يُعد التطهير Catharsis أحد أهم العناصر في الدراما. يرتبط هذا المفهوم بعلاقة المتفرج بالعمل الفني، سواء لوحة أو مقطوعة موسيقية، أو فيلماً سينمائياً أو مسرحية. هو ببساطة تطهير الأفكار والمشاعر السلبية من خلال التعبير عنها في الفن أو تنقية النفس من المشاعر السلبية كنوع من التنفيس الوجداني. عندما يشاهد المتفرج فيلماً سينمائياً وهو يواجه مواقف صعبة في حياته، لكنه يجد أن البطل في الفيلم يواجه ظروفاً أصعب، فيحمد الله أنه لا يواجه مثل هذه الظروف، ويشعر أن الصعوبات التي يواجهها بسيطة في وسط صراعات أكبر وأكثر تعقيداً.
فالتطهير يعني أنه في العمل الدرامي عندما ننغمس في أحداثه نحل محل البطل فنفرح بانتصاره، وإن ألمت به كارثة أو فاجعة نشعر بالألم المبالغ فيه. فنشعر بالسرور إذا ما فرح البطل، ونشعر بالألم إذا ما ألمت به أية أحداث مأساوية. إذا انتصر الخير على الشر في الفيلم يشعر بالسعادة؛ لأنه يعكس ما يراه على الشاشة على واقعه، ولكن إذا انتصر الشر على الخير فهو يشعر أيضاً بالتطهير لأنه نجا من مصير البطل المأساوي.
في كتابه فن الشعر Poetics أكد أرسطو على أهمية التطهير في الدراما، وانتقد أرسطو أفلاطون في هجومه على الفن وتحديداً الشعر في كتابه "الجمهورية". فيرى أرسطو أن من خلال الدراما يتم تطهير النفس من مشاعر الخوف والشفقة.
عرّف أرسطو البطل التراجيدي في كتابه فن الشعر بأنه: البطل الذي يواجه تحديات خارج توقعاته، وأكبر من قدراته لكنه لا يخشاها1.
في مسرحيات شكسبير كان هناك إشراك للمتفرج في التطهير العاطفي في مسرحيات مثل ماكبث، وهاملت وروميو، وجولييت وأوديب، وعطيل ويوليوس قيصر. فهؤلاء الأبطال كانوا يواجهون مخاطر شديدة مؤثرة على حياتهم فالمخاطر هنا عالية ومؤثرة عاطفياً بقدر كبير مما يُشعِر الجمهور المتفرج بالتطهير من هذه المشاعر السلبية في نهاية المسرحية. فغالباً ما يشعر المشاهد بعد مشاهدة مسرحيات مثل روميو وجولييت وهاملت وأوديب؛ أن هناك تطهيراً لمشاعرهم السلبية مع نهاية المسرحية. ومن أبرز المشاهد التي يتجلى فيها التطهير في أي عمل درامي مشهد النهاية في مسرحية "يوليوس قيصر" عندما يُقتل نتيجة مؤامرة من أعضاء مجلس الشيوخ الروماني. فلا يتعجب إلا من قتل أكثر شخص وثق فيه هو صديق عمره القائد بروتس، فيقول له جملته الشهيرة "حتى أنت يا بروتس".
في الأسطر القليلة القادمة نحلل فيلم "هاملت" لشيكسبير المأخوذ عن مسرحية هاملت. الفيلم من إنتاج عام 1990 إخراج فرانكو زيفيريللي، وبطولة ميل جبسون وجلين كلوز وألين بايتس.
✧ مأساة هاملت ✧
مأساة هاملت هي مسرحية تراجيدية مأساوية كتبها وليام شكسبير بين عامي 1599 و1601، وتقع أحداثها في الدنمارك، تبدأ أحداث المسرحية مع وفاة ملك الدنمارك والد الأمير هاملت، وتدور حبكة الفيلم حول قصة انتقام الأمير هاملت من عمه كلوديوس الذي يُصبح ملك الدنمارك بعد وفاة والد هاملت. فيفقد هاملت والده كما يفقد عرش مملكة الدنمارك. لا نجد هاملت طوال الفيلم يبحث عن الملك ولكنه يريد أن يحقق العدالة بيديه.
في مسرحية هاملت، هاملت بطل تراجيديTragic hero يواجه صعوبات جمة. البطل التراجيدي هو شخصية محورية نبيلة لديها كل الصفات الحميدة ولكن لها قدر مأساوي، يقود في النهاية إلى حتفها. البطل التراجيدي نبيل وشجاع. البطل التراجيدي الحقيقي لا يساوم ولا يقبل الحلول الوسطى فهو يصارع في كبرياء.
في بداية الفيلم يظهر له شبح لا يهابه هاملت ولكن يتحدث إليه. فالأمير شاب يفقد والده الملك ويعتقد أن عمه هو الذي قتل والده. في وسط هذه الشكوك يظهر لدى هاملت شبح يطلب من الأمير بأن يأخذ ثأره. وقد كرَس الأمير حياته لهذه المهمة الصعبة.
يشك هاملت طيلة الوقت أن عمه كلاوديوس الشرير قتل أخاه الملك الطيب وأصبح ملك الدنمارك، كما تزوج زوجته جرترود. يظهر الشبح لأصدقاء هاملت ومنهم هوراشيو الذين يبلغون هاملت بذلك، لكن سرعان ما يبدأ الشك يزداد عند هاملت بأن عمه هو من قتل أبيه.
في مسرحية هاملت يتم التعبير عن قصة الانتقام من خلال الإثارة، فهو يبحث عن المجهول طوال الفيلم. وعندما يرغب في الانتقام من عمه ويثأر له يفقد حياة كل من أحبه في الفيلم. العنصر الأساسي الذي تسبب له في هذه المأساة هو عمه الشرير الذي قتل والده ووالدته التي خانت زوجها الملك.
تدور القصة حول شاب يدعى هاملت ابن ملك الدنمارك. بعد وفاة والده تزوجت والدته عمه بعد فترة قصيرة من وفاة والده.. حاولا كسب ود الأمير هاملت. يحتار هاملت كثيراً ولكنه يتأكد من شكوكه عندما يظهر له الشبح ليخبر هاملت أن عمه قتل والده عن طريق السم. بدأ هاملت يشك حين رأى والدته ترتدي بعد وفاة أبيه الحذاء الذي ارتدته في فرحها كما أنا تتزوج كلاوديوس بعد شهر من وفاة زوجها وتبدو سعيدة للغاية2، كما لم يقتنع هاملت بما ذكره كلاوديوس بأن والده مات من لدغة أفعى، فقد أدرك أن الأفعى هي كلاوديوس نفسه.
كان هاملت يحب فتاة تسمى أوفيليا ابنة بولونيوس كبير مستشاري الملك في شؤون الدولة. وفي رحلة أخذه للثأر يفكر في أن يدعي على نفسه الجنون حتى لا يُحاكم إذا ما نجح في قتل عمه. ويُخبِر أوفيليا أنه لا يحبها. أخبرت أوفيليا والدها بذلك لكنه طمأنها وذكر أن هاملت يمر بنوع من جنون الحب. وفي يوم من الأيام يدخل هاملت في نقاش حاد مع والدته ويجد شخصاً مختبئاً خلف ستار، ويظن أنه عمه فيقتله بدون أن يرى وجهه. يكتشف هاملت أنه قتل والد حبيبته بولونيوس مما يتسبب في انهيارها. يدبر عم هاملت مكيدة لقتله ولكن ينجو منها هاملت. ثم بعد ذلك أصر شقيق أوفيليا على الانتقام من والده فأعد خطة مع كلاوديوس لقتل هاملت. أثناء النزال كانت السيوف مسمومة، فقُتِل هاملت وكلاوديوس وشقيق أوفيليا، وشربت جرترود كأساً من النبيذ به سم ولم تكن تعلم أن به سماً. لم تتحمل أوفيليا كل ما حدث وانتحرت، وهكذا قُتِل الجميع في القصة3.
وبتحليل شخصية هاملت نجد أنه أمير نبيل، مرهف الحس، ذكي للغاية ومحبوب وجم الأدب، فآلمه وحزّ في نفسه قتل عمه لأبيه وسلوك والدته الشائن. من علامات ذكائه الحاد أنه أدرك المكيدة التي أودت بحياة والده وخيانة والدته لوالده من خلال تصرفاتها هي وكلاوديوس. ثم يظهر لدى هاملت شبح يطارده كظله فلا ينفصل عنه، ويمكن أن يكون تعبيراً عن صوت العقل الباطن للورد هاملت. وقد أكد له شكوكه وظنونه في كلاوديوس أنه بالفعل هو من قتل والده وأنه خائن وقاتل. فقد قتل كلاوديوس الملك وهو نائم ومساعدة زوجته جرترود. يبلغ الشبح هاملت بضرورة أن يثأر لوالده بقتل كلاوديوس ولكن مع ضرورة ألا يتمرد على والدته وأن يتركها لعدالة السماء.
أما أوفيليا حبيبة هاملت فهي شخصية طيبة ومحبة لهاملت.. عندما يعلم هاملت بهذه المكيدة التي أودت بحياة والده الملك، فيقرر التخلي عن أوفيليا البريئة، كما يقرر والدها إبعادها عنه؛ لأن خياراته في الحياة ترتبط فقط بمملكته، ولن يكون لها أي مكان في هذه المملكة.
ففي إحدى المشاهد تقول أوفيليا لهاملت:
أوفيليا: مولاي لم أشاهد سوء نبلك حتى اليوم.
هاملت: أشكرك.
أوفيليا: مولاي لدي ذكرى منك أود أن أسلمها لك أرجوك أن تتقبلها.
هاملت: لست من أعطاها لك.
أوفيليا: بلى أنت تعرف جيداً أنك فعلت.
ثم تتوالى الأحداث والصراع الداخلي في ذهن هاملت، ويقول مقولته الشهيرة: "أن نكون أو لا نكون هذه هي المسألة". ثم تتصاعد الأحداث والصراع حين يواجه هاملت والدته بأنها قد خانت زوجها وشاركت في قتله. إلا أنها لا تجيبه ثم يقتل هاملت والد خطيبته ظناً منه أنه هو كلاوديوس، ثم يقرر بعد ذلك كلاوديوس قتل هاملت ولكن لم تنجح محاولاته في النهاية.. تنهار أوفيليا بعد وفاة والدها ثم تنتحر، فيقرر أخوها أن ينتقم من هاملت.
المونتاج في هذا المشهد كان له دور كبير، فلعب المونتاج المتوازي في مشهد وفاة والدة هاملت مع وفاته عن طريق السيف المسموم. وفي مشهد النهاية في الفيلم يقول هاملت لصديقه الأمين هوراشيو: "أنا ميت لقد عشت وقضيتي كانت عادلة.. هوراشيو فأنا اسمي المجروح، إن سكنت يوماً قلبك اعفني من فلسفة هذا العالم القاسي إني أتنفس بألم، أحكي قصتي". وبالفعل يكون هوراشيو هو الراوي في مسرحية هاملت لأنه الوحيد الذي عاش4.
العناصر الأساسية للتراجيديا في هاملت:
فيما يلي رصد لعدد من خصائص التراجيديا في دراما شكسبير من وحي فيلم هاملت.
أولاً: البطل هو بطل تراجيدي. البطل نبيل يمتلك كافة الخصائص والصفات الجيدة، فهو ذكي ومحبوب ولكن يعاني بسبب سقطة ما في شخصيته، كما يواجه تحديات أكبر منه.
ثانياً: هذا البطل التراجيدي مميز في الدولة التي عاش فيها فهو مثقف ومحبوب وذو نفوذ. وكل هذه الصفات يتمتع بها هاملت، فهو أمير ووسيم ومثقف ومحبوب ومحب لأمه وأبيه وأوفيليا.
ثالثاً: لا بُدّ أن يكون هناك صراع بين الخير والشر. ولا ينتصر الخير على الشر. والشخص الأكثر نبلاً في العمل الفني هو من تقع عليه مسؤولية محاربة الشر، وعلى إثر ذلك يعاني معاناةً شديدة.
رابعاً: السقطة Hamartia. المقصود من السقطة هنا هي سقطة البطل التراجيدي، وهي خاصية أساسية يتمتع بها. البطل يسقط ويموت. فيما يتعلق بهاملت فهو يعاني من التردد، فكان لديه فرص كثيرة ولكن لا يقتنصها. وكان دوماً ما يؤجل معاركه لليوم التالي.
خامساً: موت البطل. لا بد أن يموت البطل في تراجيديا شكسبير، فمات هاملت في الفيلم كما مات كل أبطال الفيلم.
سادساً: الصراع الداخلي والخارجي. لا بُد أن يواجه البطل الصراع الخارجي كما واجه هاملت الصراع مع عمه، ويعاني من صراع داخلي. ففي الفيلم مونولوجات كثيرة لهاملت، فهذا الصراع الداخلي في ذهن هاملت ويشغله كثيراً. فكان مشغولاً بدرجة كبيرة بوالدته ولماذا خانت والده. وبالرغم من أن شبح والده أخبره بضرورة ألا ينشغل بجرترود ويتركها لعدالة السماء، إلا أن هاملت يريد أن يؤنب والدته عما فعلته، فكان هاملت يواجه الحرب على جبهتين هما عمه ووالدته، ومن المستحيل الانتصار وهو يحارب على جبهتين.
كما يواجه هاملت صراعاً داخلياً آخر لأنه يشعر بالذنب تجاه حبيبته التي تخلى عنها، مع أن هذا الأمر كان في صالح كل منهما كما تجلى في الفيلم فيما بعد.
سابعاً: التطهير. في تراجيديا شكسبير لا بد أن يشعر المتفرج بالتطهير؛ لأن المتفرج يشعر بالشفقة على البطل والخوف عله وكأنه هو البطل. وحين يموت البطل يحزن المتفرج كثيراً وقد يذرف الدموع.
التطهير كلمة يونانية ظهرت أولاً في كتابات أرسطو، وهي تعني تحرر المتفرج من كل المشاعر السلبية التي يشعر بها. فطيلة الفيلم يشعر المتفرج بالشفقة تجاه البطل التراجيدي؛ نظراً للأحداث المأسوية التي تحدث له طيلة الوقت، فتكون مثل كرة الثلج، فيبدأ الحدث ثم تتراكم الأحداث وتتفاقم إلى أن تحدث المأساة. فيموت الملك ثم يموت والد حبيبته، ثم تموت والدته وشقيق حبيبته، ويموت عمه ثم يموت هاملت في النهاية.
ثامناً: غياب العدالة الشعرية. فالأشرار لا ينالون عقوبتهم ولا ينتصر الخير على الشر. والعدالة الشعرية هي أداة أدبية حيث يتم فيها انتصار الخير وهزيمة الشر في نهاية أي عمل أدبي، مثل رواية أو مسرحية أو فيلم سينمائي أو قصيدة شعرية.
خاتمة:
في النهاية يمكن إثارة عدد من التساؤلات التي قد تدور في ذهن أي مشاهد بعد رؤية الفيلم. هل كان هاملت سيلقى هذا المصير السيئ إذا ما كان بطلاً مغواراً شديد الحب لأبيه؟ هل ما يتمتع به البطل من صفات نبيلة هي التي أدت إلى نهايته أو مصيره المأساوي؟
كما يثير الفيلم تساؤلًا آخر حول إشكالية الانتقام. فهل كان يملك هاملت أن يأخذ حقه بصورة أخرى بدون الانتقام من عمه وقتله؟
بالإضافة إلى ذلك كان الطرح المقدم من شكسبير لحل الصراع في النهاية موت الخير والشر معاً فلم ينتصر الخير على الشر. فهل كانت كما هناك إمكانية لأن ينتصر الخير على الشر؟
إن حديثنا عن التطهير في المسرحيات الكلاسيكية ليس قيد المسرحيات الكلاسيكية فقط، ولكنه عنصر أساسي في المسرح والسينما الحديثة. فالعديد من الأفلام الحديثة هي تجسيد لفكرة البطل التراجيدي والتطهير. ففي فيلم الخلاص من شاوشانك يهرب أندي ديفرسن من السجن، ويقابل مرة أخرى صديقة ريد وهو ما يمثل لحظة تطهير من الأمل بعد سنين من السجن ظلماً. وبالمثل ظهرت العديد من الأفلام السينمائية التي تجلى فيها عنصر التطهير سواء في السينما العالمية أو المصرية. ونرى أن كثيراً من الأعمال الدرامية كالأفلام والمسلسلات والمسرحيات لا تعبر عن مفهوم التطهير، مما يجعلها ناقصة لأحد أهم العناصر في الدراما؛ لأن التطهير عنصر أساسي من عناصر الدراما.
الهوامش:
1. (Aristotle (1997), Poetics, Malcolm Heath ( Trans.), (London : Penguin classics
2. Lyell Asher, Gertrude’s shoes, ELH, Vol. 83, No. 4 (WINTER 2016), pp. 959-987
3. ويليام شيكسبير (2012 )، هاملت، خليل مطران (مترجم)، (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة).
4. فيلم (1990) Hamlet