 بقلم عمر الحمود-غلاف.jpg)
يُعطي الروائي إبراهيم الخليل الدور الريادي للمكان في رواياته، ومنها رواية حارة البدو (طباعة دار التنويرـ بيروت 1980- تقع في 99 صفحة من القطع الوسط). وتندرج ضمن الرواية القصصية القصيرة؛ كرواية المعطف لغوركي، ورواية ليس لدى الكولونيل من يكاتبه لماركيز وغيرها.
تتحدث الرواية عن مدينة الرقة في خمسينيات القرن الماضي، بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي وانتشار الجمعيات الفلاحية، تلك المرحلة الفاصلة بين مرحلة القرى الكبيرة، وتحولها على استحياء إلى مدنٍ صغيرة.
وتسلّط الضوء على الدرب القادم من الكويت إلى مدينة الرقة السورية، وصولاً إلى حارة شعبية تسمى حارة البدو، تقع على طرف المدينة الآخذة بالتوسع، والمكان فيها ملك للعامة تسلّط عليه متنفّذ، وباعه للفقراء الوافدين ليقيموا عليه أكواخهم وعششهم، ومن وجهة نظر تنظيمية لا مستقبل للحارة، وتعدّ في رسم الزوال، ولأمثال هذه الحارة من أكواخ التنك والفقراء أمثال في المدن الكبرى كدمشق وبيروت وباريس.
ولو نظرنا إلى العنوان لوجدنا أنه يتألف من كلمتين، ويشير إلى مكانين متضادّين، فكلمة حارة تشير إلى بيئة حضرية (مكان ثابت) يندرج ضمن توصيف المدينة، وكلمة بدو تشير إلى بيئة بداوة (مكان متحرك) يندرج ضمن توصيف البادية، وحين وقفنا عند المكان في الرواية وجدناه يتسم بسمةٍ أساسية صارخة هي سمة (البؤس).
فقر المكان البري
بدءاً من انطلاقة رحلة الغريم بحثاً عن غريمه من الكويت إلى الشمال السوري، نجد فقر المكان وسموم الصحراء، فهو عراءٌ أجرد بائس، ولو نهدت فيه كثبان رمال وتلول أو هضاب، أو أطلال قديمة لأقوامٍ غابوا، وبقيت الشواهد تنطق بماضيهم، وكأنهم أرواح هائمة. وهذا العراء الواسع ينساح مدّ البصر، وبصمتٍ بدائي ثقيل، يُتعِب القلب ويثير الجنون، القاعدة العامة في ذلك العراء: لا شجرة تهتزّ فيه ولا بشر يترنّم: (عراء قاحل، يدخل الأعصاب كالإبر واخزاً أصم، في وحشيةٍ هتّاكة تُوقظ كلّ مشاعر القسوة النائمة منذ عصور قديمة) [ص: 13].
ويُستثنى من هذه القاعدة وجود شجيرات صحراوية؛ كالشيح والقيصوم والنيتول والصرّ تكيّفت مع الجفاف والهجير، وبروز بويتات متناثرة هنا وهناك في ذلك العراء المترامي الأطراف كأكواخٍ بدائية مفتوحة على الخلاء من كلّ الجهات، أو محاطة بتصوينةٍ من رزم الشوك والعاقول والشجيرات الرعوية، بناؤها من الطين والقشّ أومن الشَعر، تهجع الحركة فيها مع الغروب، وتتراقص ذبالات ضوء شاحبة من نوافذها لتميّزها عن المقابر، وحول هذه الأكواخ حيوانات هزيلة من غنم وماعز وكلاب، ومشاهد هذه الأكواخ أو القرى الصغيرة الراضخة تحت الهجير يتكرر برتابةٍ وبإيقاع ممل، ونقرأ في وجوه البشر الجافة أسفاراً من سوء التغذية والتعب من طلوع الشمس وحتى مغيبها، وقد سلخت حرارة الشمس جلود أرجلهم، وأكلت من لحمهم حجارة دروب طويلة تمتد بلا نهاية، تطرقها قوافل العربان في بحثها عن الماء والمرعى، وقد اعتادوا على بؤس المكان وشظف العيش والجوع والمرض.
وبين المسافة الطويلة وأختها، وعلى طول الطريق الملتهب هناك بعض الاستراحات المتواضعة، التي تتكون عادةً من غرفة طينٍ وسيعة، تفوح منها رائحة الدخان والعرق وروائح البشر، وتقدّم للمسافر الذي يؤمّها للراحة شاياً أسود ثقيلاً، أو عكراً، وكراسيها خشبية قديمة، وطاولاتها عتيقة، تلتصق بها بقايا الدهن وأعقاب السجائر الرخيصة، ونُدلها بأسنانٍ نخرة، وزنودٍ معروقة، وعيون ماكرة، أكلها الغبار والرمد والأمراض المستوطنة.
وإن وُجِدَت أمكنة صغيرة متنقّلة كالسيارة فهي تتحول في القيظ إلى فرنٍ ملتهب وخانق.
فقر المكان في الحارة
نحن أمام حارة شعبية مهمّشة، بُنِيت بلا تنظيم، تشكّلت من المهاجرين من الريف، فأقاموا أكواخاً من الصفيح والحجر الغشيم، وجذبت إليها فئات أخرى، تسمى مثيلاتها في المدن الأخرى مدن التنك أو ضواحي الصفيح، وقد عزلت المدينة هذه الحارة، ونبذتها وكأنها مكانٌ موبوء، أو بَثرة تشوّه وجه المدينة: (بيوت الطين تصطف بغير انتظام، أكثرها لا يزيد على غرفة مستطيلة وباحة واسعة للخراف والدجاج والماعز والكلاب، وبين لحظة وأخرى تهب زوبعة من الغبار والورق، فتضيف إلى الشارع تعاسة جديدة) [ص: 37].
وشوارع الحارة ضيقة متعرجة ترابية فيها أكوام حجارة وأكداس الزبالة وأسراب الذباب، والأطفال بجلابياتهم الممزقة، ووجوههم السمر التي امتصها المرض وسوء التغذية والجوع، والنساء يتكوّمْن على عتبات البيوت، يترقّبن أو يتحدثن عن الغادي والرائح في الحارة.
وأغلب البيوت جدران متآكلة، تتألف من غرفتين مسقوفتين بالتوتياء أو الطين والخشب، فراشها لبابيد لا أكثر، وقد تلحق بالغرفتين باحة سماوية، وكوخ بلا سقف يسمى مطبخ، ولا تتوفر في البيوت أدنى مقوّمات الراحة.
أمام هذا البؤس المدقع لا تهتم السلطة إلا في تحقيق مصالحها، فحين حضر رئيس المخفر بكرشه الضخم، ووجهه المنفوخ نظر إلى حالة البيت الرثّة باشمئزاز، فلا مصلحة له بإطالة البقاء فيه، فلا ذبيحة له ولا علف للخيل، فأخذ المعلومات التي يريدها، وخرج على عجل.
وتنظر السلطة إلى البسطاء نظرة دونية، يقول الأستاذ المسؤول جازماً بنجاح عملية إزالة الحارة من الوجود، وتغيير صفة المكان من مكانٍ بائس قديم إلى مكانٍ ثري عصري: (لن يعترض أحدٌ، أعطني شرطياً واحداً أرحّلهم إلى الحدود، فهذه الحُثالات تعلّمت الذلّ) [ص: 86].
وفوق البؤس يأتي ظلم السلطة، فالبلدية تعتبر الحارة منطقة مخالفات وأبنية بائسة لا تستحق الوجود، وتريد إزالتها، هذا في الظاهر، وفي الباطن نسج المكائد والتخطيط لبيعها لتجار الأراضي والبناء الذين ازدهرت أعمالهم.
كان صغار البلدية والآثار يغزون الحارة، وتُبعد الحارة شرهم عنها برشوات صغيرة، وبمرور الزمن وتشعّب العلاقات بدأت غزوات الكبار للحارة. قال الأستاذ لبعض التجار والمتعهدين: (الأرض ستكون جاهزة خلال أسابيع، قرار الهدم والإنذارات، كلّ شيء جاهز، ظلّ التنفيذ) [ص: 86].
والآثار تريد ترميم السور الأثري، ويتطلّب هذا إزالة البيوت الواقعة في حرم السور، ولن يتوقف مسلسل الهدم والبيع والمعاناة عند الحارة، ولم يشبع الطامعون بسطوهم على مكان الأحياء، فامتدت أياديهم إلى مكان الأموات، ورُحِّلت المقبرة إلى منطقة تل البيعة.
يقول سوادي الدهش: (المقبرة حوّلوها إلى مقصف لأنّ رئيس البلدية السابق كان يحب الخمور، فليفتحوا هذه مبغى إذاً، فالأستاذ الجديد يحب النساء) [ص: 92].
إننا أمام مكان بائس منبوذ معتم لا بصيص نور فيه، وإن وُجِد هذا البصيص فمكانه ليس في الحارة، بل في المقبرة حيث الشواهد وشجيرات السرو الهزيلة التي تأوي إليها الكلاب الشاردة (لقاء هاشم ومحبوبته).
الثأر عادة.. وطقس وتقليد يفرضه المكان
انتقال البدو إلى الريف أو الحارات المدنية تبعه انتقال عاداتهم وطقوسهم من المكان القديم (البادية) إلى المكان الجديد (الحارة في المدينة)، ومنها عادة حمل السلاح للدفاع عن النفس ضد الطامعين وقطاع الطرق واللصوص، وفي المكان الرقي تتهاون السلطة، أو تضمر تشجيعها على الثأر لزرع الفتنة بين القبائل، وإشغالها عن سلبيات حكمها إضافة لفقر المكان وقسوة الطبيعة وانتشار الجهل، والثأر هو حدث الرواية المركزي، ولكون مسرح الرواية هو المكان الرعوي والمكان الريفي، وما الرقة إلا قرية بدوية كبيرة، نجد هذا المكان وعبر جانب من إرثه الدموي يشجّع على الثأر، ولا يعتبره جريمة، ومن قام به يتباهى بفعلته، ويشهرها بين الناس، ومن مظاهر هذا الإرث إنكار أهل القتيل معرفة القاتل، والاستغناء عن خدمات الدرك والاعتماد على الذات في إدراك الثأر.
واعتقاد كثير من العامة: إنّ روح القتيل تظلّ قلقة حائمة، ولا تهدأ إلا بأخذ الثأر: (لأكثر من شهرين كنت أرى (عامر) يخرج من قبره، هيكلاً من العظام واللحم الأسود، ويتجه بثقة نحو البليخ، يعتسف الطريق كالبعير، وحين يصل يرتهج الماء، فيخوض، ومن ثديه الأيسر يتدفّق الدم، حاراً نديّاً فيلوّن النهر، ثم يغوص، وتبقى يده اليسرى تستنجد وصرخة مكتومة تملأ العراء) [ص: 37].
والأمثال الشعبية المحرّضة على الثأر: النار ولا العار...
ونبذ من يتقاعس في هذا الأمر واتهامه بالجبن: لا يأخذ ثاراً، ولا يزيل عاراً.. ولا يموت حق الثأر بمرور الزمن، ففي مرويات المنطقة مقولة مشهورة تقول: أخذ البدوي ثأره بعد أربعين سنة وقال: استعجلت.
وخلال عشرين عاماً تجوّل خالد الحمدي في أماكن عديدة، وهاجس الأخذ بالثأر لا يفارقه، فعاد من الكويت في رحلة انتظرها عمراً إلى المكان الأول مكان مقتل والده ليقتل الجاني حسب شريعة المكان التي آمن بها الإنسان.
التجذّر في المكان
على الرغم من بؤس المكان يرى القاطنون فيه جنّتهم: (صحا في داخلها الخوف والعذاب والتعب القديم، السير حافية في البراري وراء الخراف والأحجار التي تفري اللحم الطري) [ص: 47].
وحين حاولت البلدية هدم الحارة، دافع سكان الحارة عن المكان، وقدّموا الغالي والرخيص، واجتمعوا حين جاءت البلدوزرات لهدمه، وكأن لسان حالهم يقول للسلطة: تركنا لكم كلّ شيء، فاتركوا لنا الحارة، دعونا في مكاننا البائس المسحوق، ولكم قصوركم الباذخة بالثراء والحياة.
وحين لم يجدوا آذاناً صاغية لم يقنطوا، اجتمعوا على قلب رجلٍ واحد، وأعلنوا الحرب على البلدية لعلّها تُثبّتهم في المكان، وتُبعِد جشع السلطة عنهم، وأشعل شرارتها مقتل طفل من الحارة تحت البلدوزر، يقول سائق البلدوزر مشهور العاني: (رأيته، كان صغيراً وسخاً، وأكرت الشعر، رفع يده اللعينة، وبسرعة كان الحجر يجد طريقه إلى رأسي، غبت عن الصواب، ابن الحرام يجيد رمي الحجارة، وهو يضحك، لم ينتبه لأبي عبدو القريب منه، فلبطه بحذائه العسكري، ثم كل ما سمعته بعد تلك اللحظة السوداء: الولد.. راح الولد، وانفتح باب جهنم، اندفعت الجموع كالسيل تسبقها الحجارة والعصي وعلب التنك الفارغة والصيحات، مخلوقات خرجت من جلد الفئران كالذئاب، تسب وتلعن وتهاجم، ورغم جعير أبي عبدو وشجاعته هرب أولاد الحرام الشرطة، أوه كلّ عضلة في جسدي رضّها حجر، إني معطوب، دعوني أنام) [ص: 93].
ولإتمام الصورة البائسة للمكان تأتي النهاية بلونها الأسود لتضيف إليه بؤساً آخر إلى بؤسهم، فتمّ هدم بيوت الحارة وأكواخها، وصار مكانها قاعاً صفصفاً، ليُباع فيما بعد مقاسم للسادة، وأحيل الأهالي العصاة -في نظر السلطة- إلى القضاء بتهمٍ عديدة: الإخلال بالأمن -الاعتداء على أملاك الدولة- ممانعة تنفيذ مهمة رسمية.
هكذا أزال الخليل الستار عن المكان في حارة البدو، حارة الفقراء، وبفعله هذا ظهر عري المكان وبؤسه، وفي الوقت ذاته تمت تعرية السلطة القائمة حينها، مما جعل الدكتور عبد السلام العجيلي يقول في تقديمه للرواية: إنّ قول الشاعر الهجّاء دعبل بن علي الخزاعي ينطبق على الخليل لصراحته: (أحمل خشبتي على كتفي منذ أربعين عاماً، ولا أجد من يصلبني عليها) [ص: 10].
كان المكان الفاعل الأساسي في الرواية، وقال لسكانها المخلّطين كسليقة الست: أنتم في بؤس فادح، وأنا في بؤس جارح، والقطبان المتشابهان يتنافران وفق قوانين الفيزياء، أو هالك لا يحمل هالكاً كما تقول الأعراب، فارجعوا إلى القرى والبراري، فالمدن لا ترحم.