للوْحَة يُوحي بالانشراح، أمَّا حين تَخْتار للّوْحَة أخرى الأخْضَر الغامق، فإنَّها تُنظم معه ألوانًا غامقةً أيضًا، ليبدو النُّور الذي تَصْنَعُه في وسط اللَّوحة ساطعًا، مُوحيًا بأملٍ وسط الظلام.

وقد تمكَّنت الفنَّانة «فاطمة لوتاه» مِنْ عَرْض بعض أعمالها الفنِّيَّة على واجهة بُرْج «ناسداك» Nasdaq في «نيويورك» العاصمة الأمريكيَّة بميدان «تايمز سكوير» Times Square، في عام 2018م، وقد اخْتِيرت الفنَّانة ضمن برنامج أَطْلقته شركة «ناسداك» لتُدَعِّم الفنَّانين المَحَلِّيِّين، وذلك بعرض أعمالهم أمام المارَّة في سُوق الأسْهُم الأمريكيَّة، وزُوَّار ساحة «تايمز سكوير» في «نيويورك». وقد جاء في موقع «ناسداك»: «نجد الإلهام في أعمال الفنَّانين النَّاشئين كُلّ يوم. ويُسعدنا أنْ نُسلِّط الضَّوء على أعمال هؤلاء الفنَّانين المَوْهُوبين ورُؤْيتهم الفريدة والمُلْهمة». بينما قالت «فاطمة لوتاه» في لقائها الذي نُشر على مَوْقع الشَّركة: «السَّفر يَعْني الاتِّصال بحضارة الآخرين. إنَّه الثَّرَاء الذي تَكْتَسبُه وهذا الثَّراء يَجْعلك شَخْصًا أفضل. أن تكون شخصًا أفضل يَعْني أنْ تكون فنَّانًا أفضل يَسْتطيع أنْ يَعْكِس هذا الجمال في أعْمَاله».

وفي عام 2019م أقامت الفنَّانة «فاطمة لوتاه» بالاشتراك مع الفنَّانة البحرينيَّة الشَّيْخة «هلّا بنت محمَّد آل خليفة» معرضًا بعُنْوان: «الأرْض»، والذي أقيم في جاليرى ورد بالشَّراكة مع هيئة دُبي للثَّقافة والفُنُون، وقد شهد افتتاح المَعْرض الفنَّان «فاروق حُسني» وزير الثَّقافة المِصْريّ الأسبق. كما حضر افتتاح المَعْرض الأديب «مُحمَّد المُر»، رئيس مجلس إدارة مؤسَّسة مكتبة محمَّد بن راشد، والشَّيْخَة «مَي بنت مُحمَّد آل خليفة»، رئيس هيئة البحرين للثَّقافة والآثار، ولفيف مِنْ المُثقَّفين والفنَّانين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها