شكَّلَت جسر عبور وتواصل بين أوروبا وآسيا..

إسطنبول.. حاضرة المساجد وملتقى الحضارات

محمد العساوي



تاريخ يمتد إلى ما قبل الميلاد.. سنوات من الأحداث والحروب والاحتلال والبناء والتقدم والازدهار، تفاعلت لتعطي مدينة إسطنبول رونقها وجمالها، نشاهد في شوارعها ودروبها حكايات وذكريات لحضارات مضت وتركت آثارها ومعالمها التراثية، من قصور وأسوار وأبراج وقلاع، وجسور وأسواق ومتاحف... التي تأبى إلى أن تحكي قصة ماضي وحاضر هذه المدينة العريقة، التي مر منها عظماء التاريخ من سلاطين وزعماء وعلماء ورحالة... وتركوا بصماتهم كل في موقعه، وقدموا شهادات حولها، وخَيْرُ ما قيل في حقها ما ذكره الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابارت "لو كان العالم كله دولة واحدة، لكانت إسطنبول عاصمتها".



موقع جغرافي استراتيجي

تقع مدينة إسطنبول في إقليم مرمرة شمال غرب تركيا، يحدها من الشمال البحر الأسود، ومن الجنوب بحر مرمرة، ومن الغرب محافظة تكيرداغ، ومن الشرق محافظتا صكاريا وكوجالي، ويُقَسم مضيق البوسفور المدينة إلى قسمين، شرقي يقع في قارة آسيا (شبه جزيرة كوجالي) وغربي يقع في قارة أوروبا (شبه جزيرة تشاتالجا)، وبهذا يُعَد موقع إسطنبول من أفضل المواقع الدفاعية في العالم، كما يتميز مناخها بالاعتدال، إذ غالباً ما يكون صيفها مرتفع الحرارة ورطب، وشتاؤها بارداً ممطراً وتتساقط خلاله الثلوج، بينما يعتدل الجو في الربيع والخريف وتتساقط فيهما أمطار متفرقة.
 

ساكنة هامة متعددة الأديان والأجناس

تصنف إسطنبول كسابع مدينة في العالم من حيث عدد السكان بـ(15.029.231) نسمة، (75%) يقطنون في الجزء الآسيوي، ويشكل سكانها حوالي (18.5%) من مجموع ساكنة تركيا، وتشتهر المدينة بتنوعها العرقي والديني، ولذلك ما زالت تحمل مكانة مرموقة عند أتباع مختلف الطوائف الدينية، إذ يشكل المسلمون السنة الأغلبية، وهناك عدة أقليات، أهمها: العلويون الذين يعدون أكبر أقلية دينية في إسطنبول، وبعدهم المسيحيون الروم الأرثوذكس، ثم المسيحيون الأرمن الأرثوذكس، فالمسيحيون الكاثوليك الشرقيون، فالشوام اللاتين، فاليهود السفارديم، وبعض اليهود الأشكناز.
 

تاريخ عريق يمتد إلى العصر الحجري الحديث

اشتهرت مدينة إسطنبول عبر التاريخ بأسماء متعددة، تبعاً للإمبراطوريات والدول التي خضعت لها، ومن هذه الأسماء بيزنطة والقسطنطينية، والأستانة وإسلامبول، أما تأسيسها فيعود إلى العصر الحجري الحديث، حيث أظهرت الحفريات الأركيولوجية آثاراً تدل على أنها كانت مأهولة في الألفية السابعة قبل الميلاد، وفي منتصف القرن السابع قبل الميلاد أسس المهاجرون الميغاريون الإغريق مدينة بيزاس (بيزنطة)، بمنطقة سراي بورنو عند نقطة التقاء القرن الذهبي ببحر مرمرة في الطرف الأوروبي من إسطنبول، وفي عام (330م) اختار قسطنطين الأول بيزنطة عاصمة رسمية للإمبراطورية الرومانية، وغَيَّر اسمها إلى القسطنطينية، وعند انقسام هذه الإمبراطورية عام (395م) إلى قسمين شرقية وغربية، بعد وفاة الإمبراطور ثيودوسيوس الأول، أصبحت القسطنطينية عاصمة للإمبراطورية الشرقية، وروما عاصمة للإمبراطورية الغربية، وقد ازدهرت المدينة في هذه المرحلة بشدة وتعاظمت مكانتها الدينية والتجارية والسياسية والعسكرية، فمن الناحية الدينية أصبحت عاصمة للمسيحيين الروم الأرثوذكس، وكنيستها "آيا صوفيا" من الأماكن المقدسة عندهم.

بصمات إسلامية خالدة في تاريخ المدينة

بعد ظهور الإسلام وتوسع المسلمين في العالم خلال القرن السابع الميلادي، كانت القسطنطينية إحدى وجهات حركة الفتوحات، رغبة في تحقيق بشارة النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في قوله {لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش} (رواه الإمام أحمد في مسنده).
وبناء عليه؛ توجهت لفتحها عدة جيوش في فترة الخلافة الأموية، لكن جميعها باءت بالفشل؛ بسبب حصانتها ومكانتها العالية في قلوب البيزنطيين الذين استماتوا في الدفاع عنها، إلا أن هذه الهجمات أضعفت كثيراً قوة الدولة البيزنطية، كما هاجمها الصليبيون الكاثوليك -نتيجة لصراعهم التاريخي مع الروم الأرثوذكس- عام (1204م)، خلال الحملة الصليبية الرابعة التي توجهت إلى الشرق، فاحتلوها ونهبوها وارتكبوا مذابح فيها.
لكن رغبة المسلمين في ضم القسطنطينية ستتحقق مع العثمانيين، الذين استطاعوا تدريجياً السيطرة على أراضي الدولة البيزنطية بالأناضول، فاستحوذوا على أهم المدن مثل: بورصة وإزميت التي تشكل البوابة الشرقية البرية للقسطنطينية، وعلى غاليبولي المشرفة على مضيق الدردنيل، ثم توسعوا غرب المدينة في تراقيا وسيطروا على أدرنة، ووصلت حروبهم إلى بلغاريا واليونان، وبهذا ضيقوا الخناق على المدينة وعزلوها تماماً عما حولها.
وبهذا سقطت المدينة يوم (29 ماي 1453م) في أيدي العثمانيين بقيادة السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح (أي فاتح القسطنطينية)، بعد حصارها لمدة ثلاثة وخمسين يوماً، وبعد عمليات عسكرية معقدة لتجاوز خطوط الدفاع التي تحمي المدينة من البر والبحر، وبعد الفتح العثماني، نقل السلطان محمد الثاني عاصمة الدولة العثمانية من أدرنة إلى القسطنطينية، التي أصبح اسمها إسلامبول (أي مدينة الإسلام)، وبدأت معها مرحلة جديدة في تاريخ المدينة.

وقد عمل العثمانيون على إعادة إسطنبول إلى مكانتها السابقة حضارياً واقتصادياً وسياسياً، وسرعان ما ازدهرت من جديد لتكون مثالاً على مجتمع غني ومتعدد الثقافات، وقد أصبحت عاصمة للخلافة الإسلامية عام (1517م) حين أُعلِن السلطان العثماني سليم الأول خليفة للمسلمين، بعد أن تنازل له عن الخلافة آخر الخلفاء العباسيين في مصر، وبذلك وصلت أوج فترات قوتها وازدهارها، وجذبت آلاف المواهب النادرة في مختلف مجالات السياسة والتجارة والعلوم المختلفة، لكن بعد القرن (16م) بدأت المدينة تعرف تقهقراً بسبب الضغوط الإمبريالية على أراضي الإمبراطورية العثمانية.
وخلال نهاية الحرب العالمية الأولى سنة (1918م) احتلت جيوش الحلفاء إسطنبول، وبقيت فيها حتى سقوط الدولة العثمانية، وإعلان الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، حيث انسحبوا بموجب معاهدة لوزان سنة (1923م)، وبعد استلام أتاتورك الحكم نقل العاصمة السياسية إلى أنقرة، لكن مكانة إسطنبول بقيت ذا أهمية، خاصة بعد الإصلاحات والتحسينات التي أجريت عليها منذ خمسينيات القرن العشرين.
 

القلب النابض للاقتصاد التركي

لعب الموقع الجغرافي المتميز لإسطنبول، الذي يعد همزة وصل بين طرق التجارة البرية والبحرية دوراً حيوياً في ازدهار اقتصاد تركيا، إذ تعد المدينة المركز الصناعي الأكبر في هذه الدولة، فهي تؤمن وظائف لحوالي (20%) من الأيدي العاملة من مجموع عمال البلاد، وتُساهم بنسبة (38%) من الإنتاج الصناعي التركي، وعلى المستوى الفلاحي تُنتج إسطنبول عدة أنواع من المنتجات الزراعية منها: القطن، الفاكهة، زيت الزيتون، الحرير، التبغ... ومن أبرز المنتجات الصناعية للمدينة: الصناعات الغذائية، صناعة المنسوجات، مشتقات الزيوت، المطاط، السلع المعدنية، الملابس الجلدية، المنتجات الكيميائية، المستحضرات الصيدلانية، الإلكترونيات، الزجاج، تجميع الآلات، تجميع السيارات وآلات النقل، صناعة الورق ومنتجاته... كما تنتج المدينة ما نسبته (55%) من الصادرات التركية، و(45%) من منتجات البلاد المخصصة للبيع بالجملة، وتُساهم بنسبة (21.2%) من الناتج القومي التركي.

وِجهة سياحية مُفضلة

تُعتبر السياحة من أهم الأنشطة التي تُدِر مداخيل هامة على إسطنبول، فقد بلغ عدد السياح حسب آخر الإحصاءات (2018م) أزيد من (10.000.000) سائح سنوياً، ويعزى هذا الرقم المرتفع إلى كون المدينة تتوفر على بنية تحتية هامة، من فنادق مصنفة ومطاعم فخمة، وشبكة قوية من التجهيزات كالطرق والسكك الحديدية والمطارات والمرافئ، إضافة إلى المآثر التاريخية التي تستهوي أي سائح لزيارة المدينة.

تراث ضارب في القِدم

تزخر إسطنبول بموروث ثقافي متنوع وغني، سواء في شقه اللامادي كتوفرها على فلكلور شعبي يتضمن رقصات متنوعة، مُتأثرة بالحضارات التي مرت منها، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنماط، ويتعلق الأمر بالنمط التركي الأوروبي ويسمى "تُراكيا"، والذي يمارس في المناطق المتأثرة بالثقافة الأوروبية، والنمط التركي المرمري ويسمى "مار مارا"، ويمارس هذا النوع في المناطق المطلة على بحر مرمرة، والنمط "الكارادينيز" الذي يمارس على نطاق واسع، ومن أبرز هذه الرقصات نذكر "الهورون"، كما تشتهر إسطنبول أيضاً بمطبخها الغني والمعروف عالمياً، وفي مقدمة الأكلات والحلويات نجد: "الكعك المُدَوَّر"، "بلح البحر المحشو"، "الكبة المحشية"، "لفائف اللحوم"، "أسياخ أمعاء الأغنام"، "البطاطا المخبوزة"، "الفطائر التركية"، "الحلويات التركية"، "المشروبات التركية".

أما فيما يخص الموروث الثقافي المادي فيتمظهر في مجموعة من المعالم التي تحتضنها المدينة، وعلى رأسها المساجد التي تصنف من خلالها كأول مدينة في العالم بـ(3190) مسجداً، ومن أشهرهم مسجد السلطان أحمد (المعروف بالمسجد الأزرق) الذي تأسس ما بين (1609-1616م)، ثم مسجد سليمان القانوني (المعروف بمسجد السليمانية)، والمسجد الجديد، مسجد أورتاكوي، مسجد سليم الأول، مسجد السلطان مهرماه، مسجد الفاتح، مسجد الحميدية يلدز، مسجد أيوب سلطان، مسجد دولمة باخشة...

وتتوفر إسطنبول أيضاً على معالم تراثية أخرى تتجلى في القصور كقصر بيلارباي الذي بُنِي ما بين (1861-1876م)، وقصر كوجوك صهو، قصر الباب العالي، قصر دولمة باخشة... وهناك أيضاً متاحف غنية بالتحف الفنية، ومن أشهرها متحف آيا صوفيا (1935م) الذي تم تحويله مؤخراً إلى مسجد، ثم متحف توب كابي، متحف دولمة باخشة، المتحف الأثري، متحف الطيران، المتحف الإسلامي، متحف بانوراما إسطنبول، متحف الشموع، متحف الفن الحديث، متحف الثلج، متحف الشوكولاتة، متحف الألعاب... كما تحوي إسطنبول أسواقاً شعبية قديمة كالسوق الكبير المغطى الذي دُشِّن في سنة (1461م)، وسوق محمود باشا، والسوق المصري (سوق البهار).

وهناك أيضاً مآثر أخرى تَسُر الناظرين، مثل جسر البوسفور (1970-1973م) الذي يربط الجزء الأوروبي بالجزء الآسيوي، وبرج العذراء الذي يعود تأسيسه إلى سنة (408 قبل الميلاد)، وبرج غَلَطَة الذي بُني في العصور الوسطى.

ختاماً؛ يمكن القول إن إسطنبول بمكانتها الجغرافية الأورو-آسيوية، وبرصيدها التاريخي والتراثي الحافل بالأمجاد، جعلت منها مدينة عريقة، يُكتب اسمها بحروف من ذهب، في سجل المدن التي طبعت تاريخ الإنسانية عبر العصور.


المصادر والمراجع المعتمدة:
1. شمس الدين أبو عبد الله اللواتي الطنجي، رحلة ابن بطوطة المُسماة بـ"تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، تقديم وتحقيق: الشيخ محمد عبد المنعم العريان، مراجعة وإعداد الفهارس: مصطفى القصاص، ج.1، دار إحياء العلوم، بيروت، ط.1، 1987م.
2. مقال بعنوان "إسطنبول... سحر الشرق الأوروبي"، مجلة سنان الصادرة عن شركة سنان الكويت العقارية، العدد الأول، 2015م.
3. منذر نعمان بكر، وقاسم العبيدي، مقال بعنوان "إسطنبول...ألق الماضي...عبق وجمال الحاضر...إشراقة المستقبل"، مجلة فيلادلفيا، الأردن، العدد.7، 2010م.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها