"المعرفة من منظور نقديّ.." ترصُّد النّقد المعرفيّ بمعرفَة النّقد

سعيد أوعبو


يتغيا العمل (المعرفة من منظور نقدي، الصادر عن دائرة الثقافة بالشارقة، 2022) إبداء تصوّرٍ يشملُ بنية التفكير العربي، وتعيِين ما يُسوّغ الاشتغال وفْق وعيٍ محكمٍ ضامنٍ لمجرى التّحول، نحو نقدٍ معرفيّ رصين مُنشَأ فوق أرضيّةِ الإجابة على القلق المعرفيّ وأسئلته، ويأتي هذا الخطاب النّقدي (من موقع توجيهيّ) ناظرًا إلى النّقد من زاوية المعرفةِ الإدراكيّة للحركاتِ النّقدية المُنفلتَة من أتُون العلّة، ومتعالٍ بشكلٍ ينزع عنه الانحيازَ في الموقع، لبلورة تصوّر يخترقُ الإنتاج العربيّ على مستوى الخطاب النقدي من واجهتين: واجهة النقد الإبداعي، وواجهة نقد النقد.
 

لا غرو أنّ المحاولة تتنزّل في إطار جرأة فكريّة تحت أرضية إبستيمولوجية نقديّة لا تنتدِب الرّأي بشكلٍ عنيف، لكنّها تتموقَع في موضع العضُد، إسهاماً في تقييم التّجربة العربيّة بشكل ينبعُ من الأمثولة، بل إنّ الدّراسة لا تتّفق مع فعل الاستثناء الذي يُلغي الخطابات النّقدية الأخرى، بقدر ما يحضُر فعل الجذْب الذي لا يُغفَل في القراءة تماشياً مع أيديولوجيا الباحث في الانتقاء والاختيار بشكلٍ واعٍ يُبعده على رسم اللّوحات السّديميّة أو العاطفيّة الميّالة إلى الذّوات دون شرطٍ، ويظلّ هذا الدّنو متّصلا بالأعمال ذات الروح العالي في الإنصات إلى شواغل النّقد، والرّامية إلى بلورة التّجربة النقدية الأصيلة، بتوليفةٍ موسّعة بادية في الهندسة الفكريّة العربية والتّعامل مع التراث، إلى جانب دائرة التحديث وفق مساقات الإبداع والنقد. ونتنبّه في إطار الوعي الإبستيمولوجي أنّ جدوى الدّراسة تراهن على الآتي:


المعرفة مدخلاً فكرياً وإنسانياً

تتشكّل المعرفة عند الباحث بكونها تحُدث تماسّاً بالغاً في التآلف مع العالم من جهة فهمه، والتّحرر من الأيديولوجيات المشحونة بالبرديغمات، وتجاوز مستويات المحلّية المنغلقة على الذات، وافتحاص مجرى الكتابة بنسبيّة الرؤى والقضايا الكونيّة القائمة على التّغير والتّبدل والتّحيّن وفق المعطى الزّمني اللّامؤمن بالسكون والقطعية، وهذا الارتهان يمكِّن من فهم الوجود واحتماليّاته، والتّماهي مع الوجود بمُمكناته، بالتّالي جعْل المعرفة مدخلاً إنسانيّاً وفكريّاً في سياق تضافر هاته العناصر كآليات داعمة للإمساك بالمعرفة نفسها، أي بمعنى، التّقرب من الوجود، واستيعاب مساقات الانبعاث والتّشكل والامتداد.

تغترف الدراسة من رصد مبهمات المنطق العقلي في التفكير النقدي عند العرب، الذي يخلق فاصلاً يتناءى مع الوعي النّاظر إلى حياة النقد، وهذا التّشقق بشكله المعزول عن مدارات العالم المشترك يدفع بالمعرفة صوب تقييدها، وعرقلة حدود فهمها عند الناقد رشيد الخديري، بما يفرّخ أشكال التخلف عن مراتب الانعتاق من العطب الذي تُسكَن بهما الثقافة والفكر العربيين، وهنا تتبدّى الحاجة إلى صوغ النظرة التي من شأنها حجْب سوء التّقدير العربي للمعرفة، بإفناء الفهم المعزول والمسيء لنظرة الاختلاف وتجاوز الطّبقيّة الحادّة، عبر فتح معابر الانفتاح على الحداثة وتجديد الصّلة بالتراث بشكل ضامن للسيرورة العربية التي تتغذّى على المرجعي المنتج، والائتلاف مع الطّرح الغربي المسنون بشرط الحاجة الدّاعمة للمواقف والقضايا الإنسانية.

يبتغي الباحث التدليل على آلية الكتابة المقترنة بالإبداع، كوسيط هام في ترسيخ الفهم المتمخّض عن عذابات الكتابة عبر المقلق والمتخيّل، وضمان التفكير في الواقع بما هي ملاذ للتّطهر، وبما هي شكل جماليّ مثير للغواية والدّهشة في الآن ذاته، والواجب أن تزعزع الساكن وتسكن المتحرك، بشكل يضمن إعادة التمثيل واستبانة المبطن، وإعادة بناء المتناقضات، لكن باستحضار عدم تملّك الكتابة للحقيقة على الدوام.

يتشكل الأفق المعرفي للنقد في الاعتداد بالقراءة كطرح منهجي يقنن النقد ويبلوره، وتستكين هاته المعرفة الإدراكية في مساحة الهاجس الذي يرتج به كيان رشيد الخديري، لاسيما أنّ المعرفة تترسّب بالقراءة وتتعتّق بها، وعلى ضوئِها يُبنى المنطق العقلي الذي يرجّح الأفكار، ويسمح بمجاراة أنساق الكتابة وأبنيتها ومكنوناتها المضمرة والظاهرة، خصوصاً أنّ المرجعيّات تُسهِم في تثبيته بشكلٍ يهب مرتكزات الاشتغال، ولا يمكن الاطلاع عليها إلّا بالقراءة كاستراتيجية لانتداب المعرفة النقدية الممكنة من الاعتداد بالنظريات الأدبية، والسياقات الثّقافية، بما ينتج علاقة متسقة بين شرط المعرفة وآلية القراءة والغاية النقدية في سبيل فهم أمتن وأمثل للعالم.

◅ التأسيس للفكر النقدي المعرفي

في سياق العمل تتبدى طبيعة الوقوف عند الومضة الفكرية النّقدية لكن دون فصلها عن الأعطاب التي تتسرب إلى العقل العربي، عبر التّأمل في الانعطافة التّاريخية في الفعل النقدي من زاوية نقد الفكر باعتباره أكبر من النّقود النظرية وحتى التطبيقية بشقيها (الأدبي والثقافي) إبّان مرحلة زمنيّة تجذّرت بالوعي النّقدي، عبر انتداب تجارب تراهن عن الاشتغال بجماليّات البويطيقا، مع إثارة النظرة الفاحصة للتراث من منظورات منهجية أو تأويلية، بما يبرّر التنوع في التعاطي مع المعرفة، ويؤكد بالملموس التّجاذب مع خطابات وأدبيّات مغايرة برؤية تؤمن بالاختلاف.

استند الباحث رشيد الخديري وفق طرح تقويميّ في نظرته للخطاب الفكري على الناقد سعيد يقطين، باعتباره خبيراً ومطّلعاً بشكلٍ واع وأصيل على القضايا الفكريّة العربية، واستبانةِ هنّات التّعامل مع المنهج، والتي تتوزع بين النرجسية وصلاحيّة المنهج الواحد على الأعمال، إلى جانب التّجاوزات في الاشتغال على التّخصص أو إقصاء التفاعل مع السياق والوقوف عند حدّية الانفعال، وإلى جانب ذلك تحضر إشكالية التلقي في غياب الوعي المتقصّد في سياق أيديولوجي رجعيّ إبان بدايات القرن العشرين، بيد أنه في السياق نفسه تتصاعد أعمال منفتحة على الفكر الحديث لإعادة تحريك مشروع النهضة المعطّل، وهنا، يظهر حجم الحاجة إلى العودة للتراث والتفكير في الحداثة العربية، لكن، بوعيٍ منفتح على الآخر لتَتَناسب الرّؤية مع الحساسيّة الجديدة، وتتواءم مع المشترك الإنساني.

يؤمن الباحث والناقد رشيد الخديري على أنّ الدّراسات الأدبية ذات قاعدة مركزيّة ومؤسِّسة، واستمرار أسئلة التمايز والتراشق بين جدوى النظريات وترجيح أخرى تسليماً بمنطق التمركز، من شأنه تعميق جروح الأدب، بما وصفه النّاقد "بالوضع الخطير"، باعتبار السياق البنيوي لا يعدّ سوى قاعدة لما بعد البنيوية، وهذا التمايز جاء ارتباطاً بفاصل زمني لا بجدوى القطيعة، كون المابعد رهين بتجديد التفاعل مع السّياقات البديلة لتشكّل الأدب الذي هو في حاجة ضروريّة إلى فهم جديد متأصل عن واقعه، بعيداً عن الحكم الاستشراقي الجاهز، بغاية تضمن الفهم المؤهل للأدب، بما يتناسب مع النقد المعرفي المؤهل للأدب.

أما في سياق الاشتغال على الدراسات النقدية، فالباحث اغترف بعض النماذج التي تستجيب للوعي النقدي، من قبيل «الذاكرة ملاذ السرد» لعبد الخالق عمراوي، وتنبع إثره قوّة الدراسة في استجلاء المكون الذاكراتي المضاد للنسيان، والمستغور لكينونة الذّات بما هي جزء من الجماعة داخل فضاء أممي متشبّع بوقائع تسكن اللّاوعي، وأخرى لا تزال عليها المراهنة باعتباره شيئاً مُفكَّراً فيه، وفي إطار الفحص يمكن القول: إنّ الإنتاج والخطاب النقدي واع بالامتداد النّظري وقوفاً عند ما يمكن أن نصطلح عليه السرديات الاجتماعيّة، بمرجعياتها (اللسانية/ البنيوية/ التداولية) المحكومة بالتفاعل مع الزّمن والفضاء والشخصية في قالب شكليّ سيميائي، ويعدُّ هذا الرّهان الذي انفتح عليه الناقد رصينًا، يستجنِبُ المقاربات التي تؤمن بالمنهج في غير المنهجِ الصَّالح للدّراسة، وتنطلق بشكلٍ لا يحدث القطيعة، وتتفاعلُ ولا تنفعِل بشكلٍ يجعل من خلاله النّاقد العمراوي عبد الخالق طبيعة النص ملائماً لطبيعة المدخل المقترن بتحليل مفهوم الذاكرة، من زاوية السّرديات الاجتماعيّة في الدراسات الأدبية.

يتموضع الباحث الخديري في جهة التّماس مع الخطابات النقدية للنقد إسوة بالخطابات النقدية للأدب، لاسيما أنّه يقدِّم الومضات المعرفيّة في مجال تخصصها، وعلى هاته الأرضية يأتي اختراق خطابات نقد النقد المرتكزة على ضفتي التحديث والتراث.

التحديث، عبر الاستدلال بالناقد إدريس الخضراوي في كتابة «الكتابة النقدية عند محمد برادة»، ويرتهن الاختيار من زاوية نظرنا بمراكمة الناقد لتجربة نقديّة أصيلة في الاطّلاع على مختلف المنجزات النقدية العربية والغربية، ومواكبة أسئلة النظرية الأدبية وتحولاتها، وديناميته في الفضاء النقدي العربي إنتاجاً وتلقياً، وقوة الأطروحة لديه في استنطاق النصوص والخطابات بشكلٍ واقعيٍّ مختلف يؤمن بالانفتاح واختبار الجوهر، وبالتالي، يُترجَم انتقاؤه لتجربة برادة من واجهتين: واجهة الوجاهة المرتبطة بالإيجاد في الانشغال بالسوسيولوجي بما يؤمّن الانتقال من السّكوني صوب الدّينامي المتحرّك وفق الشروط التاريخية لتحولات النّظرية، فضلاً عن التأسيس لتحولات النقد المغربي واجتذابه للتّلفظات وفق القوة المنهجية البانية على "نظرية الحقل" للسوسيولوجي بيير بورديو؛ وواجهة الوجود التي تتوطن فيها ذات الناقد بين عديد التجاويف التي يتناوب فيها بين الشرق داخل قُطر النهضة العربية والغرب من جهة، وهذا الانتقال مماثل لهجرة النظرية، بل خبرها من موقع الأصل وتحقيق التثاقف الفعليّ والمثالي بشكل يبتعد كلياً عن منطق التحيّز، وبما يزكي تجربة التوافق والمصالحة مع أخطاء الماضي التي كانت تسلم بالقطيعة، وتحقيق نافلة التوازنات التي تُفرّخُ الصفات المعرفية الرصينة والمتكاملة.

التراث، يُعزى في سياق الانشغال بقراءة التجارب التراثية من وجهة المنهج الحداثي، وأيضاً من وجهة الحفر التاريخي الإبستيمولوجي، بالافتطان إلى الناقد حسن مخافي في نصه «المفهوم والمنهج في القراءات العربيه المعاصره للتراث النقدي»، وهو يعيد ترسيخ مفهوم القراءة، وكيفية النهوض بها في تلقي التراث، وتوجيه التراث نحو المساءلة وفق مرجعية حداثية واعية تُدغَم في التراث إيماناً بالتكامل المعرفي ومنطق التناسب، وتعديل النظرة المبتسرة والعطب الحداثي وفق الوعي بالتكاثف والتجانس بين مادتين تتشكل الأولى على قاعدة الإنتاج التراثي والتالية على قاعدة الاستنطاق والاختراق الحداثي، واجتراح تجربة جابر عصفور في التصور والنظرة في الممارسة النقدية العربية، وذلك عبر الاعتماد الوجيه على التأويل وفق استراتيجية ثلاثية خاضعة لأسئلة التلقي، بشكل يُبْعد عن الطّابع الأيديولوجي المغرض، والمغيّر للحقائق، والمستغرق في الانطباع، والمستعاض بثوابت الانسجام مع الدمغة الحداثية في القراءة والمساءلة. ويثار في الجهة المقابلة عن الباحث الخاديري عمق النظرة إلى التراث مع جابر عصفور في عمله «قراءة التراث النقدي»، من جهة الإنارة والتقصي والتتبع والإيغال في ثنايا التراث بشكل سبقي متفرد، أفضى إلى إثبات والإنهاء إلى عقم التّضافر، وعائق القطيعة مع المنهج في استنطاق النصوص، وبالتالي الانحسار في استثمار القاعدة النظرية، وإقصاء الوعي الجماعي والانفراد بالقراءة، وفي سياق الممارسة عند الناقد يفرد الباحث الخديري هامشاً أكبر لإثارة التعارض بين القدماء والحداثيين بما ينزع إلى طرح أسئلة اللّاجدوى بما يعمِّق من عقم مشروع النهضة.

◅ سياق الدينامية والتحول: من سرديات البنية إلى سرديّات بينية

يعد الانتقال من وضعيّة إلى أخرى استجابة حتميَّة للظُّروف التّاريخيّة والضرائر الإنسانية، البانية على التّحول والتغير والتماهي مع الواقع ومع أسئلته الإشكالية التي تُستجدُّ بشكلٍ فجائيِّ، بما يستوجب الانفتاح بجلاء على مفاهيم رهينة بدائرة الثقافة ومدار التمثيل المذيل بقضايا المجتمع ومواضعاته السياقية، ومن هنا، تتبدّى الخطابات المابعد حداثية ذات الأفق المقترن بالتّجذبات والتشظّيات وأسئلة الوجود التاريخي والسياسي والاجتماعي في الركح الإنساني البشري.

ممّا يستوقف الباحث رشيد الخديري خطاب الناقد البحريني نادر كاظم «تمثيلات الآخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط» وهو يعيد تقييم تمثلات السّود في المتخيل العربي، باهتدائه صوب نظريات الاستشراق، وإعادة بناء المفاهيم على قياس مرن (مُبيَّأ) وفق شروط طبيعة الموضوع، والاغتراف من الاستفراق توافقاً مع مطالب النص وحاجاته لاسيما أنّ "التحدي بالنسبة للنقد يكمن ليس في قراءة النصوص الأدبية باعتبارها تحققات جمالية فحسب، وإنما بوصفها أعمالاً متجذّرة في السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية"1. وتجديد النظرة إلى الخطاب الثقافي كآلية لبسط السيطرة والهيمنة، بما يجعل حيازته تكريساً للتّمركز والتّفوق، واستجنابُ تملّكه ضعفاً وخوراص، استدلالًا في ذلك من طرف الباحث على واقع السود المأساوي وحاجتهم للنّيابة بما يكرس ويضاعف التهميش، وقد أبان أيضاً في الدّراسة طبيعة تضافر نسق الإساءة الثقافية عبر المتخيل العربي في المشافهة والتدوين، وخلق مسافة تنائي بينه وبين المرجعية الدّينية، وإلصاق السود ما أسماه نادر كاظم بـ"المغايرة المركبة".

وينظر الباحث الخديري في صدد الرّد على السيطرة بالخطاب وقوته الإنشائية في توريط السود بقوة المتخيل الشعري، وإمكاناته المضادة أيضاً في إفناء النسق الثقافي، عبر الاعتداد في التمثيل بالنّماذج التراثية الفاعلة في إبطال المدّ الدنيوي في النظرة إلى الآخر، والمقاومة بالمتخيل الشعري في إذابة الأيديولوجيات بشكلٍ معاكس، وبشكلٍ يقطع دابر التّمثل السلبي الثقافي الذي يسلم بالمفترض، ويتنافى مع المرجعيات الدينية، بحثاً عن هوية تجترح الهمّ الإنساني، وتحقق التكاثف، وتخلق الانسجام الثقافي.

يشكل خطاب نادر كاظم بحثاً ثقافيّاً مقترن بالإرث التاريخي، وتشريح النسق الثقافي الذي يترسب في الهندسة الاجتماعية بشكل تاريخي ممتد ومطرد، وبالتالي فالسياق الامبريالي اعتمد ذات التوجه الذي كان معتمداً في تاريخ المرويات العربية، لاسيما أنّ الأشعار كانت معبأة بتقابل (صورة السود) عند العرب، و(الزنوج) في أمريكا، و(المستعمر في العالم الثالث)، بصفات الوحشية والهمجيّة وعدم القدرة على التعبير عن الذات، بالتالي، الحاجة إلى النيابة. وينظرُ الباحث إلى كون عمل الناقد البحريني مشدوداً إلى الجدة في استنطاق التراث، ومقاربة موضوعٍ إشكاليٍّ عميقٍ يمور في حدود العسير، بيد أنّ التَّفوق في التفاعل الهادئ والمتّئد أمْكنَه من اختراقه بشكلٍ أصيل غير متقيّد بنظريات وافدة ومبتورة من شروط النقل، وباستثمار مقاربة تأويليّة بمفاهيم تنهل من المرجعيات الأنغلوساكسونية بشكل محيّن خاضع لشرط المحيط؛ إنّهُ تفَاعلَ ولم ينفعل بحثاً عن نقد سلوك الإنسان، والبحث عن الصفات المشتركة لضمان هوية أصيلة تنطلق من الذات فتسقط على الجماعة وتشمل بعدها الأمم.

أوغل الباحث والناقد الخديري في رصد جملة من المفاهيم في الحقل الثقافي ودراساته، إلى جانب صفاته من قبيل: التّعددية والاختلاف والمهمّش والنّسوية والذّكورية؛ وأحال في الصدد على «بويطيقا الثقافة نحو نظرية شعرية في النقد الثقافي» لبشرى موسى صالح، ويبدي الباحث جودة التصور عند الناقدة في ترصّد النظرية الأدبية واجتناب الأيديولوجية لضمان مشروع ناهض، يستبعد المساجلة القائمة على الأسئلة العقيمة والتفاوض الرّيادي المفوِّت لفرص تطوير الدراسات واستهلاك الزمن، والتشديد على إلزامية القطيعة معها، وانتداب الإستراتيجيات في القراءة الواعية، بشكل دامغٍ منفتحٍ على السياقات العربية وعلى الغرب، واستبعاد التنميط الذي يستند على الثقافة الواسعة بمفهومها الشاسع، والمتْحِ من قوة الاستكشاف التأويلي والذي يتقوّى باستثمار الائتلافات بين الرفيع والشعبي بطابع يلغي الحدود وشروط التفرقة والهرمية.. عناصر انتبه إليها الناقد في استقصائه للخطاب النقدي النظري، لبناء مجتمع تنويري معرفي يستكنِه الثقافة بإشكالاتها الجوهرية، والخصوصيات المجتمعيّة، واتّقاء الصدامات المجانية والمؤدلجة، وتفادي الجاهز عبر الاعتداد بالنقد الثقافي الذي يحلّل التجارب العربية وشواغل القضايا وفق مداخل تعدّدية، في سبيل إسقاط التمثلات والتمركزات، وانتزاع عباءة المفترض.

يُشار أنّ عمل إدريس الخضراوي «سرديات الأمة تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة،» يتنزّل في هاته الحدود المعرفيّة، وهو يدرس التّمثيلات الرّوائية لفهم شواغل الأمة المحلية، لاسيما أنّ الباحث الخديري يجعل منه نموذجاً لحِقه الجرد، بل يرى أنّه "انعطافة كبرى في تاريخ النّظريات النّقدية"2. من جهة التّصور وطرائق الاشتغال، وممّا يضمن لدراسة الخضراوي هذا التّفرد مرهون بوعيه الفكري المبني على السيرورة والامتداد في تقفي أثر النّظريات دون إحداث قطيعة مع ماضيها، وفتح منافذ جديدة في تفكيك التّمثلات الرّوائية بمختلف أشكالها النّوعية، والاستناد على المحور التّاريخي المسنود على سؤال الذّاكرة والمبثوث في التمثيلات بخصوصية مغربية تنتمي للعقود الثلاثة الأخيرة، واستهداف نصوص متفردة ومحددة وعميقة وفارقة في المشهد الثقافي المغربي، والاغتراف من نصوص بشكل كثيف تنتمي للمبدع الواحد، إيماناً بإجادة كاتبها، ورصانة ناقدها الذي يتسلح بوعي معرفي يعيّن ما تتملّكه دون غيرها وفق نسق الإنتاج، ويخترقها بأصالة نابعة من نظريات ما بعد الحداثة بشكل هادئ يضمن به انتقالاً من دراسة البنية إلى الدراسة البينية، باستثمار عُدة ذات علاقة وجيهة بالدراسات الثقافية والنقد الثقافي بشكل خاص من قبيل:

(الأمة/ الجماعة/ الآخر/ التمثيل/ التعددية/ الاختلاف/ الذاكرة/ العدالة/ الأقلية/ المقاومة/ الحرية)؛ وأظهر الباحث الخديري في استقصائه مستويات حفر الناقد في مراحل تاريخية شكّلت انعطافة في تاريخ الأمة بعد سقوط الامبرياليات وتنامي الاستقلالات، والاعتداد بالهوية وتمثلاتها في سجالاتها التي تتأسّس بها وعليها، بما تضمنه الذاكرة في بناء معمارها وتشكيلها، ونقصد، ذاكرة (الفرد/ الجماعة/ الأمة/ المنسي)؛ وبشكل متمرس وثائر معرفيّاً في ظل انتفاء الحاجة للمنهج، وانتداب نظرية الحقل بمتانة في استنطاق مضمر النص، وفق جماليات الثقافة، لاستكشاف هموم الأمة عبر المتخيل، واستجلاء تجريب الرواية وتحولاتها، وتسويغ مشاغل المجتمع المستعادة بتصويغ يراهن على الذاكرة التّاريخية في المتخيل.

◅ تذييل لا بد منه

اضطلعت الدراسة في مركّباتها على نظرة التعدد والتنوع بشكل يستجنِبُ التّموقع في جهة الانتصار لطرحٍ دون آخر، وراهَنَتْ على رصْد ما يستمنِعُ التّقدم المعرفيّ، إلى جانب سرد مواطن الإجادة الفارقة في النَّهضة المعرفية، وأمْعَنتْ في ترصُّد التُّراث ولم تتجرَّد من الحداثة والأفق المابعدي، وأوغَلتْ في دراسات البنية والدِّراسات البينية بشكلٍ متكافئ يؤمِن بالتّكامل لا القطيعة، وتقفّتْ الأطر العامة للخطابات النقدية بشكل مضبوط ومتّئد. إنَّ الدِّراسة تتنزَّل في مدار المعقولية، وتنتدِب في عمقها خطاباتٍ أصيلة واعية انتقاها الدَّارس بالنّظر لوجاهتها، دون إلغاء تعدّد مثيلاتها، وانفتحَ على الإنساني والمشترك في التأصيل المعرفي للنقد بمعرفته للنّقد.


الهوامش: 1. إدريس الخضراوي، سرديات الأمة تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة، ط1 (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2017)، ص: 25. | 2. رشيد الخديري، المعرفة من منظور نقدي، ط1 (الإمارات: دائرة الثقافة، 2022)، ص: 152.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها