وقف مشدوهًا أمام مدخل المكتب الذي وُجه إليه لتقديم شكواه. فرك عينيه ليتأكد من هوية الشخص الذي يجلس على الكرسي الوثير. إنّه هو بلحمه وشحمه لم تغير البذلة البنية التي يرتديها ملامحه، ولا رابطة العنق ذات الألوان الزاهية، وحتى تقدم السن الذي أرسى شعيرات بيضاء بدأت تعبث بسوالفه. تراجع خطوتين إلى الوراء، وعاد على أعقابه متمتمًا: مستحيل أن يكون الشخص ذاته الذي كاد يقطع عنقي لولا رحمة الله ودعاء والدتي، ودقة التفاصيل.
كان ينقل ما يجنيه من خضر من حقله على عربة يجرها حصان ليبيعها للخضارين في المدينة. فيشتري بثمنها ما تحتاجه أسرته من مأكل وملبس. وهكذا كان يفعل منذ سنوات طوال. لكن حركة العمران المتسارعة بطموحها السياحي منعته هذه المرة من دخول المدينة بعربته. لقد قيل له إن المدينة أضحت تستقطب أفواجاً متزايدة من السائحين، ولا مكان فيها للبغال والحمير التي تلوث الشوارع بروثها، وتزكم أنوف السياح برائحتها الكريهة. لم يكن بيده سوى رفع شكواه إلى صاحب هذا القرار.
أعاد السؤال على نفسه أكثر من مرة في حالة ذهول، وهو في الحافلة عائداً إلى مزرعته: أيعقل أن يكون هو صاحب القرار؟ يا إلهي، كم هو صغير هذا العالم الذي نعيش فيه.
تسارعت الأحداث التي مضت عليها سنوات تنساب أمام نظره.
لقد سرج فرسه فجرًا، واتجه صوب جبل "مريسان" في صباح يوم خريفي غائم. كان دماغه على مرجل الأفكار. لماذا استدعي بهذه العجالة إلى مركز الثوار؟ وماذا يريدون منه؟ أمن أجل استقبال فوج من المجاهدين؟ لقد تعودوا أن يخبروه بذلك عن طريق "ساعي البريد" فقط. هل هناك من وشى به، واتهمه بالتآمر، لا قدر الله، على الثورة. لقد وضع حياته وحياة أسرته على مرمى حجر من الموت وهو يلبي النداء كلما طلب منه الواجب الوطني: إيصال خطاب إلى جهة ما، وإيواء المجاهدين، ومرافقتهم كدليل في عز برد الشتاء وقر الصيف، وفي الليالي المظلمة، وإخفاء السلاح والعتاد الحربي أو نقله إلى مكان آمن. لم يتأخر يوماً عن دفع اشتراكه المالي للثورة رغم ضيق الحال. ولم ينبس ببنت شفة تحت التعذيب حماية لرفاق الكفاح ضد الاستعمار. إذاً، ما هي الغاية من هذا الاستدعاء على جناح السرعة؟
ظهر له "راعي" غنم على بعد أمتار ليضع حداً لصراع أفكاره. فبعد السلام، وتبادل كلمة السر، طلب منه أن يترك حصانه يرعى بجانب شويهاته بعد أن نزع عنه السرج وأشار إليه بمواصلة سيره. سارا بعض الأمتار، وتوقفا أمام شجرة " الزعرور". مسح الراعي بنظره المكان، ثم علق السرج على أحد أغصان الشجرة. أعاد النظر في كل الاتجاهات، ثم أزاح حجراً كبيراً من مكانه، وأزال بعض الأعشاب وأوراق الشجر المتساقطة على الأرض فظهرت فوهة غار. طلب منه الراعي الزحف على بطنه ليجد نفسه في حجرة واسعة تنبعث منها رائحة العطن. وثلاثة رجال ببذلة الميدان العسكرية يجلسون على حصيرة ممتدة. تتكي أسلحتهم على الجدار. هاله المنظر وارتعدت فرائسه، فتصبب العرق من جبينه...
جلس ضابط طويل القامة، عريض المنكبين رسمت على عينه اليسرى "فتلة الزين" يتوسط مساعديه. كان أحدهما يداعب قلماً بأصبعه وينظر إلى الدفتر المطروح بجانبه. سأله الضابط قائلًا: "هل تعرف هذا الشخص، وأشار بيده إلى شخص كان منزويًّا في الركن الذي ينيره قنديل ممداً رجله. يقول إنّه يشتغل لحسابك وتعرض لحادث عمل في مزرعتك، فأصبح عاجزاً عن العمل، ويطالبك بالتعويض: هكتارين من مزرعتك يقتات منهما هو وأسرته. فما هو ردك؟
كان الوقت ربيعاً، وكنا ننزع الحشائش الضارة التي أحاطت بسيقان شجيرات الفلفل. وإذا بهذا الشخص يقف أمامنا وهو في حالة يرثى لها. سألني إن كان باستطاعتنا أن نأويه في كوخ إلى غاية أن يفرجها الله عليه. لقد أخبرنا بأن طائرات العدو "الصفراء" غارت على القرية التي يقطن بها في أعالي الجبل. فأحرقت الزرع والضرع، وحولت البيوت إلى رماد. فنجا بجلده رفقة طفله وزوجته، التي من هول ما رأت ولشدة خوفها وضعت مولودها على حافة الوادي. لقد كانت تنتظر زوجها غير بعيدة عنا رفقة ابنه الصغير.
التحقت زوجته بالنساء اللواتي تبرعن لها ببعض الثياب. فإحداهن منحتها جبة، وأخرى منديلا، وثالثة حذاءً. وتكفلن بالمولود الجديد إذ جعلن من لحاف قديم قماطا له. لقد أكرمتنا النساء في ذاك اليوم. وقدمن لنا وجبة دسمة على شرف الضيوف والمولود الجديد، راح ضحيتها الديك الذي يوقظنا لصلاة الفجر.
بعد أن شبع هذا السيد، سألته. يمكن لابنك أن يرعى الغنم مقابل 50 ديناراً شهرياً. وتبحث عن رزقك في المدينة في النهار، وتعود إلى أسرتك في المساء.
كان يحصل على ما يحتاجه من خضر وفواكه من بستاني مجاناً، ويشرب الحليب واللبن من شويهاتي دون مقابل. وكنت أقتسم معه ما أشتريه من المدينة كلما تسوقت: سكر، وقهوة، وزيت، وملح، وصابون، وغاز دون مقابل. وكان يحصل على القمح بعد موسم الحصاد والدرس مجاناً كــ"عشور". وأطحنه له مع قمح عائلتي. ولم يكن يتأخر عن حمد الله على ما أنعم عليه. ويشكرني على ذلك.
حدث ذات مرة أن منحت أحد المزارعين ديناراً مقابل أن يسوق حماري إلى السوق لأبيعه. كان حماراً حروناً شروداً، يطير مع البعوض: كان ينتفض ذعراً كلما لاح شيء في طريقه! تدخل هذا السيد في الحديث مقاطعاً: إنني أحق بهذا الدينار منه. سأسوق هذا الحمار بنفسي. فسألته: هل أنت قادر على ذلك؟ وحذرته مراراً: إياك أن تركب الحمار إنّه رافض التروض.
وجدت الحمار واقفاً أمام باب الاسطبل في صباح الغد، فهرعت مسرعاً للبحث عن هذا الشخص فوجدته ممدوداً يئن من الألم. حملته على ظهر دراجتي النارية عائداً إلى البيت. فأتيت له بمن له خبرة في الكسور و"تجبيرها"، فطمأنني بأنه يعاني من رضوض في الركبة والساق فقط.
لقد أشفقت على حاله وأحضرت له كيساً من الحصى وطلبت منه الجلوس، و"رجم" الدجاج الذي يقترب من "سنابل القمح" التي جمعناها قبل الدرس. ونال أجره اليومي مثل أي فلاح من الفلاحين الذين قاموا بالدرس.
شعرت بنوع من الراحة بعد أن أجبت عن سؤال الضابط دون أن يقاطعني أحد. وبعد برهة من الصمت سأل الضابط الشخص المعني. ما قولك فيما سمعته؟ فأجاب دون تردّد: كل ما قاله صحيح. إنّه صادق في قوله.
استشار الضابط مساعديه همساً ثم أصدر حكمه: عليك بمغادرة سكن الشخص الذي أحسن إليك في غضون 48 ساعة. وإن لم تفعل، فالسكين يقوم بذلك. أما أنت، وكان يوجه خطابه لي، فعد إلى عائلتك. جزاك الله خيرا على ما فعلت.
أعاد شريط هذه الأحداث أكثر من مرة ليتأكد بأنه لم يسئ إلى ذاك الشخص بكلمة أو إشارة. كأن يتهمه بالطمع أو التحايل، أو سوء النية أو نكران الجميل. حقيقة إنها مجرد تفاصيل، لكن من يدري ما تفعله به؟ لقد أصبح اليوم صاحب القرار.
سها في الماضي ولم ينتبه إلا وسائق الحافلة يناديه. لقد توقفت الحافلة على مقربة من مزرعته.