هل يؤثر الشعر على البناء السردي للرواية؟!

حـوار مع الروائي برهـان شاوي

حاوره: خضير الزيدي

برهان شاوي أكاديمي وروائي وباحث في النقد السينمائي، عاش بين ألمانيا وروسيا والعراق. أصدر العديد من الروايات والدواوين الشعرية، إضافة لترجمته لأهم مصادر الأدب الألماني والروسي، وحقق في الفترة الأخيرة مجالا رحباً في النص الروائي عبر سلسلة روايات أسماها (المتاهات)، وحققت تأثيرها في المتلقي ضمن الدرس الأكاديمي والمتابعة من خلال الثيمة في متنها وطريقة السرد في بنائها، وفي هذا الحوار نتناول معه أهم ما تتبناه رؤيته في إصداراته الأخيرة.


 


برهان شاوي


في نصوصك الروائية ثمة ما يثير التساؤل من أنك تلجأ للشعر وتعيد توظيفه في طريقة سردك، هل ذلك حنين للشعر وتذكر لماضيك؟ أم لا؟

نعم، أتفق معك فهذه ملاحظة دقيقة، فقد توجهت إلى الرواية بروح الشاعر. لقد قضيت ما يقارب الأربعين عاماً وأنا أكتب الشعر، وأصدرت سبع مجموعات شعرية منذ السبعينات، وترجمت أربع مجموعات شعرية لشعراء روس عن الروسية، وتوجهت إلى الرواية لكني كما قلت، توجهت للرواية بروح الشعر الذي يهيمن على روحي، فالبناء السردي لرواياتي يعتمد على بؤرة شعرية، سواء في الحبكة أو اللغة أو الحوار. تهمني الشعرية وليس الشعر، فالشعر جنس كتابي فني أدبي، وهناك آلاف القصائد التي لا علاقة لها بالشعر، بينما هناك روايات تتألق بالشعرية.

هذا يعني أنك تريد الاختلاف، بناءً على المقارنة بين كُتّاب الواقعية والواقعية السحرية في الرواية؟

حقيقة وبكل تواضع أقول أنا لا أفكر في أي اتجاه أو مدرسة أدبية، مع أني أميل إلى السرد الكلاسيكي لرواية القرن التاسع عشر. لكن فيما يخص تجربتي الروائية أذكر أن الناقد والشاعر العراقي فاضل حاتم كتب مقالات عديدة عن معظم أعمالي الروائية، واستخدم مصطلحاً جديداً، هو أقرب لتوصيف تجربتي ألا وهو: "سحرية الواقع"، وليس "الواقعية السحرية". ففي رواياتي ثمة تداخل بين المرئي واللاّمرئي، وإذا ما وجد مثل هذا الاختلاف عن الواقعية أو الواقعية السحرية فهو غير مقصود؛ وإنما هو جزء من سردية العالم الروائي الذي يهيمن عليّ لحظة الكتابة.

هل إمكانيتك المتنوعة في الشعر والنقد السينمائي والقصة والرواية، فتحت لك أفقاً في السرد وآليات النص الروائي لدرجة أنّ من يطلع على نصوصك الأخيرة يجدها تحمل طابع التغير في الكتابة الروائية العراقية ؟

الكتابة هي مركب جمالي نفسي لكل المؤثرات التي تحدثت عنها، بل أضيف عليها ليس المهارات الأدبية والفنية فحسب، وإنما كل القراءات الروائية والفكرية والفلسفية، وكل مشاهدات لوحات الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي والقطع الموسيقية والأغاني، إلى جانب العلاقة مع الناس والاستماع لبوحهم فأستمد منهم كل هذه الشخصيات الروائية وهذا البوح والحوار، وهذا الغوص في الفضاء النفسي. هذه الأشياء تختلط في اللحظة الجمالية عند الكتابة.

لكن نصوصك الروائية تتطرق لمفاهيم الموت والحرية والاستلاب والخوف، ألا تجد أن النص حينما يحمل بهذه التركات الفكرية والوجودية يحتاج لقراءة عميقة؟

لا أعتقد أنها تركات وإنما هي أسئلة مطلقة؛ إذ سيبقى سؤال الموت مطلقاً، على الأقل في اللحظة التاريخية والحضارية والعلمية الحالية؛ لأن العلم لم يكتشف لغز الموت. وكذا شعور الخوف.. خوف الإنسان من مواجهة الذات ومن سؤال الوجود ومعنى الحياة ووحشة كوكبنا في هذا الفضاء اللامتناهي من الكواكب أو المجرات. قراءاتي الأدبية والفكرية والفلسفية والدينية والعلمية ساعدتني جداً في امتلاك الجرأة لمواجهة هذه الأسئلة.

كيف يتم النجاح في توظيفها في معالم النص الروائي؟ ألا تجدها محملة ببؤس الإيدولوجيا مثلاً؟

شخصياتي الروائية مضادة للإيديولوجيا. بعض شخصياتي حطمتها الإيدولوجيا وقادتها إلى السجون وإلى الإعدام كآدم الواسطي، أو السقوط الأخلاقي كحواء الناصري الفيلسوفة في "متاهة الأشباح"، أو آدم المحروم الذي كان مضاداً لكل الإيديولوجيا وإن كان قريباً من اليسار بحكم علمانيته وليس بحكم انتمائه، أو آدم اللبناني، الذي سقطت أمامه كل الإيديولوجيات الدينية والعلمانية والثورية في "متاهة حواء". أما بقية شخصياتي فهي إما مؤدلجة دينياً أو سياسياً لكنها تعيش تناقضها وشكوكها إزاء تلك الإيديولوجيات، أو أنها شخصيات تعيش قلقها الوجودي وعقدها النفسية وتيهها في هذا الوجود.

اسمح لي أن أتساءل هنا إلى أي مدى يمكن للكتابة الروائية أن تنجح في تحقيق غايتها بتشذيب الإنسان سلوكياً وكبح غرائزه؟

شخصياً لا مشروع فكري ولا تعاليم أخلاقية ولا رسالة اجتماعية لديّ أبغي توصيلها من خلال رواياتي. ربما أقصى ما أتمنى أن يتحقق للقارئ عند قراءة رواياتي أن أدفعه لطرح الأسئلة، وكما وضحت في جواب سابق أنني من مريدي ما بعد الفرويدية والفرودية التي تنظر إلى قواعد السلوك باعتبارها قمعاً أخلاقياً اجتماعياً، وبالتالي أنا مع حرية أن يواجه الإنسان أعماقه ورغباته، ويسعى إلى طبقات اللاوعي إلى وعي كي يعيش لحظة التنوير الداخلي والسلام الروحي.
 

بودي أن تحدثني عن مشروع (المتاهات) إلى أين تريد به أن يصل بالمتلقي؟ خاصة بعد أن أصدرت (متاهة آدم)، (متاهة حواء)، (متاهة قابيل)؟

المتاهات مشروع روائي يتناص بشكل مضاد مع (الجحيم) لدانتي أليغييري ذي الطبقات التسع، وأنا لدي المتاهات تسع روايات. هو يهبط نزولًا إلى قاع الجحيم، الطبقة التاسعة، حيث لوتسفيري (الشيطان)، وأنا أصعد حتى أصل الطبقة التاسعة، المتاهة التاسعة، متاهة العدم العظيم. فقد أصدرت إلى الآن ثماني متاهات: متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل، متاهة الأشباح، متاهة إبليس، متاهة الأرواح المنسية، متاهة العميان، متاهة الأنبياء، وقد أنهيت المتاهة التاسعة أيضاً لكني لم أنشرها بعد. والحقيقة أنا لا أريد أن أصل بالقارئ إلى شيء، فلحظة الكتابة لا أفكر بالقارئ ولا حتى بنفسي؛ وإنما أتقمص شخصياتي ومن خلالها أعيش تطهيري مع شكوكي وأسئلتي.

هل حققت هذه المتاهات اهتماماً نقدياً مرجواً قياساً لأهميتها في البناء والثيمة..عرفت أن هناك دراسة ماجستير عن إحدى رواياتك هل اطلعت عليها؟

خارج العراق حققت المتاهات ورواياتي الأخرى اهتماماً نقدياً وأكاديمياً، ففي إحدى الجامعات الجزائرية كتبت أربع رسائل ماجستير عن أربع روايات لي هي: "متاهة حواء، ومتاهة الشباح، ومتاهة الأرواح المنسية، واستراحة مفيستو، وهناك أطروحة للدكتوراه عن الشخصيات في المتاهة بالجامعة نفسها، وفي جامعات أخرى ثمة رسائل ماجستير عن متاهة العميان ودكتوراه عن المتاهات. كما أن في الجامعة اللبنانية هناك رسالة ماجستير عن مشرحة بغداد وأخرى للدكتوراه عن أزمة الهوية، وفي إيطاليا حصلت باحثة على الماجستير عن المتاهات ومشرحة بغداد، وفي جامعة بغداد تم إنجاز رسالة ماجستير عن الشخصيات في المتاهات وأخرى تكتب حالياً عن السينما في أعمالي .. رواية الجحيم المقدس أنموذجاً؛ لكن الغريب أن كلية الآداب في الجامعة المستنصرية ترفض أي دراسة تكتب عن أعمالي، بل وكثير من الأساتذة الطائفيين والمتزمتين دينياً يحاربون أيّ طالب أو طالبة يتقدم بعنوان لدراسة أكاديمية عن أعمالي الروائية، أما الدراسات النقدية خارج الدراسة لنيل درجة أكاديمية فهناك عشرات المقالات عن أعمالي الروائية، بل في ربيع 2018 صدر كتاب للبروفيسور المغربي الأستاذ عبدالجليل غزالة بعنوان: "الحجاج السردي والتحليل النفسي في رواية المتاهات لبرهان شاوي"، كما يعكف الآن كما صرّح ذات مرة على كتاب يتناول التناص في المتاهات.

بتصورك هل ما تود أن تصل إليه من كتابة الرواية يمكن أن يكون فقد مع الشعر؟ حيث مساحة الكتابة وطرائق السرد وطريقة تلقي القارئ للنص؟

أبداً، لكن المعادلة الشعرية قد انقلبت.. فليس كما قال المتصوف الأكبر عبدالجبار النفري بأنه كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، هذا ممكن في الشعر وفي اختزال الكلمة الشعرية في القصيدة، لكن مع الرواية تكون المعادلة: كلما اتسعت الرؤية تفجرت اللغة وفاض الكلام وامتد السرد في جداول وأنهار وبحار، وفي أمواج وعواصف ودوّامات.

هل أفهم من هذا أنك تود التصريح وليس التلميح أن الشعر قد يكون معبراً وليس شارحاً؟

لا، فعالم المتاهات بل ورواياتي الأخرى عالم غرائبي وفنتازي ولا واقعي إلى حد ما. ما أريد شرحه أشرحه من خلال الكتابة غير الأدبية، لكن أردت القول: إن القصيدة لم تعد قادرة أن تحتوي كل هذا الضجيج الذي حولنا، ولم تعد الكأس المعلى في الشعرية، فالموسيقى أكثر شعرية من أي كلام، بل إن سحر اللون والتكوين في الفن التشكيلي أحياناً يتجاوز لذة الكلام، حتى العلم حين نتوغل فيه نجد شعرية الوجود. في الرواية يمكن الاستفادة من كل هذه الفنون ورعشتها الشعرية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها