في ركن قصي من الخارطة الأدبية، وفي قلب أوروبا الوسطى التي طالما كانت مهدًا للفلسفة والأدب السوداوي، يبرز اسم لاسلو كراسناهوركاي László Krasznahorkai، الروائي المجريّ الذي لم يكتفِ بإبهار النقاد ومحبي الأدب بلغةٍ ضئيلةٍ في حجم المتحدثين بها، بل استحقّ عن جدارة جائزة نوبل في الآداب عام 2025. إنه كاتبٌ يتحدى التصنيفات، ويصعّب على القارئ مهمة النسيان، ويصوّر "كارثة" الوجود البشري ببراعةٍ فلسفية تليق بالحداثة وما بعد الحداثة، لكن بمرارة تُنبئ بزمنٍ مظلم.
لقد انطلق كراسناهوركاري من بيئة لا تكاد تتحدث لغتها على نطاق واسع، وهي اللغة الهنغارية (المجرية)، تلك اللغة التي أشار إليها بفخرٍ وسعادة غامرين بعد فوزه بجائزة نوبل بأنها: "اللغة الهنغارية، هذه اللغة الصغيرة الضئيلة". هذا الإقرار يُضفي على إنجازه بعداً أعمق، حيث يثبت أن الأدب الحقيقي لا يعترف بحدود الجغرافيا أو عدد المتحدثين، بل بقوة الرؤية وعمق الصدق. إن انطلاقته من هذه "اللغة الصغيرة" إلى مصاف العالمية، ووصوله إلى جائزة نوبل مروراً بـ جائزة مان بوكر الدولية عام 2015، التي كانت نقطة تحول حاسمة، حيث مُنح البوكر عن مجمل أعماله. أشادت لجنة التحكيم بـ "جمله الاستثنائية"، ووصفت رئيسة اللجنة، مارينا وارنر، كراسناهوركاري بأنه: "كاتباً صاحب رؤية، ذا شدة استثنائية ونطاق صوتي واسع، يلتقط نسيج الوجود في يومنا هذا في مشاهد مرعبة، غريبة، مضحكة بشكل فظيع، وغالباً ما تكون جميلة على نحو ساحق". إن هذا التكريم لم يكن اعترافاً بالثيمات فحسب، بل كان إقراراً بتقنية الكتابة الصعبة كقيمة جمالية عليا.
✧ العُمْق الفلسفي والمرارة كمصدر إلهام ✧
إنّ أدب كراسناهوركاري ليس تسلية، بل هو مواجهة وجودية عميقة، ينتمي بوضوح إلى مدرسة الرواية الفلسفية، ووُصف بأنه "صوفيّ جديد بلا إله" يبحث عن "ألوهية ما بعد الحداثة" في الانسجام مع "العالم الرهيب ومخلوقاته". إنّه سليلٌ لتقاليد الحداثة الأوروبية الكبرى، يزاوج بين العبث الكافكوي وواقعية ماركيز السحرية وكآبة بولغاكوف.
تتجاوز رؤية كراسناهوركاري حدود السرد الاجتماعي إلى التأمل الفلسفي العميق في طبيعة الوجود الإنساني. إن الهم الوجودي في أدبه يتمحور حول عجز الإنسان عن التوقف عن التفكير الوسواسي بالخراب، ولكنه في الوقت ذاته يبحث عن بصيص جمالي أو معرفي يبرر استمرار الكفاح.
ويكشف حواره الأول بعد الفوز بنوبل عن القلب النابض لفلسفته الأدبية. عندما سألته "جانيان" ممثلة جائزة نوبل عن شعوره، أجاب الروائي المجري بمرارة متجذرة: "أظن أن هذا أكثر من كارثة. هل تتذكرين رد فعل صموئيل بيكيت بعد فوزه بنوبل؟ "يا لها من كارثة". ولهذا قلت لك أولاً إن هذا أكثر من كارثة.. إنها سعادة وفخر".
وعندما سُئل عن أهم مصادر إلهامه، جاءت إجابته كاشفة ومؤلمة: "المرارة. أشعر بحزن عميق عندما أفكر في حالة العالم الآن. وهذا هو أعمق مصدر إلهام لي: الإنسان في الوقت الحالي أو حتى الآن".
هذه المرارة ليست مجرد حالة نفسية، بل هي موقف وجودي يُترجم في رواياته إلى عوالم مكتملة من الخراب والانحلال. هي الوقود الذي يحرك شخوصه المضطربة، ويدفعهم نحو البحث عن معنى في زمن فقد فيه كل شيء معناه.

✧ أعمالٌ كبرى في سجلّ الخراب ✧
يمتلك كراسناهوركاري في رصيده عددًا محدودًا من الروايات، ولكنه يفضل الرواية الطويلة على القصة القصيرة، وقد تُرجِمت أهم أعماله إلى اللغة العربية بترجمة الحارث النبهان، وهي روايتاه الأبرز "تانغو الخراب" و"كآبة المقاومة".
1. تانغو الخراب: رقصة الانحلال
تُعد رواية "تانغو الخراب" هي العمل الذي رسخ مكانة لاسلو كراسناهوركاري عالميًا، وأُدرجت ضمن قائمة أهم روايات ما بعد الحداثة. تقع الرواية في جزأين رئيسيين، وتدور أحداثها في قرية مجرية نائية، وهي مزرعة تُدعى "مزرعة هو تشميس"، تُمثّل العالم المصغر الذي وصل إلى نقطة النهاية، حيث يعيش سكّانه في حالة من التفسخ الأخلاقي واليأس المطلق.
تُفتتح الرواية بـ"أنباء عن قدومهما"، وهما "إرمياس" و"بيترينا"، الشخصيتان اللتان تبعثان الأمل الكاذب وتُعجّلان بالدمار. ويُصوّر الكاتب الأجواء البائسة للقرية ببراعة مُذهلة، حيث تبدأ الأجراس "الشبحية" بالقرع لتُنبئ بقدوم النهاية. إنّ لغة الرواية ثقيلة ومحشوة بالتفاصيل، وكأنها تحاول الإمساك بآخر خيوط الواقع المتلاشي. يُصوّر الكاتبُ العالم كـ"زوبعة" من المصادفات والخيانات التي لا يمكن التنبؤ بها، حيث يغرق الأبطال في طين المزرعة الممتدّ ليُصبح رمزاً للطين الوجودي الذي يغرق فيه البشر.
يقول إرمياس، في أحد الحوارات، مُلخّصاً وضعهم الوجودي: "نحن غارقان في الخراء يا صديقي. ولا نستطيع أن نفعل شيئاً في هذا الشأن، إلى حين علينا البقاء معهم".
ويصف رفيق إرمياس "بيترينا" العالم بلغة لا تخلو من اليأس الممزوج بالبذاءة التي تُعبّر عن انهيار كل المقدسات: "سننسفهم كلهم. سننسفهم واحداً بعد الآخر. سنفعله كما ينبغي، كل شيء وفق الترتيب الصحيح.. المدن كلها واحدة بعد الأخرى! والقرى. حتى أبعد كوخ"!
إنّ هذا الانحلال هو "تانغو الخراب"، رقصة متناغمة نحو الفناء، تُبرز فيها براعة كراسناهوركاري في بناء الجمل الطويلة والمُركّبة التي تعكس حالة اللايقين وعدم القدرة على الإمساك باللحظة.
2. كآبة المقاومة: أزمة النظام
تُعتبر "كآبة المقاومة" عملًا لا يقلّ أهمية عن سابقه، وهي رواية أشار إليها النقاد بكونها تتضمن موتيفات "شيطانية" مشابهة لما في "تانغو الخراب". تدور أحداث الرواية في مدينة مجرية أخرى تعيش تحت وطأة نظام متداعٍ وفوضى مُقتربة. الشخصية المحورية هنا هي "السيدة بلوف"، التي تُصارع الانهيار الأخلاقي والاجتماعي المحيط بها، وتتمسّك بـ"جزيرة وجودها الصغيرة" المتمثلة في بيتها المُرتّب وأزهارها المعتنى بها.
يصف الكاتب حالة الانحلال في بداية الرواية، مُقدّماً تشخيصاً كونياً للفوضى: "صارت التوقعات الطبيعية العادية كلها موضع تجاهل، وتعطلت عادات المرء اليومية في ظل مناخ من الفوضى المضنية المنتشرة في كل حدب وصوب، تلك الفوضى التي جعلت المستقبل أمراً يصعب توقعه، وجعلت الماضي أمراً يصعب تذكره، وجعلت الحياة العادية منعدمة النظام".
تبرز في هذه الرواية شخصية "فالوسكا"، الشاب الذي يعتبره الجميع "أبله"، لكنه يُصبح شاهداً على الخراب، و"ملاكًا حارسًا" للبروفيسور إيزتر، ذلك العقل المفكّر الذي يقرر "الاعتكاف في فراشه ومحاربة الضجر" بعيداً عن "هجمات البلاهة الطاحنة". وتصل الرواية إلى ذروتها بوصول سيرك يعرض حوتاً عملاقاً، ليتحول هذا الحدث إلى رمزٍ للفوضى والغرابة التي تجتاح المدينة.
وفي تصويره لكآبة إيزتر وفالوسكا، اقتطف من داخل الرواية وصفاً لفالوسكا: "كان يسير بمشيته المتعثرة، وحقيبة البريد التي لا تفارقه أبدًا معلقة على جسده النحيل.. يسير مشيته المتعثرة.. حاملاً حقيبته التي صارت كأنها شيء عضوي نام عند جنبه".
إنّ "كآبة المقاومة" هي كآبة العقل الذي يرى العالم ينهار حوله، وكآبة الأبرياء الذين يُسحقون تحت أقدام قوى لا تُبالي، مُجسّدين مأساة الإنسان في مواجهة القدر المحتوم.
✧ الأسلوب والمدرسة الأدبية: ما بعد الحداثة الكئيبة ✧
يُصنّف لاسلو كراسناهوركاري ضمن أبرز روّاد أدب ما بعد الحداثة، مع خصوصية تفرده:
الجملة الطويلة والموسيقية: أشهر ما يُميّز أسلوبه هو استخدامه للجمل التي تمتدّ على صفحات كاملة، وهي جملٌ مُكتظة بالتفاصيل والموتيفات التي تتداخل وتتكرر، وكأنها موجةٌ لا تتوقف، تعكس حالة الوعي المضطرب وشعور الرغبة في الإمساك بالزمن قبل انحلاله. يُمكن وصفها بأنها ذات إيقاع موسيقي بطيء وثقيل.
الوحدة والمصير المحتوم: تشترك رواياته في تقديم عالم مغلق ومحكوم عليه بالخراب، حيث لا يملك الأبطال، مهما حاولوا، سلطة على مصيرهم. الوجود يُصوّر كأنه "علبة" مغلقة.
الموتيفات السريالية والواقعية السحرية: يمزج كراسناهوركاري ببراعة بين الوصف الواقعي الدقيق للتفاصيل اليومية الكئيبة، وبين موتيفات سريالية وغرائبية (كالحوت العملاق في السيرك، والأجراس الشبحية).

✧ النصر بلغة "صغيرة" ✧
إن فوز لاسلو كراسناهوركاري بجائزة نوبل في الآداب عام 2025 هو تتويجٌ لمسيرة كاتبٍ آمنَ بقوة أدبه، واستمدّ "القوة لاستخدام لغته الأصلية، اللغة الهنغارية"، مُقدماً للعالم رؤية صادقة ومريرة لـ"الحياة بدون خيال"، مُذكّراً بأنّ قراءة الكتب تمنحنا "قوة أكبر للبقاء على قيد الحياة في هذا الوقت الصعب جداً على الأرض". إنّ أدبه هو انتصارٌ للمرارة كـ"أعمق مصادر الإلهام"، وإثباتٌ على أن النصر الأدبي لا يُقاس بالانتشار، بل بالعمق الذي يتركه السارد في وعي قرائه، مهما كان صوت لغته "صغيراً ضئيلاً". إن أدب لاسلو كراسناهوركاري هو فنُّ التعبير عن الضياع بنظام، ونسجُ المرارة بلغةٍ بالغة الجمال، ونصرٌ للغة "الصغيرة" التي أثبتت أنها تستطيع أن تروي بملحمية مصير العالم كله.
ولقد كان كراسناهوركاري، الذي يكتب بلغة صعبة وغريبة على الأذن الأجنبية، واعياً تماماً بالصعوبات التي تواجه اسمه ولغته في العالم. وفي سخرية عميقة، أشار إلى أن الناس يخطئون في نطق اسمه، فيسمونه أحياناً "كلاشنيكوف"؛ ويعلق مازحاً: "قولوا لهم لا توجد رصاصة في هذا الكلاشنيكوف. إن رصاصي أدبي لا غير". هذا التصريح يكثف فلسفته: فاللغة المجرية، الصعبة والمحدودة الانتشار، هي سلاحه الوحيد، وهو سلاح يُطلق السرد الفلسفي بدلاً من العنف المادي، مؤكداً أن الكاتب، حتى لو بدأ من قرية صغيرة بلغة لا يتحدثها إلا القليلون، يمكن أن يصبح صوتاً ملحمياً للحالة الإنسانية.
المصادر والمراجع:
◅ Nobel Prize. (2025). First reactions | László Krasznahorkai، Nobel Prize in Literature 2025 | Telephone interview. [Video]. YouTube
◅ "A Théseus-általános" (Theseus Universal) من World Literature Today، #1، 69، pages 192-193، 1995
◄ كآبة المقاومة: Krasznahorkai، L. (2015). كآبة المقاومة (الْحَارِث النَّبْهَان، Trans.). دار التنوير.
◄ تانغو الخراب: Krasznahorkai، L. (2016). تانغو الخراب (الْحَارِث النَّبْهَان، Trans.). دار التنوير.