عَميدُ المترجمين

محمد السّباعي أديبٌ في الظل

سهير عبد الحميد


لم ينل الكاتب محمد السباعي "1881- 1931" الشهرة ذاتها التي تمتع بها نجله الأديب يوسف السباعي، رغم أن السباعي الأب كان كاتباً وشاعراً ومترجماً، وقد كان أول من ترجم رباعيات الخيام ومسرحيات شكسبير إلى العربية. وبعد رحيله جمع ابنه يوسف السباعي مائة قصة من أعماله التي لم تنشر وقدمها في مجلد ضخم عام 1957 بعنوان "الفيلسوف". وقد شهد الدكتور طه حسين بثراء اللغة عند السباعي الأب وفخامتها، وهو ما حاول السباعي الابن تقليده لكنه اعترف أنه لم يستطع مجاراة والده في بلاغته وفصاحته.
 

عمل والد محمد السباعي كـ"تاجر ميني فاتورة" في حي الغورية، وكان يحفظ عن ظهر قلب أبيات بردة البوصيري يتلوها على محمد وشقيقه طه فتطربهما، فحببت إليهما هذا العالم المخملي الساحر المسمى "الأدب" مما دفعهما لحفظ ديوان ابن الرومي.

درس محمد في مدرسة المعلمين العليا وعمل مدرساً للغة الإنجليزية في المدرسة الخديوية الثانوية القريبة من مسكنه بالسيدة زينب. وكان إتقانه الإنجليزية بوابته لحب الترجمة. إضافة إلى ما كان يكتبه من مقالات بالعربية في مجلة البيان للشيخ عبد الرحمن البرقوقي. ومؤلفات منها كتابه "أبطال مصر" الذي صدر عام 1921، متناولا فيه تصدي المصريين لمشروع كرزون الذي حال بينهم وبين الاستقلال عن الاحتلال الإنجليزي، وأهدى الكتاب إلى جلالة الملك أحمد فؤاد قائلاً:
"فإليك يا مليك البلاد أتقدم بإهداء هذا الكتاب، المضمن كلمات صدق وأخلاق عن أولئك الرجال أبطال دولتك، حاملي رايتك ومنفذي مشيئتك، ولا بسي مطارف فضلك ونعمتك".

أسلوب التربية المتحضر

سيطر موضوع التربية الحديثة على وجدان السباعي حتى إنه كتب عدة مقالات يهاجم عبر سطورها ظاهرة ضرب الأطفال، واصفاً إياها بالهمجية التي تفترس الإنسانية وتقتل البراءة. وقد طبق الأفكار الحديثة في تربيته لأبنائه؛ لذا نجد يوسف السباعي يستشهد بأسلوب والده المتحضر في التعامل مع أبنائه والعناية التي كان يوليها للراسب من الأبناء عن الناجح، وكيف أن الأربعة عشر عاماً التي قضاها في كنف والده شكلت مجرى حياته.

وقد تأثر محمد السباعي بكتاب التربية للفيلسوف الإنجليزي وعالم الاجتماع "هربرت سبنسر" الذي صدر عام 1861، فترجمه عام 1908 مبيناً الهدف من ذلك:
"لما وجدنا شبهاً قريباً بين ما أنكره سبنسر من نظام التعليم في بلاده، وبين ما ننكره نحن من نظام التعليم في بلادنا، رأينا من الخير أن ننقله إلى العربية لنجني من ثمرات ما جنت الأمة البريطانية وقراء الإنكليزية عموماً، وأهل اللغات التي ترجم إليها هذا الكتاب وهي معظم اللغات الأوربية".

دفاعاً عن النبي محمد

من أهم ما ترجمه السباعي كتاب "الأبطال" للكاتب الإسكتلندي والناقد الساخر توماس كارليل "1795- 1881"، الذي يتضمن سير العظماء والأبطال الذين ساهموا في صنع التاريخ، ويحظى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة خاصة في هذا الكتاب، فقد اعتبره "كارليل" نموذجاً لعلو الهمة. حتى يقول محمد السباعي في تقديمه للكتاب:
"وأحسن ما جاء في ذلك الكتاب فصل عن المصطفي عليه السلام، وكان الرسول قبل ذلك هدفاً لأقلام الكثيرين من الغربيين لا سيما أهل القرن الثامن عشر قرن فولتير أعني قرن الإلحاد والكفر، يرمونه جهلاً وكنوداً بقواذع الهجاء وقواذف الذم، قال ريتشارد جازييت، فلما كتب كارليل مقالته عن الإسلام يدافع فيها عن محمد ويناضل دونه لم يبق هجاء أطلق يده في محمد عليه السلام إلا قبضها مجذومة شلاء، ولا فحاش يرمي ذلك الأديم الأكلس وتلك الصحيفة البيضاء بسهام السباب إلا وردت سهامه في نحره، حتى راح شرف النبي في تلك الديار بفضل الفيلسوف الأكبر صحيح الأديم موفورَ الجانب، فحق على عصبة الإسلام جميعاً أن تشكر لذاك البطل الجليل هذه اليد البيضاء والمنة الغراء، ولعمري لو أنهم نصبوا له على كل مآذنه تمثالا وزينوا باسمه جدران المساجد وخطب المنابر لما كانوا في أداء واجبه إلا مقصرين".

رؤيته للأدب والأدباء

كان السباعي يرى أن الرجل العادي تتسلط عليه المادة بينما الأديب لا يلتفت إليها إلا بما يقيم أوده الضروري، ومن ناحية المظهر فالأديب إنسان غير طبيعي يشذ عن مناهج حياة القطعان من الجماهير والعامة، ويخرج على مذاهبهم ومشاربهم وآرائهم ومعتقداتهم. وفي كتابه "خواطر في الحياة والأدب" يقول:
"والكتب –ألهمك الله معرفة فضلها– هي في طي الدنيا دنيا أرق جوهراً وألطف عنصراً وأعذب مذاقاً وأبهج إشراقاً، والكتب حظي من الحياة ونصيبي، وهي من دون متاع هذا الوجود بغيتي وأمنيتي، وهي مناط آمالي وملجأي الوحيد في حلّي وترحالي، وإذا رقدت رقدتي الأخيرة فوصيتي أن تجعل وسادتي كتاباً".

كانت المدينة الفاضلة في يقينه هي التي يحكمها الأدباء، ورغم ذلك يتعرضون إلى الضنك في سبيل الحصول على لقمة العيش، وطالب بإقامة ملجأ لأهل الفكر البؤساء ولعل شعوره هذا انعكس في كلماته إلى د. زكي مبارك الذي أوردها في كتابه "ذكريات باريس"، ورد عليه بما فيه من كلمات تطيب خاطره.

فقد أرسل له السباعي يقول: "وأصبحت حرفة القلم عندي بعد ما كان لها في سالف الزمن من السرور واللذة كاسفة حزينة جافة جدبة ناضبة مقفرة من الطرب والأنس، بل من العزاء والسلوى، وأصبح القلم في يدي أشد بؤساً ومسكنة من المزمار في يد الشحاذ المتسول ترى نغمه أقرب إلى أنّةِ الثكلى منه إلى رنّة المسرور، وأشبه بصوت النعي منه بصوت البشير".

فكتب له زكي مبارك يقول: "القارئ والكاتب قد يتوافقان وقد يتنافران، فلا تنتظر أن يوافقك القراء جميعاً أو يخالفوك جميعاً؛ لأنك وإياهم تستمدون حماستكم من الحياة، وأنت رجل تدل آثارك الأدبية على أنك فهمت كيف يطيب العيش، وعرفت أن الأديب يجب أن تكون له حوادث يرويها قبل أن يشغل برواية حوادث الناس، فهل تظن أن الناس جميعاً يجب أن يستطيبوا ما تكتب؟ في حين لم يقدر لهم جميعاً أن يعيشوا كما عشت وأن يفهموا كيف يكون نعيم الحواس"؟

من رثاء العقاد للسباعي

غايةُ الحيّ ساعة من زمانه
ينتهي عندها مدى جثمانه
طُويّت صفحة السباعي فينا
وهو طاوي الطروس في تِبْيانه
مسمح النفس في الحياة تَولّى
مسمح النفس في الردى قبل آنه
لم يطامن لصرعة الموت رأسا
من صراع الحياة لهو رهانه

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها