الثّقافةُ الهنديّة في أدبِ الرّحلة العربيّ!

ثوابت النظرة إلى الآخر الثقافي وتحولاتها

د. أنور بنيعيش


شكلت الرحلة جزءاً هاماً من حياة العربيّ؛ فلقد ساعدته طبيعة البيئة التي عاش فيها على تغيير الفضاءات والأمكنة بحثاً عن الماء والكلأ، حيث كانت الحاجة والرغبة ملحتين للانطلاق نحو آفاق جديدة لمعرفة الجديد واكتشاف الآخر. ومع مجيء الإسلام واتساع رقعة الدولة الإسلامية بعد الفتوحات، أضحت الرحلة عنصراً حيوياً لارتباطها بعديد من الأغراض والأهداف الدينية كالحج، ونشر الدعوة، وطلب العلم وزيارة الشيوخ، ومجالسة العلماء.
 

ومن هذا المنطلق، كثرت الرحلات وتنوعت خاصة في الأماكن البعيدة عن الحجاز، وقام بها رحالة مختلفون في الأفكار والمواقف من مغرب العالم الإسلامي ومشرقه، غير أن قلة منهم فقط هم الذين استطاعوا الوصول إلى أصقاع قصية بعيدة عن شبه الجزيرة العربية، وتركوا آثاراً دقيقة عما اكتشفوه هناك من خصوصيات وعناصر شديدة الإدهاش. ومن هؤلاء الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي استطاع أن يرصد في كتابه لوحات وصفية ضافية، ودقيقة حول واقع الهند خلال القرن الرابع عشر. حيث شكل كتابه نقطة مفصلية في التعرف على هذا القطر البعيد بعاداته وتقاليده وطقوسه، وأحداثه الخاصة، ودفعة في سبيل تعويض ما ساد حوله من معارف تخييلية ضبابية في أعين أدباء العرب وكتاباتهم.
لهذا؛ سنحاول من خلال هذا البحث مناقشة الأسئلة العالقة حول تمثلات العرب عن الهند في الكتابات السابقة لمؤلف "تحفة النظار في غرائب الأمصار"، واللاحقة له لرصد التحولات التي أحدثتها الكتابة الرحلية عن الهند لدى ابن بطوطة من صدمة الاكتشاف، وتعديل المفاهيم والرؤى، حيث سنسعى إلى رصد مسار هذه التمثلات للثقافة الهندية عبر الكتابات الرحلية العربية، مع المقارنة بين ما أنتج منها في السابق، وانبثق عن رؤى مواكبة لفترات قديمة معينة من تاريخ الهند، وما أنتج حديثاً بعد الزخم المتراكم من الرحلات والكتابات الرحلية الحديثة والمعاصرة حولها. جاعلين من مؤلف ابن بطوطة محوراً أساساً لرصد ثوابت هذه التمثلات وتحولاتها عبر النصوص والزمن بهدف تقديم سيرورة صورة متكاملة عن الهند بعيون أدبية عربية.
 

الرحلة إلى الهند قبل ابن بطوطة

شكلت الهند من زمن سحيق محط أنظار الرحالة العرب الباحثين عن المغامرة واكتشاف الآخر، عبر الانسياق وراء الرغبة العارمة في زيارة البلدان البعيدة، والتي تمثل في ذاتها موضوعاً ثرّاً للخيال والأسطرة، حيث ملأت الفراغات الكبرى في الذاكرة العربية إزاء هذه المناطق البعيدة المختلفة عِرقاً ولغة وديناً "فتكاد الهند والصين تستأثران بموقع استثنائي، بين كل الصور التي شكلها المسلمون عن الشعوب خارج دار الإسلام".

ومنذ هذه الرحلات المبكرة كانت النظرة التقديرية الخاصة لهذا البلد الشرقي النائي هي المهيمنة، حيث يقول عبد الله إبراهيم: "ظهرت الهند في أعين المسلمين وكتاباتهم مملكة الحكمة والعدالة، ويستند هذا الحكم إلى معاينة يصعب التشكيك فيها ونقضها".

فقد انبهر الرحالة والجغرافيون العرب والمسلمون بما شاهدوه في هذه البلاد من مظاهر الحكمة والعدالة وحسن التنظيم، فآثروا تدوينها والتعليق عليها والتنبيه على أبعادها العميقة تشبهاً بها، ورغبة في محاكاتها وتقليدها في البلدان الأخرى، ولم يحل الاختلاف في الدين أو اللغة والعادات، دون أن يؤكدوا قيمة هذه المشاهدات وأهميتها في بلاد أجنبية، استطاعت أن تنهض بمعايير ذاتية في تدبير شؤونها عزّ نظيرها في شعوب وأمم أخرى؛ فهذا المسعودي (ت: 346/958م) مثلاً يشير إلى ذلك في قوله:
"ذكر جماعة من أهل العلم والنظر والبحث الذين وصلوا الغاية بتأمل شأن هذا العالم وبدئه، أن الهند كانت في قديم الزمان الفرقة التي فيها الصلاح والحكمة..."، ويستطرد في تفسير ذلك وذكر بعض كتبهم المأثورة، يقول: "وجمع الحكماء فأحدثوا في أيامه (البرهمن الأكبر) كتاب السند هند، وتفسيره (دهر الدهور)، ومنه فرعت الكتب" [من أخبار الهند من كتاب مروج الذهب، ص: 50].

ويأتي اليعقوبي على ذكر ملوكهم فيقول: "ومن ملوكهم دبشليم وهو الذي وضع في عصره كتاب "كليلة ودمنة"، وكان الذي وضعه بيدبا حكيم من حكمائهم وجعله أمثالاً يعتبرها ويتفهمها ذوو العقول ويتأدبون بها" [من كتاب تاريخ اليعقوبي]. كما يؤكد على أن "الهند أصحاب حكمة ونظر، وهم يفوقون الناس في كل حكمة".

ونكاد نعثر على شبه إجماع على تقديم الهند، وإبراز فضلها في الحكمة والعدل لدى الرحالة الأوائل، دونما نظر إلى مسوغات الاختلاف والتباين من دين وثقافة، (الدمشقي في كتابه نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، براعتهم في الشطرنج دليلاً على رياضتهم العقول، ص: 133). (سليمان التاجر، جزيرة سرنديب جر جثة الملك في الطرقات للاعتبار للترهيب والتزهيد في هذا العالم).

الثقافة الهندية في رحلة ابن بطوطة

ينقل لنا ابن بطوطة لا ما رآه وعاشه كله أثناء إقامته بالهند، (وهذا أمر يقارب المستحيل، وكان سيحتاج إن فكر فيه إلى مجلدات لا تنتهي)؛ وإنما انتقى ما اعتبره مهماً، وذا دلالة للمتلقي في تلك المرحلة. لهذا التقط الإشارات العديدة حول القضاء والعبادة والزهد والولاية الدينية والتصوف والتجارة، والسلطة بالدرجة الأولى، بينما أتت صورة الشعب والفئات العريضة من الأمم التي عايشها أقل حضوراً، وأقل ذكراً، ولا يلجأ إليها إلا عندما يفتقد الشاهد في محيطه السلطاني والأميري.

لهذا، نجده حريصاً على الوصف الدقيق لمظاهر الحضارة، والدرجات العليا من حسن التنظيم والتدبير بإعجاب دفين، يفضحه الإغراق في ذكر تفاصيل شأن تنظيم البريد، حيث يستعرض ابن بطوطة في مقطع طويل بدقة متناهية أنواعه وآلياته، وفعاليته في تحقيق التقارب بين أطراف البلاد الشاسعة، يقول: "والبريد ببلاد الهند صنفان: فأما بريد الخيل فيسمونه (أولاق)، وهو خيل تكون للسلطان في كل مسافة أربعة أميال؛ وأما بريد الرّجّالة فيكون مسافة الميل الواحد منه ثلاث رتب... وترتيب ذلك أن يكون في ثلث ميل قريةٌ معمورة، ويكون بخارجها ثلاث قباب يقعد فيها الرجال مستعدين للحركة..."؛ وكأن هذا النقل الأمين يتغيى الاستفادة من هذه التجرِبة الناجحة واستنباتها في بلاده.

كما يحرص ابن بطوطة على تتبع مظاهر التنظيم في البلاط السلطاني والمدينة بمختلف مرافقها، فيكثر من الإشارة إلى فعل الترتيب في مقاطعه الوصفية، (ذكر أمير ملتان وترتيب حاله 234/ ذكر أبوابه ومشوره وترتيب ذلك 256/ ذكر ترتيب جلوسه للناس 257/ ذكر ترتيبه إذا قدم من سفره 261/ ذكر ترتيب الطعام الخاص 261/ ذكر ترتيب الطعام العام 261/...).

ولا يشذ عن هذه النزعة الخاصة الميالة إلى التنظيم حتى المقبرة نفسها؛ فللموت مكانة خاصة تعادل مكانة الحياة؛ يقول: "وعادة أهل الهند أن يُرتبوا لأمواتهم كترتيبهم بقيد الحياة، فيؤتى بالفيلة والخيل فتربط عند باب التربة، وهي مزينة، فرتبتُ أنا في هذه التربة بحسب ذلك، ورتبتُ من قراء القرآن مائة وخمسين... ورتبتُ من الطلبة ثمانين... فكان جميعهم أربعمائة وستين". وكان السلطان أمر أن يكون بها كل يوم اثني عشر منا من الدقيق ومثلها من اللحم... وكنت أطعم المرتبين وغيرهم من صادر ووارد، وكان الغلاء شديداً فارتفق الناس بهذا الطعام وشاع خبرهُ.

وهو يأتي على ذكر المقبرة في وصفه لطقوس ما بعد الوفاة "وعادتهم أن يخرجوا إلى قبر الميت صبيحة الثالث من دفنه، ويفرشون جوانب القبر بالبسط وثياب الحرير والأزاهير... ويصبون على القبر الفواكه واليابسة وجوز النارجيل، ويجتمع الناس ويؤتى بالمصاحف ويقرأون القرآن..." [ص: 293].

وتستوقفه البروتوكولات السلطانية في أكثر من مناسبة، حيث يرى فيها فرصة لإبراز هذا الإعجاب الكبير بالنظام الذي يميز أهل الهند في تصريف مختلف شؤونهم الرسمية منها كالخروج للرعية وسياسة أمرها، أو الخروج للقنص، وطقوس العيد "فلما كان يوم العيد ركب الخطيب على الفيل، وقد مهد له على ظهره شبه السرير (الوصف بالمقاربة)، ولبس الخطيب السواد، وركب المؤذنون على الفيلة يكبرون أمامه.." [ص: 295].

كما يرصد عادات الضيافة والكرم في الثقافة الهندية في أكثر من موضع، بل إنه يخص باباً بالحديث عن أخبار السلطان في الجود والكرم، يقول: "وإنما أذكر منها ما حضرتهُ وشاهدتُهُ وعاينتُهُ، ويعلم الله تعالى صدق ما أقول وكفى به شهيداً، مع أن الذي أحكيه مستفيض متواتر، والبلاد التي تقرب من الهند كاليمن وخراسان وفارس مملوءة بأخباره يعلمونها حقيقةً" [ص: 262]، حيث يركز على هذا البعد في نظرته للآخر، مما يجعل القارئ يبني تمثلات إيجابية عن ثقافة الهند، وعادات أهلها.
 

خاتمة

وفي الختام، نشير إلى أن معالم صورة الثقافة الهندية في الأدب الرحلي العربي منذ القديم، اتخذت أبعاداً إيجابية في الغالب، واتسمت بالإعجاب الكبير بخصوصية الحضارة الهندية، وما عرفته من رقي في الحكم والتنظيم والمعمار؛ فمنذ الرحلات الأولى التي وصلتنا (اليعقوبي... والمسعودي...) سجل الرحالة هذا الإعجاب بالتقاط مشاهدات تؤكد علو مكانة الهند في ميادين ثقافية شتى، مركزين على الطبقة الحاكمة والتجار، وهي الفئات التي شكلت محور التواصل المكثّف مع القدماء بما فيهم ابن بطوطة.
غير أن بعض الرحالات المعاصرة بدأت تنقل زوايا أخرى للهند مستمدة من مشاهدات الفئات الشعبية وطبيعة المجتمع الهندي في الواقع المعاصر بإكراهاته وتحدياته. بيد أنه يمكن التأكيد بنوع من الثقة أن المشترك بين هذه الأدبيات الرحلية قديمها وحديثها هو الاندهاش العميق الذي عبر عنه الرحالة في وصفهم للهند بلداً وشعباً وثقافةً، وإن اختلفت الزاوية ووجهات النظر ما بين القديم والحديث؛ فقد بقيت مركزية الإعجاب بالبلاد الموصوفة، والثقافة الممثلة لها جوهر الأدب الرحلي الواصف لها، فقام رصد التواصل بين الأنا والآخر في هذه النصوص الرحلية على التقدير والاحترام، والإعجاب والقبول، لا الرفض والشعور بالتباين والتضاد، يقول أنيس منصور: "فمشكلة الكتابة عن الهند تكمن في غناها الفاحش بما يدهش، ويكون جديراً بالكتابة، فكل خطوة في الهند عالم من المُدهشات، وكل لحظة أعجوبة".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها