الثقافة ليست ترفاً!

إنّما ضرورة لتشكيل عقل الإنسان

وجيه حسن

مما لا يختلف حوله اثنان من متتبّعي الثقافة والعاملين في حقولها والحاملين لواءها، أنها تقوم بدور مهمّ وأساسي في تشكيل عقل الإنسان ووعيه وتطلعاته، وهو دور لا يمكن أن يُترَك للمصادفات، أو التّلاعب في السوق، أو بأيدي المنادين بفكرة (أنّ الدولة وحدها لا تستطيع إيصال الثقافة إلى الفئات الضعيفة في المجتمع، وإلى المناطق المحرومة والمُهمّشَة و"مناطق الظل"، كما تُسمَّى في بعض الدول العربية)، و"أنّ الثقافة هي من الشؤون الخاصة التي ينبغي أنْ تُترَك للنشاط الفردي والخاص، ولا دخل للدولة بها على وجه القطع والإطلاق"... وإنّما الصحيح والمنطقي والمجدي، أن تتدخّل الدولة بكلّ ثقلها في هذا الدور، كي تحمي عقول أبنائها من المؤثرات السلبية والتجارية والمادية المرفوضة جملة وتفصيلاً وقولاً واحداً، ومن تبعات "الغزو الثقافي" الذي يُدغدغ أحطّ المشاعر، مستغلاً جوانب الضعف لدى شريحة أو شرائح من الناس، لتحقيق مآربه الساقطة.

ولعلّ الدليل الساطع على ذلك، أنّ دول العالم الثالث تتّجه بصورة عامة إلى الأخذ بمبدأ "تدخّل الدولة في الثقافة"، على الرّغم من التباين الشّديد بين أنظمتها الاجتماعية، وعبّر هذا الموقف عن وعيٍ متقدّمٍ واضح، بأنّ الثقافة –ولاسيما لدى الشعوب التي تعمل من أجل التحرّر والتنمية ورفض التبعيّة– أخطرُ من أنْ تُترَك لعبث الأيدي التي تتحكّم فيها، قصْد تحقيق المزيد من الأرباح والمغانم.

وبرأي أحد الباحثين، فإنّ "الثقافة هي تراث حضارة.. ومن الناحية المثالية لا وطن لها، فكلُّ الأرض مجالها، والزّمن على امتداده هو عمق تطوّرها، وهي لا تنحصر في جماعة من البشر دون أخرى [محمد فائز القصري "الثقافة الإسلامية وأثرها في النهضة الأوروبية"، ص: 98].

كما عرّفها بعض علماء الاجتماع والتاريخ بأنها: "مجموعة مظاهر الرقيّ الفكري والعمراني والسياسي لأمّة من الأمم، وفي عصر من العصور، ويدخل في نطاق مفهومها رقيّ المجتمع في قوم أو وطن أو دولة".. ولكن هل فينا مَنْ يخالف رأي بعضهم "بأنّ واقعنا العربي بعامة يتّسم بضحالة الثقافة، وكثافة التخلّف"؟ ومَنْ ذا الذي يختلف مع غيره في أنّ الثقافة "هي الهيكل الأساس للحضارة في مختلف مظاهرها، وأنّها نمط حياة يقوم على منهج، وأنّ المثقفين هم القاطرة التي تقود قِطارَ الحضارة، وتمضي به إلى المستقبل، فهم ولا شك الصّفوة من المفكرين والمبدعين الذين يقومون بعملية ترشيد المواطن وتوعيته، وتكوينه عقليّاً ووجدانيّاً"! من هنا، فإنّ لُبّ المشكلة التي يدور حولها الجدل والحوار، هو "غياب هذا كله"؛ لأنّ دول العالم الثالث -في أغلبها الأعمّ- تعتمد على نماذج ثقافية، كثيرٌ من مكوّناتها مُستورَدٌ غريب، تعكس قيم التعامل الغربي، ونمط حياته وثقافته وأساليبه، وعندئذ تتآكل "الذاتية الثقافية" لدى شعوب العالم الثالث، على الرّغم من أنّ هذه الشعوب وارثة ثقافات أقدم عهداً، وأكثر ثراءً.

وإنّ من أهم الأهداف التي يسعى "النظام العالمي الجديد" إلى تحقيقها وصياغتها، "عملية تنميط العالم ثقافياً"، يعني "العمل على تعميم النمط الثقافي العولمي الأمريكي على الكون كلّه"، وذلك بمختلف الوسائل والآليات "الميكانيزمات" والطرق والأساليب، ابتداءً من "ثقافة البيبسي، والكوكا كولا، ومطاعم ماكدونالد وكنتاكي، وأفلام "البورنو"، والأفلام البوليسية، والمجلات الخليعة، وملابس الجينز والرّوك والكاوبوي، والشّرطي البهلوان، والطبيب العبقري الذي يكتشف كلّ الجرائم، والأمريكي الفرد الذي ينتصر على كتيبةٍ من الألمان، أو اليابانيين الأغبياء... وعليه كيف نستطيع دفع الأذى عن أجيالنا الصّاعدة؟ وكيف نحميهم من أخطبوط هذه العَوْلَمة التي دهمتنا في عقر بيوتنا ودوائرنا ومؤسساتنا؟ "ما دامت تلفزيونات الوطن العربي تملأ ما بين 45- 65% من ساعات البثّ بهذه الأفلام والمسلسلات والإعلانات، وتملأ الباقي بالغُثاء الذي تسمّيهِ حواراً ومسرحية ومسلسلاً عربياً أو مترجماً، وأغنية نوّاحَة لمطربٍ فاشل هزيل، ومباريات كروية..."، (الأمن الثقافي مَنْ يحميه) [د. شاكر مصطفى، مجلة "العربي"، الكويت - العدد 278 يناير –1981، ص: 20].

من هنا لا بدّ من أنْ يقاوم الغيورون من المثقفين العرب الدّور الخطِر الذي تلعبه المؤسسات العالمية في مجال السيطرة الفكرية والثقافية، نعني بذلك "الغزو الثقافي"، لخدمة أهداف التوسّع والسّيطرة الاقتصادية وسواها، إذ إنها نجحت تحت شعار "المساعدة على تطوير الكفاءة التكنولوجية في العالم الثالث" في خلق وتطوير التجانس بأنماط الاستهلاك، مع أنماط العالم المُتقدّم الاستهلاكية، وذلك من أجل تسويق منتجاتها، وتثمير أرباحها، ودفع عجلة اقتصادها قُدُماً إلى الأمام.

وطالما ظلّ العرب –من أسف- مجرد أناس مستهلكين، ذوي نزعات استهلاكيّة جنونيّة مُفرِطة، يعمّقها العقل الغربي المتقدّم ذو المنهج العقلي النّفعي؛ فإنّ قدرتنا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ستظلّ قاصرة وضعيفة ومهِيضَة الجناح.

إنّ الأقوى ثقافياً في عالم اليوم، هو الذي تُروَّج بضاعتُه الثقافية والإعلامية والدّعائية، وهي تتبع صناعاته وتقنياته واختراعاته، وإنّ "الغالب" في عصرنا الراهن، لا يريد أنْ يحتلّ أرضاً –كما كان دأبُه وديدنُه– بقدر ما يريد أنْ يفرض طرق حياة: طرق حياة في الثقافة، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، وأنماط التفكير، والوعي، وسوى ذلك... وهل ننسى أنّنا جزء من خارطة العالم الثالث، قد خضعنا لآليات أو "ميكانيزمات" التكوين الثقافي المعاصر، وهي آليات فُرِضَت علينا وعلى شعوب العالم الثالث الأخرى بالقوّة، وصورتها النهائية: "الهيمنة من جانب الغرب، والتبعيّة من جانبنا"؟ فهل يقبل بعضنا بكلّ هذا، ويركن إليه مستسلماً راضياً؟

وإذا كان معلوماً أنّ شعوب العالم النّامي تزداد كلّ يوم ضَعفاً وانهياراً، بينما يزداد العالم المتقدّم تصنيعاً وسلطاناً وحضوراً؛ فإنّ الكثرة الكاثرة لهذه الشعوب، لم تعدْ شيئاً مذكوراً في حساب القُوى، إنْ لم تستند إلى تكوينات ثقافية صلبة، ديناميكية الحيوية والأصالة، ولا بدّ من السّعي الدّؤوب للحفاظ عليها، وصونها من كلّ العاديات.. حتى المبادئ العظيمة والأديان المقدّسة، لا تحافظ على نفسها وكينونتها إلا من خلال بطولة أصحابها وصلابة حامليها، وإيمانهم المتجذّر الرّاسخ بالذي يقومون به.

إنّ "الثقافة المُضادّة" تُلحّ على اقتلاع قيمنا، والإصرار على هزيمة الرّوح والإرادة، وتجفيف مصادرهما، لذا فنحن مدعوّون في طول هذا الوطن وعرضه، إلى صَوْن جبهتنا الثقافية، خوفاً من أيّ اختراقات غريبة، وقد قيل: "أينما وُجِدَت الثقافة الحرّة يكون المجتمع حرّاً، ويبقى المثقف الحقيقي حارساً له من التغييرات المدمّرة"!

إنّ "العالم القرية"، الذي أصبحنا اليوم نعيش في خضمِّه وبحره، يفرض مسؤولية أعمّ وأشمل وأثقل على القادرين والمعنيين جميعاً، وعلى رأسهم طبقة "المثقفين" المتنوّرِين، فهم يرفضون محو الهوية والذات، وطمس السمات والصفات التي تجعلنا متمايزين عن غيرنا، في حياةٍ يندفع فيها بنو البشر جميعاً إلى توكيد الذات وحضورها في الميدان، على صورة تكتّلات وتجمّعات واتحادات.

ومجتمعنا العربي يحاول -ما وسعه الجهد- استشراف آفاق المستقبل، وبناء مداميك ولبِنات تشكّل صَرْحاً ثقافياً عظيماً، يحمل في تضاعيفه هيولى الآتي المنتظر، المملوء بالخصوبة والتجدّد والحياة.

فهل ثقافة الآخر الذي يطالبنا بتغيير قيمنا وثقافتنا وإرادتنا، تخلو هي الأخرى من تربية ورؤية واعتقاد ضبابي يتعالى على الآخرين، وتحتاج بدورها إلى مراجعة وتمحيص ومراجعة للذات؟ أم الضّعيف هو الذي يُطلَب منه دائماً أنْ يغيّر ثقافته وفق إرادة القوي ومصالحه ونرجسيّته الطاغية.

يقول الكاتب الكبير توفيق الحكيم: "ثقافة أيّ أمة هي الشّهد الذي استخلص منه الشّعب رحيقَ الزّهر في حديقته، على مرّ الأجيال وطبَعَه بطابعه وقدّمه لغيره"، فهل من المنطق والعقلانية بمكان، أنْ نتنادى مستسلمين على تغيير ثقافتنا، التي هي رحيق حياتنا ونبضها وقيمتها الحقّة؟! وفي مجتمعنا العربي هناك مَنْ يُسوّقون فلسفة مناقضة، ويهاجمون فكرة "تدخّل الدولة في شؤون الثقافة"، وحجّتهم في ذلك، أنّ هذا التدخّل سيؤدي حتماً إلى فقدان "صفة الحرية" لدى الكتّاب والمبدعين والمفكرين وأصحاب الرأي؛ لأنّ "الحرية" حسب مفهومهم ومنطوقهم هي "ألزم اللوازم للثقافة والإبداع والابتكار"؛ ولأنّ الثقافة عنوانها العريض: "ارفعْ رأسَكَ يا أخي".. وفي هذا السّياق فقد قال "أندريه مالرو" يوماً: "إنّ تاريخ الفنّ هو تاريخ الحرية"... وفي رأي فئةٍ من الناس، فإنّ الحرية السياسية حين تغيب في أيّ بلد من البلدان، تغيب معها الحيوية الثقافية. وتسبّب عن غياب المناخ الديمقراطي بالوطن العربي عجزُ المثقف العربي عن أن يبدع أدباً وفناً حقيقيين.

يقول "فريدريش هيجل" وهو فيلسوف ألماني: "كلّما كان المجتمع حرّاً، استطاع أنْ يحرّر الفكر، وأنْ يطوّره، وعندها فإنّ حضارة هذا المجتمع تتطوّر بالضرورة"، وكلّ هذا من الممكن أنْ يتمّ حين يعرف المرء ما لَهُ وما عليهِ إزاء وطنه الذي تربّى في أحضانه، ورعاه كأمّ رؤوم. وعكس ما يتوقع خصوم مبدأ "تدخّل الدولة في شؤون الثقافة"، فإنّ الإنتاج الأدبي والفكري الذي تصدّره وتموّله الجهات المعنية في أيّ بلد، على سبيل المثال، لم يُستخدَم من أجل فرض وجهات نظر معيّنة يتبنّاها نظام الحكم، أو تخدم مصالحه، إذ تنعكس على هذا الإنتاج غالبية ألوان الطيف الثقافي، وإذا كان هناك رقابة من جهة حكومية؛ فإنّها تسري على تلك الأمور المحظورة في معظم الدول العربية سواء بسواء، وهو ما اصطلح على تسميته بـ"التابوهات" أي المحظورات والمحرّمات والممنوعات.

قصارى القول: لقد استطاع الغزو بالمفهوم العام، أنْ يسارع إلى تغيير ملابسه، كي يدخل في حلّة جديدة عنوانها العريض: "التغريب الثقافي"، بمعنى آخر: إدارة العقول وتنميطها، من أجل الترويج لقيم وعادات وأنماط تهدّد الثقافة الوطنية والمحلية في هذه الدولة أو تلك، من دول المعمُورة المُتراحِبة الأطراف.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها